«السلفية المحتسبة».. حكاية جماعة استباحت احتلال الكعبة وقتل المصلين
مع صعود الحجاج على جبل عرفات وممارسة الشعائر المقدسة ما بين الحرم المكي والنبوي، والانتقال ما بين مني والمزدلفة ورمي الجمرات، وغير ذلك من الشعائر التي تهفو لها قلوب المسلمين… في هذه الأجواء الإيمانية، ربما نستذكر إحدى الجماعات السياسية الدينية التي ارتبط تاريخها بالحرم المكي والكعبة المشرفة حيث قادها فكرها المنحرف إلي الهجوم على الحرم والسيطرة عليه بشكل كامل واحتجاز المصلين وضيوف الرحمن كرهائن وقتل وإصابة العديد منهم من أجل تحقيق أهدافهم السياسية.
الحركة السلفية المحتسبة
في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ظهرت في المملكة العربية السعودية حركة دينية متشددة أطلقت على نفسها اسم الحركة السلفية المحتسبة كانت تهدف وفق مزاعمها إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل صارم وتعارض التحديث والعلمانية.
كانت الجماعة التي كانت معروفة أيضا باسم جماعة أهل الحديث أو جماعة جهيمان، تتبنى الفكر السلفي، مع التركيز على الدعوة إلى "الاحتساب" ومحاربة البدع والمنكرات واشتهرت بآرائها المتشددة تجاه المجتمع، معتقدين بانتشار الفساد والضلال، وأن الساعة على وشك الظهور.
زعيم الحركة كان يسمي جهيمان العتيبي، وهو شاب سعودي اختلفت حوله الأقاويل فهناك من يصفه بأنه كان داعية سلفيا انخرط في التعليم الديني منذ صغره، ودرس في المدينة المنورة والتحق بالجامعة الإسلامية هناك، وتعمق في العلوم الشرعية والفكر السلفي.
في حين تحدثت مصادر أخرى بأنه لم يعرف عن جهيمان أنه التحق بتعليم نظامي والروايات المتعلقة بهذا الشأن غير مؤكدة، ولم يثبت أنه تلقى تعليما جامعيا دينيا نظاميا في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بل تحدث البعض بأن جهيمان غادر مقاعد الدراسة وهو في الصف الرابع الابتدائي.
في كل الأحوال، انحرف جهيمان نحو التطرف حيث أسس الجماعة مع مجموعة من أتباعه وزملائه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان من أبرز هؤلاء محمد بن عبد الله القحطاني الذي كان يروج أنه المهدي المنتظر.
الأيديولوجية والأفكار
وفق التقارير فإن الأيديولوجية الأساسية للحركة السلفية المحتسبة كانت تعتمد على تفسير صارم للشريعة الإسلامية، حيث يعتقدون أن الحكومات الإسلامية، بما في ذلك الحكومة السعودية، قد انحرفت عن الإسلام الصحيح.
وكانت أفكار الجماعة تهدف إلي العودة لما وصفوه بـ "الإسلام الأصلي وتعاليم الدين" كما كانت في عهد النبي محمد والصحابة، ورفض أي بدعة أو تفسير حديث للدين ومعارضة شديدة لأي شكل من أشكال التحديث أو التغريب، بما في ذلك التعليم الحديث، التكنولوجيات الجديدة، والانفتاح على الثقافات الغربية بجانب المطالبة بتطبيق صارم للشريعة الإسلامية في جميع جوانب الحياة، ورفض القوانين الوضعية التي يرون أنها تتعارض مع الإسلام.
كانت الحركة ترى تكفير الحكومات الإسلامية التي لا تطبق الشريعة بشكل كامل، واعتبارها حكومات غير شرعية يجب الإطاحة بها.
ما قبل الهجوم
في هجومها على الكعبة، بررت الحركة السلفية المحتسبة لنفسها الهجوم على بيت الله الحرام بمجموعة من المبررات الدينية والسياسية، أهمها إعلان المهدي المنتظر حيث اعتقد جهيمان وأتباعه أن محمد بن عبد الله القحطاني "أحد قيادات الجماعة" هو المهدي المنتظر الذي سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا ولجأت الحركة إلي استغلال الرمزية الدينية للحرم المكي كرمز مقدس يجذب انتباه المسلمين حول العالم إلى دعوتهم ومطالبهم.
كما كان الهجوم ضمن الاعتراض على سياسات الحكومة السعودية ورفض سياستها التي اعتبروها منحرفة عن الإسلام، بما في ذلك التحديث والانفتاح على الغرب.
بداية الهجوم
مع بزوغ فجر غرة محرم من عام 1400 هجري الموافق 20 نوفمبر 1979 دخل جهيمان وجماعته المسجد الحرام في مكة المكرمة لأداء صلاة الفجر يحملون نعوشا، وأوهموا حراس المسجد الحرام أنها نعوش لموتى سيصلون عليها صلاة الميت في الحرم بعد صلاة الفجر، والحقيقة أن هذه النعوش كانت توابيت خزنوا داخلها أسلحة نارية وذخائر.
وما أن انفضت صلاة الفجر حتى قام جهيمان وصهره أمام المصلين في المسجد الحرام ليعلنوا للناس نبأ "ظهور المهدي المنتظر"، وفراره من "أعداء الله" واعتصامه في المسجد الحرام، ثم قدم جهيمان إلى المصلين صهره محمد بن عبد الله القحطاني باعتباره "المهدي المنتظر" ومجدد هذا الدين.
وقام جهيمان وأتباعه وكانوا قرابة مائتي رجل بمبايعة "المهدي المنتظر" وطلبوا من جموع المصلين مبايعته، وأوصدوا أبواب المسجد الحرام فوجد المصلون أنفسهم محاصرين داخل المسجد الحرام، وفي نفس الوقت كانت هناك مجموعات أخرى من جماعة جهيمان تقوم بتوزيع منشورات ورسائل وكتيبات كان جهيمان قد كتبها.
احتجز جهيمان وجماعته كل من كان داخل الحرم بمن فيهم النساء والأطفال ثلاثة أيام، أخلوا بعدها سبيل النساء والأطفال وبقي عدد من المحتجزين داخل المسجد لمدة أسبوعين حيث حاولت الحكومة في البداية إنهاء الأمر بالتفاوض وديا مع المسلحين بدعوتهم إلى وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين والاستسلام والخروج من الحرم إلا أنهم رفضوا.
فعطلت الصلاة والمناسك في البيت الحرام وتبادل الطرفان إطلاق النيران وتدخلت قوات الحكومة السعودية معززة بقوات "الكوماندوز"، في هجوم استخدمت فيه تقنيات عسكرية جديدة لم يعهدها جهيمان وأتباعه، فسقط منهم عدد من القتلى من بينهم صهره، وشكل مقتله صدمة كبيرة لأتباع جهيمان الذين اعتقدوا أنه المهدي المنظر وأنه لا يموت، فبدؤوا في الانهيار والاستسلام تباعا، واستسلم جهيمان أيضا.
وفي 9 يناير 1980 تم تنفيذ حكم الإعدام حدا بالسيف فيمن تمت إدانتهم في هذه الواقعة حسب أحكام القضاء الشرعي السعودي، حيث أعدم 61 مدانا في مقدمتهم جهيمان العتيبي وسجن 19 آخرون.
كان من أبرز تداعيات الهجوم تشديد الإجراءات الأمنية وتعزيز الرقابة على الحركات الدينية المتشددة داخل المملكة، فضلا عن تنفيذ عملية إصلاح داخل المؤسسة الدينية لضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث.