الدكتور إبراهيم عرفات يكتب: من الدولة المتخيــــلة إلى الدولة المتخلية.. قـراءة في قلـق مشـروع

ذات مصر

لا قيمة للتفاصيل مهما كانت أهميتها في فهم الأحوال قبل أن ندرك الصورة العامة التي تدور فيها تلك الأحوال. والأحوال في منطقتنا لا تسر، بما في ذلك حال الدولة.  ولا تعنيني هنا دولة بعينها وإنما فكرة الدولة نفسها. فالدولة فكرة في الرأس قبل أن تكون كيان له حدود ومؤسسات وقوانين وقيادات. هي خيال حوله الناس إلى حقيقة. لكن يبدو، وبكل أسف، أن الدولة المتخيلة عند الاستقلال قد شارفت على الانتهاء إن لم تكن قد انتهت بالفعل. كل الشواهد تؤكد ذلك. الفقر والجهل والمرض والبطالة والفساد والحروب الأهلية والطائفية والعرقية، والتبعية للخارج والاستبداد في الداخل والعربدة الإسرائيلية بطول المنطقة وعرضها ليست إلا بعض أمثلة لفواجع عجزت الدولة عن حماية مجتمعاتها منها ما تسبب في تشككها في الصور المتخيلة الجميلة التي لطالما كونوها عنها. 

لقد بدأت الدولة المتخيلة تتوارى ليحل محلها دولة أخرى متخلية. انتهت دولة الوعود وظهرت دولة القيود. غابت دولة الأحلام والرغبات لتظهر دولة الآلام والانسحابات.

ولنعد أولاً إلى أصل الأشياء. فالدولة في أي بقعة من العالم بنيت على عقد اجتماعي رومانسي متخيل، مليء بالوعود الجميلة بين سلطة تطالب الناس بطاعتها مقابل عملها على أن تكون حياتهم أكثر أمناً وسعادة. وكان لا بد من تجذير تلك الفكرة في نفوس الناس لتعيش الدولة فيهم مثلما يعيشون فيها. ولم يكن ذلك خطأ بالمرة. فالناس تحب الرموز، وتحركها المعاني، وتضحي بنفسها حتى لو كانت دوافع التضحية متخيلة. ولكي ترسخ صورة الدولة المتخيلة، كتبت كل سلطة تاريخاً يتحدث عن مجدها وعن مراحل نشأة الجماعة الوطنية عبر قصص مثيرة تداعب خيال الجماهير ومن خلال مواد إعلامية مكثفة وأناشيد شيقة تعزز قناعة الناس بصحة الخيال الذي يؤمنون به بل وتدفعهم إلى التضحية من أجله. وهذا ليس خطأ بل هو أمر جميل ورائع لأنه يستجيب ببساطة للجانب الرومانسي من الطبيعة البشرية. 

لكن الطبيعة البشرية كذلك عملية. كما تسير خلف الأوهام والأحلام تسير بالمثل وراء المنافع والمصالح. تهمها مدارسها وجامعاتها ومستشفياتها وشوارعها وبيوتها ومياهها وكهربتها ورواتبها ومطاراتها، وأيضاً كرامتها أمام باقي الجماعات المتخيلة أو الدول الأخرى في العالم.  

وتلك مسألة قصرت فيها كثير من الدول بما فيها عديد من دول منطقتنا. فلكي يضحي الناس من أجل الدولة المتخيلة ولكي يواصلوا طاعتها كانوا ينتظرون منها الوفاء بتعهداتها لا التملص منها أو الاستخفاف بها.

لكن صورة الدولة المتخيلة الجميلة عند الناس تراجعت، بل وبدأ كثير منهم يشقون عصا الطاعة ويهربون سواء بخيالاتهم أو في الحقيقة من دولهم، فوقعت ثورات واتسعت موجات الهجرة، وتنوعت أشكال العصيان المدني وزادت الغربة والاغتراب عندما رأى الناس دولهم المتخيلة وهي تتحول إلى دول متخلية.

كان عشم الناس في الدولة المتخيلة كبيراً بأن تكون حارسة لهم تحمي حقوقهم وحرياتهم ولا تتدخل في حياتهم إلا عند الضرورة لفرض القانون ولإدارة المجال العام بنزاهة. حتى عندما رأى الناس الدولة المتخيلة وهي تتحول من حارسة تحميهم إلى حابسة تقيدهم ظلوا يصبرون ويخافون عليها. لكنهم بدأوا يتغيرون عندما رأوها تتحول إلى دولة متخلية، لا تفي بالتزاماتها بل وتبرر تخليها بلغة استعلائية لم يعهدوها، ما دفعهم إلى التصرف بالمثل. وتلك مسألة خطيرة لأن الدولة المتخلية بدأت تقابلها مجتمعات كذلك متخلية.

