عبدالوهاب المسيري.. "ماركسي" على سنة الله ورسوله
الخميس السابع عشر من يناير 2008، مصر على صفيح ساخن بسبب الغلاء الفاحش، وممارسات النظام السياسي القمعي، في ذكرى انتفاضة الخبز 1977، ينتفض المصريون مجددا على أمل التغيير.
ظهيرة شتوية باردة تظهر شمسها على استحياء مرسلة أشعتها الواهنة التي لا تحمل من الدفء ما يكفي لدفع الدماء في عروق الشيخ المتدثر بمعطفه، في قلب ميدان السيدة زينب، كان عدد من الشباب يصرخ بالهتاف.. بدا عددهم قليلا قياسا بأفراد الشرطة الذين ملئوا الميدان بملابسهم الرسمية، وفي الزي المدني أيضا.
مع سخونة الهتاف تنضم إلى المتظاهرين أعداد أخرى من أبناء الحي العريق تأثروا بتلك الكلمات التي تدين رفع الأسعار وتكدير حياة البسطاء بتحميلهم تبعة السياسات الاقتصادية الفاشلة للنظام، مُذكِّرة بانتفاضة الخبز التي خرج فيها المصريون قبل أكثر من ثلاثين سنة، في تلك الأثناء ومع تعالي أصوات الهتافات تصدر الأوامر لبعض رجال الأمن من أصحاب الزي المدني باختطاف الشيخ وآخرين والذهاب بهم بعيدا من أجل أن يتفرق المتظاهرون الذين بدأت أعدادهم في التزايد بشكل ملحوظ.
انطلقت السيارة بالمختطفين في طريق صحراوي لمدة ساعتين ثم تركتهم على قارعة الطريق في جو قارس البرودة دون مراعاة لتقدم سن الشيخ وتدهور حالته الصحية.. تقف إحدى الحافلات لتقل الشيخ إلى منزله بمصر الجديدة.. بينما كانت أفكاره تتصارع شوقا لمصر الجديدة التي طال انتظارها.
المسيري المثقف العضوي والمفكر الملتزم
كان لظهور المفكر عبدالوهاب المسيري في الفعاليات الاحتجاجية، وهو العالم الموسوعي صاحب المؤلفات القيمة- أكبر الأثر في بث روح الأمل في نفوس أحبطها الاستبداد وتوحش الفساد واستشراؤه في كل مؤسسات الدولة؛ لكن المسيري الذي كان يرى أن" المثقف الحقيقي مكانه الشارع، وليس أي مكان آخر" نجح في صياغة مفهوم جديد للمقاومة يعتمد على إزعاج المستبد وإقلاق راحته، بكل سلاح ممكن حتى "النكتة".. فعندما منعت السلطات ندوة له عن "النكتة" السياسية ودورها في مقاومة الاستبداد، أصر المسيري أن تعقد الندوة في الشارع على الرصيف، ويحكي أنها كانت" أروع ندوة شهدها في حياته".
التحق المسيري بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية عقب حركة الجيش في يوليو1952، بنحو ثلاث سنوات، وكانت فترة الدراسة الجامعية فترة اشتباك مع العديد من الأفكار.. يقول المسيري عن نفسه في تلك الفترة: "... وبما أنني كنت ثائرا ضد الظلم الاجتماعي، كان من الحتمي تقريبا أن أتوجه للماركسية".
ويضيف " وكان اهتمامي بالماركسية فكريا في بداية الأمر، إلى أن التقى بي أحد أعضاء "حدتو" وجنّدني عضوا في الحزب عام 1955، وفوجئت بتصعيدي في الحزب نظرا لمعرفتي باللغة الإنجليزية والمصادر الأولية للفكر الماركسي. وقد ترجمت كتاب ماوتس تونج عن التناقض عام 1957.
بعد ذلك ولأسباب عديدة ابتعد المسيري عن الفكر الماركسي، واقترب من الفكر العربي الإسلامي المستقل، لأن الفلسفة المادية في نهاية الأمر، كما قال في بعض أحاديثه، تنكر الحيز الإنساني المستقل، عن الحيز المادي، لكن المسيري لا ينفي أثر التوجه الماركسي فيقول عندما يُسأل ماذا بقي لديه من الماركسية" لا شيء.. وكل شيء" وهو حسب تعريفه الطريف بنفسه " ماركسي على سنة الله ورسوله".
