إبراهيم عبد المجيد يكتب: خدعة هيمنجواي بين جحيم قائم وجنة عابرة
هذه مجموعة قصصية جديدة صدرت منذ أشهر قليلة عن دار العين للنشر بعنوان " خدعة هيمنجواي" لأحمد مجدي همام . أحمد مجدي همام ليس في حاجة إلى تعرف، فهو صاحب أعمال سابقة رائعة مثل مجموعته القصصية "الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة" التي فاز عنها بجائزة ساويرس عام 2017 وروايات " أوجاع ابن آوَى" و" عيَّاش" و"الوصفة رقم 7" و"موت منظم" التي فازت بجائزة أفضل رواية في معرض القاهرة الدولي عام 2022 " ويوميات صحفية وحوارات فهو يعمل بالصحافة.
لمعرفتي بكتاباته كنت أعرف أني سأدخل كهفا سحريا في هذه المجموعة. هي عبارة عن عشر قصص قصيرة تتتفاوت بين الصفحة الواحدة والأربع أو الخمس صفحات، سبقتها قصة أطلق عليها "قصة افتتاحية" وتلتها نوفيلا ، ولا أحب كلمة قصة طويلة. في القصص القصيرة الأولي يأخذك السحر فلا تعرف هل ما يتحدث عنه هو مما حولك أم من عالم الخيالات التي تجتاح شخصية القصة الرئيسية. سرعان ما تجد أنها خيالات لكنها تصنع حالة انسانية مفارقة للمعتاد.
يبدأ الكتاب بحيرة الكاتب تحت عنوان " قصة افتتاحية" يسبقها عنوان مباشر هو " بمثابة استهلال" وهذه شجاعة قد يراها البعض غريبة، فهو يبحث عن مدخل للقصص أو جملة افتتاحية تعبر عما سيأتي بعدها. يطلب منه مدير إحدى الشركات متعددة الجنسيات التي بدأ يتدرب فيها ومن معه، أن يرسموا خطا على الجدار يصل إلى أعلي نقطة. بعد أن يرسموا يرسم المدير قافزا خطا أعلى، وينتهي الأمر بطلبه منهم أن لا يتوقفوا عن رسم الخط الأعلى. تعبير معادل للطموح أو رحلة الإنسان. ينقله ذلك إلى أمل أن تكون قصصه كذلك، فتكون المعضلة الأولى هي البحث عن كلمات افتتاحية معبرة. قد يضع الناقد هذا في عالم الفكر لا الفن، لكن الحيرة قائمة وهو يستعرض افتتاحيات أعمال أدبية مثل افتتاحية أورهان باموق في " الحياة الجديدة" أو هيرمان ميليفل في " موبي ديك" أو نيبول في " نصف الحياة "وغيرهم، وكتاب عرب ليسوا كثيرين فلا يطول أمر الفكر، وتأتي النهاية فيقول الكاتب الحائر أن محاولته قد طالت، فليترك هذا النص، ويحاول كتابة قصة أخرى. هكذا تجعلك القصة تخرج من حالة الحيرة النقدية إلى الحيرة الروحية لكاتب القصة. ومن ثم يمكن أن تعتبرها تجليات روحية صنعت قصة مختلفة عن أي توقع. وأيضا تكشف سقف طموحه الكبير فيما سيأتي من قصص.
القصة التالية بعنوان "الدرس" وعنوانها دال. هنا كيف ألَّف أولى قصصه وهو في مرحلة الحضانة بالمدرسة. يحكي لأمه كيف ارتطمت رأسه بالأرض في المدرسة وفقد الوعي ونقلوه إلى المستشفى، وهو في الحقيقة كان يريد التوقف عن الذهاب للمدرسة وجحيم الأطفال وسجنهم. بينما تحتضنه أمه تخفف عنه يدرك أبوه كذبه، فيخبره بأنه قابل أستاذه في الصف الأول، فلا يجعله يكمل وينهار معترفا أنه يكره المدرسة و"كفاية تعليم لحد كدا". يعرف أن والده لم يقابل أحدا وكأن القصة هي الدرس الثاني بعد بحثه عن الدرس الأول في القصة الافتتاحية وهو أن يؤلف قصصا متماسكة بلا ثغرات. الطفولية ناضجة جدا في الحكي هنا. تأتي بعدها قصة "الصوت الغائر" خيالات عن مسجد صغير مختبئ خلف شجرتين ومنخفض عن مستوي الشارع يناديه وهو في طريقه إلى العمل دائما، ويدعوه إليه طبعا للصلاة. تعلم الوضوء الذي نسيه من جديد ودخل يصلي. تتوالى آيات القرآن الكريم من إمام المسجد، ومع كل آية صوت من رأسه يعطيه الأمل أو الخوف، وهواجس بمن يكلمه بذلك، وإنذار بالموت بعد هذه الصلاة وأنه سيأخذ طريقه للجنة. تنتهي الصلاة ويعرف أن الإمام سيغلق المسجد فيخرج ويمشي ويأتيه صوت قائلا “الجنة في ركعتين. سلم لي على امك ". النهاية الدارجة تجعل الأمر حوارا نفسيا. هذه اللغة التي يتبدي بها الحوار والهذيان قادمة من الخيالات، تتجلى دائما في القصص التالية مثل "فلسفة النار" هنا عقب سيجارة يريد أن يلقيه من السيارة ومعه الحاج سعيد صاحب المحل. ولأن زجاج النافذة المجاورة له معطل عن الحركة يعطي عقب السيجارة للحاج سعيد ليلقيه من النافذة المجاورة له. يعتذر الحاج سعيد قائلا "ما يطفيش نار الرجل غير المرا" . يعني المرأة. وكانت خطيبته قد ماتت بأخطاء طبية ويعيش على ذكراها. في زيارة أخري للحاج سعيد للمحل، وبينما يدخن يقدم هو للحاج سعيد عود كبريت مشتعلا فيرفضه قائلا "ما تقدمش النار لصاحبك" بعد ذلك يضرم الحاج سعيد النار في نفسه لأن رجال البلدية صادروا بضائعه للمرة الثالثة خلال شهر واحد. محاولات الجميع لإطفاء النار بينما هو لا يفعل ويتذكر رغبته في اللحاق بحبيبته، ويتركه يصرخ أمام المحل محترقا ويتحول إلى رماد.
