"بوكو حرام" من السنة والدعوة.. إلى الإرهاب والاختطاف
أعلنت السلطات المحلية النيجيرية، مساء الاثنين الماضي، أن مسلحين هاجموا قرية مونيا في وسط البلاد، ما أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص على الأقل، واختطاف نحوا من مئة وخمسين آخرين.
وتحدث عمليات الخطف الجماعي بهدف الحصول على فدية، وتتركز في ولايات شمالي غربي ووسط وشمالي شرقي نيجيريا، إذ تستهدف العصابات المدججة بالسلاح القرى المعزولة لنهب السكان واختطافهم.
وغالبا ما يكون المسئول عن تلك العمليات، جماعة "بوكو حرام" وتنظيم "داعش-غرب أفريقيا" (Iswap).
كان الجيش النيجيري قد أعلن مساء الاثنين 21 مايو، إنقاذ مئات الرهائن، معظمهم من الأطفال والنساء، من أيدي مسلحي تنظيم "بوكو حرام"، والذين احتجزوا منذ عدة أشهر أو سنوات شمال شرقي البلاد.
وذكر الجيش النيجيري أنه أنقذ الرهائن "خلال عملية عسكرية استمرت عدة أيام في غابة سامبيسا، التي تمتد على طول الحدود مع الكاميرون والنيجر".
الانطلاقة والتأسيس الأول
تأسست النواة الأولى لجماعة بوكو حرام عام 1995، في شمال نيجيريا كمنظمة دينية توعوية تحت مسمى "منظمة الشباب المسلمين" على يد شاب "هوساوي" يُدعى ملام لاوال.. وبعد مرور عدة سنوات أعيد تأسيسها رسميا في يناير 2002، بقيادة شخص يُدعى محمد يوسف باسم "جماعة أهل السنَّة للدعوة والجهاد" واتخذت من مسجد ابن تيمية المشهور مقرا لها في مدينة مايدوغوري عاصمة ولاية بورنو شمال شرق نيجيريا، غير أّن الوجود الفعلي للحركة بدأ خلال العام 2004، بعد أن انتقلت إلى ولاية يوبي على الحدود مع دولة النيجر، حيث بدأت عملياتها المسلحة.
وقد ظهرت هذه الجماعة مع تأسيس مجموعة من الشباب النيجيري المسلم لتنظيم حركي يهدف لمناهضة التوجه نحو التعليم العلماني الغربي بحجة أّنه المسئول عن حالة الأوضاع المتردية في البلاد، إذ أن أصحاب المناصب العليا على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والقبلية معظمهم فاسدون، وهم من نتاج هذا التعليم الغربي "المتعلمن". ومن هنا جاءت تسمية الجماعة "بوكو حرام" وتعني "منع التعليم الغربي". وقد دعت الحركة إلى العمل بكل قوة وعبر كافة الوسائل لمنع انتشار هذا التعليم ووقف محاولات فرضه على أبناء المسلمين.
لاقت الجماعة استجابة سريعة، وانضم لها الكثيرون؛ بسبب التهميش الاقتصادي للمسلمين، وتركُّز الثروة بين أعضاء النخبة السياسية الصغيرة، وفي ولايات الجنوب ذات الاغلبية غير المُسلمة.
ظروف موضوعية أنتجت "بوكو حرام"
يرى الدكتور الخضر عبد الباقي محمد مدير المركز النيجيري للبحوث العربية أن هناك عوامل عديدة أدت إلى ظهور الجماعة المُسلحة منها: فشل حركة الإسلام السياسي في تقديم البديل الناجح لمشكلات التنمية، في ظل عدم وجود "مؤسسة إسلامية ذات مرجعية علمية معتبرة تأخذ على عاتقها تكوين الأطر والكوادر العلمية العاملة في مجال الساحة السياسية الإفريقية، خاصة ظاهرة تطبيق الشريعة الإسلامية في نيجيريا، إذ رأت فصــائل وجماعات إسلامية عدة من الشباب بعد مضي عقد على اعتماد الشريعة الإسلامية في أكثر من اثنتي عشرة ولاية في مناطق شمال نيجيريا أنها مجرد شعــار اتخذ بوصفه ورقة ضغط استخدمت لتحقيـــق مكاسب سياسية وجهوية وشخصية".
ويرى الخضر أن التوتر واضطراب العلاقات بين الجماعات الدينية الإسلامية (صوفية وسلفية وسنية وشيعية) كان أحد أهم هذه العوامل، بالإضافة إلى الوضع السياسي المتأزم في البلاد، حيث تشهد الأوضاع السياسية حالة من الاضطراب والتوتر على خلفيات وأسباب حزبية، ناهيك عن سوء إدارة التعددية القبلية والجهوية والإثنية التي تتسم بها نيجيريا، مما سّهل على المستغلين استخدامها وتوظيفها في ظروف ومراحل مختلفة.
ويعتبر الصراع المحموم بين المسلمين والمسيحيين، عاملا آخر يلهب حماس العناصر المتشــددة من التنظيمـــــــات الشبابية، ويزكي نيران العنف المسلّح.. هذا الصراع الذي أنتجه الظلم الذي تعانيه الأغلبية المُسلمة ويتمثل في الحرمان من التعليم والاقتصار على تلقي الثقافة الإسلامية واللغة العربية، ومصادرة أموال أثرياء المسلمين بهدف إضعافهم اقتصاديا.. إذ يعاني ثلث السكان من الجوع، ولا يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في نيجيريا 300 دولار أميركي، وتقدر تقارير البنك الدولي عدد من يعيشون على دولار واحد في اليوم بنحو 80 ٪ من السكان، بمعنى أن عدد الفقراء يفوق 100 مليون شخص.