سحبت الدولة المتخلية نفسها من مجالات رئيسية في حياة الناس بعد أن كانت الدولة المتخيلة تفيض في الحديث الواعد إليهم عنها. بدأت الدولة المتخلية تعفي نفسها مثلاً من مسؤولية توظيف الناس، كما لم تعد منشغلة كثيراً بعلاجهم أو تعليمهم ومختلف خدماتهم. باتت تتصرف كرجل أعمال وتقول للناس بصراحة: ادفعوا لكي يكون لكم فيها. ومع أن المجتمعات كانت وما زالت تدفع إلا أن الدولة المتخلية تريدهم أن يدفعوا أكثر ليحصلوا على الأقل وأن يصمتوا فلا ينطقوا أو يشاركوا. وتخلت بالمثل عن مسؤوليتها عن التعليم تاركة تفاصيله، بل وأحياناً عمومياته، لنواد من جماعات مصالح محلية متحالفة مع شركات صناعة التعليم الدولية المنتشرة ليس فقط في العواصم والمدن الكبرى بل وحتى في القرى والنجوع. وهو ما تكرر مع المستشفيات والمواصلات وكافة الخدمات، بل وبدأت في التخلي حتى عن حماية أمنها لتعهد به إلى قوات أجنبية، بل والتخلي أحياناً عن قطع من أراضيها.

تلك الدولة المتخلية أعادت الناس إلى الخوف من حالة الطبيعة الأولى وما يشوبها من فوضى بعد أن تعلقوا بوعود الدولة المتخيلة. وبعد أن كان الناس يعتبرون الدولة المتخيلة عمقاً لهم باتوا يرون الدولة المتخلية وهي تتحول إلى عبء عليهم. والأسوأ أنهم بدأوا يخونونها كما تخونهم، ويتخلون عنها كما تتخلى عنهم. يعتدون على الملكية العامة وينتهكون حرمات المجال العام. كما بدأوا يهاجرون بمئات الآلاف، ويتكلمون، بالذات الشباب منهم، عن سوء حظهم في أنهم باقين في بلدانهم وكم أنهم يتمنون لو حملوا جنسيات دول أخرى. تصلهم بكل سهولة على هواتفهم المحمولة رسائل تدعوهم لو دفعوا إلى الحصول على جواز سفر جديد وجنسية أخرى في مشهد تالف للغاية لأن بيع الجنسية تماماً كشرائها دليل على التفريط والتخلي. لكن ماذا عساهم أن يفعلوا؟ لقد أسقط في يدهم. فلا هم قادرون على استعادة الدولة المتخيلة ولا على إعادة الدولة المتخلية إلى رشدها.

لهذا فالصورة تعيسة بل ومخيفة. فمن يقرأ عن التحولات الكبرى التي أعادت هندسة أي منطقة إلا ويجد أن كل تغيير عميق للحدود وأشكال البلدان سبقته موجات من نفور المجتمعات من دولها بسبب فشل الدولة المتخيلة وتصرفات الدولة المتخلية. فكم صعب أن يعيش الناس في دولة لا تطيقهم ولا يطيقونها. هنا تسقط العقود الاجتماعية ويدفع التخلي المتبادل بين الدولة والمجتمع بالمشهد كله إلى حالة من الخلخلة والجلجلة والبلبلة تشجع على زغللة عيون قوى أجنبية شريرة يغريها الفراغ لتتدخل بدعوى ملأه. وتاريخ منطقتنا حافل بالعبر. فمن حاولوا سد الفراغ فيها زادوه ومن سعوا إلى تعويض النقص فيها فاقموه.

يا لها من سنوات صعبة قادمة. لقد فقدت الدولة المتخيلة صورتها الجميلة في نهى الناس وحل محلها دولة متخلية تتقاعس عن خدمتهم دافعةً بهم إلى التخلي عنها كما تخلت عنهم. فأي مسرح بالله أسوأ من ذلك وهو يمنح الخارج، الذي لم يتخل بدوره عن التلاعب التاريخي بمنطقتنا، فرصاً جديدة لمواصلة استعمارها بإذلال وهوان. لقد باع لنا هذا الخارج الشرير، ولكيلا ننسى، فكرة الدولة المتخيلة عندما منحنا الاستقلال، ثم ها هو اليوم يشجع بل ويبارك تصرفات الدولة المتخلية. فكم يفيده تعميق الفراغ. إنها مأساة متكاملة يشارك فيها الداخل والخارج وتنسجها الدول والمجتمعات معاً. هو عصر صعب يجري فيه التخلي حتى عن أبسط قواعد المنطق والعقل.