طبعا يمكن أن تثار الأسئلة عن هذا الشر، لكن الأمر يتجاوز ذلك إلى أفكار أكبر أقلها ما قاله ان تتحقق له أمنيته باللحاق بحبيبته، وأيضا هذه الجنوح البشري للشر الخارج عن المألوف رغم أن الأسباب بسيطة وعادية.
يتكرر الشر العجيب مرة أخرى، وستجد القصص جميعها تقريبا تبرز الجانب الشيطاني في البشر. تأتي قصة "صدقة" فيها يقترب من البطل الذي يقود سيارته، متسول أخرس مقطوع الذارعين. يقترب من زجاج السيارة ليتلقى الحسنة التي أشار إليه أن يقترب ليأخذها. يصبح جيب قميصه أمامه وبدلا من أن يضع له فيه قروشا كحسنة، يدس يده يأخذ ما في الجيب وينطلق بالسيارة.
ماهي حاجة مالك سيارة لما مع فقير متسول معاق؟ هو الشر الإنساني. وهكذا يستمر الخيال الجامح في قصص " أزمة اقتصادية " أوالنقطة الزرقاء " حتى تأتي قصة "خدعة هيمنجواي" فلا تعرف هل هي خدعة هيمنجواي أم خدعة خيالات البطلة التي شاهدت شابا أمام أحد المحلات وسمعته يقول " تريد أن تقرأ هيمنجواي؟ عليك بترجمات على القاسمي" يعجبها الشاب وثقافته وأسم المحل "الشيخ والبحر" بترجمة على القاسمي وليس العجوز والبحر. تشعر نحوه بالميل وتعتقد أنها أحبته فصارت حريصة على المرور من أمامه وتراه في كل مرة تتدهور حالته. رحلة مع الرواية والفيلم المأخوذ عنها لسبنسر تراسي وتتقدم الأيام فترى أن المحل معروض للبيع، ثم تراه وقد تغير وحمل عنوان" دكان التبغ" وهي قصيدة لفرناندو بيسوا.
العجوز والبحر أو الشيخ والبحر حلم لم يتحقق في رحلة الصيد، وفي دكان التبغ أيضا حيرة بين الحقيقة والحلم. خيالات تأتي بعد ذلك في قصة "كوابيس" وظهور لمارادونا ومعه عصابة برازيلية وفتاتين صغيرتين في الثامنة من عمرهما تعملان مرشدتين للشرطة يقتلهما الرواي. تهدأ القصص بعد ذلك بقصة صغيرة جدا عبارة عن عدة أسطر هي " لماذا لا يفتحون الباب؟ " يكون فيها الرواي نائما فيدق جرس الباب أكثر من مرة.