كما مثّل هدم عدد من المساجد وإقامة كنائس على أنقاضها بدعاوى وحجج التنظيم، والتسهيلات الإدارية والإمدادات الهائلة للنشاطات التنصيرية في مقابل التضييق على الجمعيات الإسلامية الخيرية - مبررا للجماعة لممارسة العنف المسلح بوصفه واجبا دينيا مقدسا.
وكان التعامل غير الحصيف من السلطات الاتحادية؛ أحد أهم العوامل التي ساهمت في انتشار "بوكو حرام" وقوة شوكتها، إذ بدأت الشرطة النيجرية في التحري عن الجماعة في يوليو 2009، بعد تقارير أفادت بقيام الجماعة بتسليح نفسها، وألقي القبض على عدد من قادة الجماعة في باوتشي، على رأسهم المؤسس محمد يوسف الذي توفي أثناء اعتقاله في ظروف غامضة، ما أدى إلى اشتعال اشتباكات مميتة بين قوات الأمن النيجيري والجماعة، وقُدِّر عدد الضحايا بحوالي مئة وخمسين قتيلا.. كما تداولت وسائل إعلام في فبراير 2010، صور مذبحة جماعية ارتكبتها قوات الجيش والشرطة بحق أشخاص مدنيين قيل أنهم من أعضاء بوكو حرام.
تحول استراتيجي بعد تولي شيكاو
في كتابه "بوكو حرام.. تحديات أمنية وتمرد متصاعد" يشير د. أونا إخومو، إلى أن يوسف كان "ذو حُنكة وشخصية متميِّزة، ومنتمٍ إلى طائفة سلفية، وكان على علم وثقافة جيدة، بوَّأته مكانة اجتماعية رفيعة، ويُتقن اللغة الإنجليزية، ويتحدَّث بها بطلاقة. إلا أنه زرع بذورَ العنف الفكري في قيادته للحركة، وهيَّأ هيكلها التنظيمي للإرهاب".
بعد مقتل محمد يوسف تولى أبو بكر شيكاو قيادة الحركة.. كان شيكاو على خلاف يوسف؛ إذ لم يتلقَّ أيَّ تعليم رسمي، ولا يعرف الإنجليزية.. وكغيره من الأطفال الفقراء انتقل إلى مايدوجوري في أواخر السبعينيَّات من القرن الماضي؛ بحثا عن المعرفة الإسلامية والطعام معًا، حيث التحقَ بمعلِّم محلِّي لتلقِّي علوم الشريعة. بات شيكاو مثالا حيًّا للمغالاة والتطرف، وجعل بوكو حرام أشدَّ فتكا وإرهابا.. حتّى صُنّفت عام 2010، من قبِل مؤشر الإرهاب العالمي بالأكثر دموية في العالم، بعد ضلوعها في قتل أكثر من 30 ألف شخص، وتشريد 2.3 مليون مواطن، كما ساهمت من خلال أنشطتها الإرهابية في أزمات الغذاء الإقليمية والمجاعات.
وفي سبيل توفير الأموال اللازمة لتحقيق أهداف الجماعة اعتمد شيكاو عددا من الأنشطة، منها التجارة والأنشطة المربحة، واستغلال المنظَّمات غير الحكومية، والجمعيات الخيرية، والتبرُّعات، وتهريب الأسلحة والأصول والعُملات.. كما اتهمت الجماعة بالضلوع في تجارة وتهريب المخدِّرات.
وتزامنا مع صعود "تنظيم الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا عام 2014، توسعت الجماعة، واجتاحت بلدات في نيجيريا سعيا لتأسيس دولة "الخلافة الإسلامية" في المنطقة. وفي نفس العام، اختطفت الجماعة مئات الفتيات من مدرسة في بلدة تشيبوك، بولاية بورنو؛ الأمر الذي نال اهتماما عالميا واسعا، وأعلنت الولايات المتحدة شيكاو "إرهابيا عالميا" مطلوبا، ورصدت مكافأة بقيمة سبعة ملايين دولار؛ لمن يدلي بمعلومات تساعد في إلقاء القبض عليه.
وفي عام 2015، أعلنت الجماعة مبايعتها لتنظيم الدولة الإسلامية؛ إلا أن التنظيم لم يبد ترجيبا بذلك، ثم اشتد الخلاف بين شيكاو وأبي مصعب البرناوي؛ نجل محمد يوسف؛ إلى أن انشق أبو مصعب عن الجماعة؛ مؤسسا التنظيم الذي بات يُعرف باسم "الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا".
وفي السابع من يونيو عام 2021، أعلن عن مقتل شيكاو - دون تأكيد النبأ- حيث طُرِدَ من عناصر تنتمي لتنظيم الدولة في غابة سامبيسا؛ وفضل أن يُفجّر نفسه بعبوة ناسفة؛ على أن يقع في أيدي أعدائه.
وقد سعت السلطات النيجيرية مؤخرا إلى تهدئة الأوضاع في الولايات الشمالية، بإصدار قرارات بالعفو عن الشباب الذين انضموا لبوكو حرام، وأجروا مراجعات فكرية أثناء فترات اعتقالهم؛ إلا أن الفسادُ والقمع والإفقار والتهميش والأمراض المجتمعية الأخرى وكل أسباب النقمة والسخط التي أوجدت بوكو حرام وحالة التعاطف الشعبي معها ما تزال باقية.