عام1963، سافر إلى الولايات المتحدة؛ ليحصل على الماجستير من جامعة كولومبيا الذي أنجزه في غضون عام، ثم يحصل على الدكتوراه من جامعة رتجرز عام 1969، وقد شهدت مناقشته لرسالة الدكتوراه تحديا له من أحد مناقشيه وكان أستاذا يهوديا، لكن المسيري ألقمه حجرا بقوة حجته ونصوع منطقه، ويشهد المسيري لذلك الأستاذ أنه لم يقدم على الانتقام منه، برغم أنه كان يستطيع ذلك.
وعند عودته إلي مصر عمل المسيري بالتدريس في جامعة عين شمس، كما اختير لعضوية مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام في الفترة من1970– 1975، ثم انتقل عام 1983، للتدريس بجامعة الملك سعود لمدة خمس سنوات، كما عمل أستاذا زائرا في أكاديمية ناصر العسكرية، وجامعة ماليزيا الإسلامية، ومستشارا ثقافيا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدي هيئة الأمم المتحدة.
رحلة المسيري الفكرية ومركزية الإنسان في الكون
قطع المسيري رحلته الفكرية عبر محطات، جسدت إيمانه العميق بالإنسان، الذي هو مركز الكون، وظل منشغلا بهذه القضية منذ بداياته الأولى، وتفتح وعيه على الفكرة الفلسفية التي ارتكزت على أن الإنسان مقولة مستقلة عن العالم، وروى المسيري أنه عندما رأى الرسول- صلى الله عليه وسلم- في رؤيا سارع إلى سؤاله: هل الإنسان هو مركز الكون؟ وأنه أجابه بنعم!
يقول المسيري: "إن الايمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة؛ ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية".
تناول المسيري في كثير من كتاباته منهجية الأبنية المعرفية الإنسانية، وعوامل التغير والثبات فيها، وما تخضع له من تأثيرات التضليل والتعمية، فقدّم تشريحا دقيقا للأسس التي ترسخت عليها الحداثة الغربية، وعصور استنارتها المظلمة، وتحررها من القيم، وانتهائها إلى معاداة الإنسان ودخولها تيه ما بعد الحداثة، كما كانت رؤيته لإشكالية التحيز محاولة أخرى، من محاولاته لاستقراء أهم الأسباب والدوافع، التي حدت ببعض مفكري الغرب إلى تبني فكرة صدام الحضارات ونهاية التاريخ، واعتماد مبدأ العداء في التعامل مع العرب والمسلمين ودعم الأنظمة الاستبدادية؛ ليخلص من ذلك إلى أن العقل الغربي لازال يعيش أسيرا لعقلية السيد المسيطر على كل شيء، الذي لا يرى في الآخر إلا عبدا يجب استغلاله، أو عدوًا يلزم استئصاله.
المسيري مفككا لبنية الفكر الصهيوني
أجملَ المسيري مسيرته الفكرية في كتاب بعنوان "رحلتي الفكرية" في الجذور والبذور والثمر –سيرة غير ذاتية غير موضوعية، أوضح فيه كيف ولدت أفكاره وتكونت، والمنهج التفسيري الذي استخدمه، خاصة مفهوم النموذج المعرفي التفسيري، وضمّ الكتاب في نهايته عرض لأهم أفكار المسيري.
ألّف المسيري ما يربو علي الخمسين كتابا باللغة العربية تنوعت بين الأعمال الفكرية والنقد الأدبي والشعر والقصة، هذا غير مؤلفاته باللغة الإنجليزية وعدد كبير من المقالات والأبحاث.
بدأ اهتمام المسيري بموضوع اليهودية والصهيونية مبكرا، فكان أول كتبه هو "نهاية التاريخ" مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني 1972، ثم موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية رؤية نقدية 1975، بعد ذلك بعامين صدر له بالإنجليزية كتاب "أرض الوعد" نقد الصهيونية السياسية، وفي عام 1981، صدر للمسيري كتاب في جزأين بعنوان "الأيدلوجية الصهيونية" دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة.