ينتظر هو أن يفتح الباب الباب أحد فلا داعي ليقظته، ثم يتذكر أنه وحده فلقد رحلت أمه وأخوه وأخته وأبوه. ينهض يفتح الباب ليجد محصل الكهرباء الذي يتأمله قائلا أمسح دموعك. ابتعدنا عن الخيال الجامح والشر كأنها محطة استراحة قبل أن ندخل في نوفيلا " الاتجاه الخطأ. ثلاث زوايا لمعاينة مصيبة واحدة" وسنجد تقسيمها بالزوايا وليس الفصول ولكل زاوية عنوان دال. قبل العنوان العام يكتب كأنه يذكرك بالبداية " خاتمة طويلة نسبيا" ليس اعترافا لكنه اللعب مع الفن. كأن العقل حاضر وما يكتبه كله عجيب! النوفيلا قفزة في الخيال مذهلة ليست غريبة على الكاتب الذي سبقها بقصصه في الكتاب وأعماله السابقة. نحن هنا في بلد بلا اسم دمرتها الحروب وتدمرها. قد تحيلك إلى بلاد عربية كثيرة وأيضا إلى مصر رغم أنه لا حرب فيها مع عدو خارجي. تتحرك بين ثلاث شخصيات رئيسية هم عاشور الناغي الذي يحيلك اسمه إلى عاشور الناجي في ملحمة حرافيش نجيب محفوظ في قوته وحكمته، وبين هاني ممدوح، وبين "سلام" التي تظهر بعد صفحات ومعها ابنها الصغير. هاني ممدوح موظف في شركة أفلست بسبب الحرب فتم استبعاده منها وتفاصيل ذلك كثيرة. يخشى حضور محصل الكهرباء لأنه لم يعد يملك شيئا. عاشور الناغي يمتلك مطعما اسمه " نهاية العالم" يقدم لحوما من الحيوانات الشاردة في الشوارع بسبب الحرب وتهدُّم البيوت. يعرف عاشور من هاني أزمته فيذهب معه إلي بيته لأن هاني أعلن على أعمدة الشوارع رغبت في أن يؤجر غرفة من شقته التي بها ثلاث غرف يشغل هو واحدة منها. يختار عاشور الناغي غرفة يسكن معه فيها مساعدة له. يبدأ في إطعامه من لحومه ويأتي ببعضها يطهوه في الشقة. يظهر محصل الكهرباء ويراه هاني جائعا يشم رائحة الشواء الذي يفعله عاشور.
يبدو محصل الكهرباء مشتاقا جائعا فيدعوه هاني للدخول ويعطيه شرائح بسيطة من اللحوم التي لا يعرف مصدرها. هل هي أرانب أم ماعز أم قطط أم كلاب. أكثر ما يصطاده عاشور هي الكلاب ويطهوها. بعد دقائق من استمتاعه بالشرائح البسيطة يطلب المحصل ثمن الكهرباء المتأخر ليستكمل دورته في العمل على بيوت أخرى، فيقوم عاشور الناغي بقتله بسهم معه أمام هاني الذي يندهش فيقول له عاشور أنه سيطهو لحمه. محصل الكهرباء ظهر من قبل في قصة قصيرة سابقة خيرا جميلا وهنا أيضا لكن الشر هنا في من يملك القوة. هكذا تستمر الحال لكن لا تزال الدنيا ضيقة مع هاني فيضع إعلانا جديدا لتأجير غرفة ثانية. هنا تظهر المرأة التي اسمها "سلام" ومعها طفلها الصغير فيعطيها هاني الغرفة الأخرى. تصبح "سلام" مركز المنافسة بين عاشور وبين هاني فكل يريد الفوز بها. تحدث غيرة شديدة بينهما خاصة أن عاشور استطاع أن يجد أباها المسن المريض التي فرقت بينهما الحرب في شرق المدينة، ويأتي به إليها وسط أهوال الحرب لكن الأب يموت، وقبل أن يقتل هاني عاشور من الغيرة يتهدم البيت عليهم من الغارات ولا يصل أحد إلى "سلام المرأة" أو سلام البشر. هنا لا تنتهي الرواية إذ تبدأ مونولوجات لكل منهم من تحت الركام حتى الطفل الصغير. بناء النوفيلا مدهش. ثلاث زوايا لكل واحد منهم زاوية ثم زوايا أخرى بعد الهدم. تعدد الأصوات يبني عالما كاملا ورؤية مدهشة. هل هي رحلة الإنسان بين الخراب منذ نشأت الأرض ومن عليها رغم تفصيلات الحرب والأحداث. هل نحن مع مسيرة البشر وصراعهم من أجل الحياة ومن أجل الفوز بالمرأة تماما مثل قابيل وهابيل، فكل منهما يقدم القرابين لله. عاشور من اللحوم التي يوزعها على الناس في المساجد ويسرف فيها، وهاني من ماله الذي قدمه للمرأة "سلام" واشتري لها ذهبا ليخطبها. "سلام" التي يأتي أسمها املا لكن دونه الحروب منهم ومن حولهم.
الحقيقة لا تفارقك الدهشة من اختيار أحمد مجدي همام لهذا العالم الذي بلا اسم، ولا تبتعد الأسئلة الفلسفية عن الكون والوجود ورحلة البشر. ناهيك عن اللغة التي يكتب بها وتتفرق بين شخوصه وفق أرواحهم وثقافتها وإحساسها بالعالم. خدعة هيمنجواي مجموعة قصص متمردة على ما تعودناه من قصص تمردا يفوق التوقعات والخيال، فمع شطحات للنفس البشرية أو أحلامها الضائعة، لا تختفي المعاني الفلسفية عن رحلة الإنسان بكل تجلياتها الشريرة في الوجود.