ثم أراد المفكر الكبير أن يُحدِّث موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، وظن أن ذلك المشروع سيستغرق على أقصى تقدير نحو عامين؛ لكنه اكتشف أن رؤيته في هذه الموسوعة كانت تفكيكية، بينما المطلوب أن تكون الرؤية تأسيسية تطرح البدائل، وقد استغرق العمل بالموسوعة الجديدة نحو ربع قرن لتخرج إلى النور في ثمانية مجلدات تحت عنوان" اليهود واليهودية والصهيونية" نموذج تفسيري جديد.
أثناء تلك الفترة وبعدها أصدر المسيري عدة كتب في نفس الموضوع هي "البروتوكولات واليهودية والصهيونية" وكتاب" في الخطاب والمصطلح الصهيوني" وكتاب" الفكر الصهيوني من هرتزل حتى الوقت الحاضر" وكتاب " من هم اليهود؟وما هي اليهودية؟ أسئلة الهوية والأزمة الصهيونية".
إشكالية التحيز دعوة للاجتهاد في أفق معرفي مفتوح ولم تقتصر اهتمامات الدكتور المسيري على هذا الجانب فقط، فقد طرح في كتاب من جزأين عام1993، ما أسماه بإشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، ومفهوم التحيز في العلوم الاجتماعية يشير إلى "أن مناهج وأدوات هذه العلوم ليست مطلقة أو عامة، كما أن النتائج التي يُتَوصّل إليها باستخدام تلك المناهج والأدوات ليست صالحة لكل زمان ومكان، ولكنها متحيزة - من حيث الصلاحية - في إطار اجتماعي، وسياق زماني محددين، فلا توجد مناهج "مجردة بريئة"، بل هي آليات وإجراءات تتضمن تحيزات محددة وأعباء أيدلوجية" ثم استطاع المسيري أن يطور رؤيته لإشكالية التحيز في كتابه "العالم من منظور غربي"2001، وقد أراد المسيري أن يؤسس لعلم عربي خالص يقدمه كإسهام فكري للبشرية؛ لذلك أعاد تسميته بفقه التحيز؛ لأن كلمة فقه- حسب رأيه- "تسترجع البعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة، على عكس كلمة "علم" التي تؤكد جوانب الدقة واليقينية والحيادية والنهائية". وكان الهدف من ذلك هو التركيز "على قضية التحيز في النماذج المعرفية، الناتجة عن مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية، والوسائل والمناهج البحثية التي توجّه الباحث دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب التخلص منها".
السنوات الأخيرة حفلت بالإنجازات الفكرية والجوائز
ثم قدم كتابه "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان" 2002م و" الحداثة وما بعد الحداثة" 2003، و" العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" 2002، و كتاب" رؤية معرفية في الحداثة الغربية" في2006، في خضم ذلك قدم المسيري ديوانا شعريا وعدة مجموعات قصصية للأطفال استلهم شخصياتها من البيئة العربية في محاولة لإزاحة النموذج الغربي السائد في الرسوم المتحركة من الذهنية العربية.
وقد حصل المسيري على عدة جوائز منها جائزة الدولة التقديرية في الآداب 2004، وجائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي عن الموسوعة عام 2000، ثم نفس الجائزة في العام التالي عن كتاب" رحلتي الفكرية" وجائزة "العويس" عن مجمل أعماله الفكرية عام 2002، وقد ترجمت العديد من كتب المسيري إلى الإنجليزية والفارسية والتركية والبرتغالية، كما ترجمت سيرته إلى الإنجليزية والفرنسية.
وفي مثل هذا اليوم من عام 2008، رحل عن عالمنا المفكر الموسوعي والباحث الأكاديمي والمثقف العضوي المدافع عن قضايا أمته، وحقوق شعبه في الحرية والكرامة- بعد صراع طويل مع المرض، بعد أن ترك للأجيال إرثا فكريا يستحق أن يُعكف عليه بالبحث والدراسة من أجل إيجاد السبيل وتلمس الطريق نحو الوصول إلى منفذ الخروج بالأمة من ذلك المأزق الممتد عبر الزمن، إذ كان المسيري يرى حتمية تلك اللحظة، كما كان يرى – أيضا- أن زوال الكيان الصهيوني أمر واقع لامحالة.