هشام النجار يكتب: حاجتنا إلى مشروع متكامل لتجديد التاريخ وليس الدين فحسب

ذات مصر

أعاد الاشتغال في مصر بقضايا فقهية وتاريخية خلافية وهامشية طرح التساؤل عن جدوى جدالات تمحورت حول أمور ومسائل لا طائل منها عبر السنين الماضية، على الرغم من إلحاح الواقع على ضرورة وحتمية التجديد سواء في الشأن الديني أو التاريخي.

ما هو اسم الفرعون الذي عاصر النبي موسى عليه السلام، سواء فرضية كونه رمسيس الثاني كما يذهب البعض، أو التشكيك في هذا الرأي من قبل أثريين مطالبين علماء الدين بالإستعانة بآراء المتخصصين في هذا المجال، إشكالات تستدعي التأمل وتنبه لضرورة التجديد أيضًا في الشأن التاريخي بالتوازي مع ضرورة التجديد الديني.

من المهم أن يحدث ذلك عبر التجرد الكامل للحقائق العلمية بمعزل عن القراءات الإنفعالية والعاطفية والأخرى المشتهرة والتي اكتسبت رواجها من كونها فقط تتناقلها الألسنة جيلًا وراء جيل، وبمعزل عن التعصب للقوميات والبلدات والمنطق النفعي، حيث لا أنسى ما قاله وزير إعلام سوداني أسبق قبل سنوات زاعمًا إن فرعون الذي ذكر في القرآن كان سودانيًا، مستدلًا بقصة (الأنهار التي تجري من تحتي)، فالأنهار في السودان وليست في مصر بلد النهر الواحد بحسب زعمه.

يكمن سر الأزمة الراهنة في عدم وجود مشروع فكري متكامل تتأسس عليه إرادة النهوض والانطلاق، سواء فيما يتصل بتحرير التراث الديني من انغلاقاته المزمنة، أو بتحرير التاريخ نفسه من رواسبه وأثقاله.

عدم الإنخراط بشكل جدي وواضح في مشروع تجديدي عبر عملية نقد داخلي للذات بقراءة موضوعية واعية للتراث وللتاريخ، أفسح الميدان لذهنية الاستفتاء عن كل شيء ومطاردة صغائر الأمور، وهو ما يذكر بشكل أو بآخر بمشهد فقهاء وعلماء بيزنطة الذين كانوا يتلهون بالجدل العقيم حول جنس الملائكة وحجم إبليس بينما جيوش الغزاة تدك أسوار المدينة.

هناك تلازمًا بين ضرورة تجديد الدين بنقد التراث الديني وتفكيكه وصولًا لاستيعاب أفضل تعاليمه وجوهر رسالته، وهو ما يتطلب إزالة القشور والقوالب الجامدة والآراء الفقهية الزمانية غير المناسبة للعصر، وضرورة تجديد التاريخ عبر تنقية مشابهة بالوقوف على التفسير الأصوب والأعمق للحدث، وفق بلورة متكاملة قادرة على التعاطي مع التراث العالمي والكوني الحالي.

وهناك شبه بين آليتي التجديد الديني والتاريخي من جهة اختصاصهما بعملية التنقية والتشذيب دون اجتثاث الشجرة من جذورها؛ فالمراد من العمليتين هو إبقاء الدين والتاريخ قويين عبر التخلص من الشوائب والعوائق والأغصان الفاسدة.

الواقع العربي والإسلامي اليوم بحاجة للمفكر والفيلسوف والمؤرخ النهضوي -كمثال المجدد عبد المتعال الصعيدي-، لا فقط للشيخ الذي يردد النصوص ويستدعي الآراء الفقهية ويروي الأحداث ويسرد وقائع ويثير قضايا بدون نقد وفرز وتمييز، فالمجدد هو القادر على إبعاد وإزالة غير النافع وكل ما يشكل عبئًا على الواقع المعاصر، وكل ما تراكم من قشور وأنقاض تعيق الإنطلاق.

الرؤية التاريخية مكملة للرؤية الدينية ولا مجال لتجديد إحداهما دون الأخرى، ما يعني ضرورة إخراج التاريخ من نطاق المرويات والأساطير وتزويده بمناهج البحث والاستقصاء، ومد نطاقه حتى الحاضر والمستقبل عبر دراسات اجتماعية وسياسية وفكرية تفتح له آفاقًا جديدة، ضامنة لبعثه حيًا من جديد.

القرآن العظيم كتاب هداية وليس كتاب تاريخ، وهو لا يعتني بالسرد التاريخي التقليدي ولا بأسماء الشخصيات قدر اعتنائه بالقضايا وما وراء طرحها من مقاصدية متعلقة بترسيخ القيم الإنسانية.

وينطوي الاستغراق في قضايا جدلية وهامشية لم تحسم ولن تحسم على أبعاد تتجاوز التصنيفات إلى ترجمتها لمواقف عدائية تخريبية وصراعات طائفية بل إلى حروب أهلية.

لا ننسى أن الجدل المكرر حول من أحق بالخلافة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أنتج (سلفيتين) تحضان بالفتوى وتحرضان على قتل أتباع الأخرى وسفك دمهم.

لا يقف الخطاب السلفي في كلا الحالتين عند التصنيف السلبي والتنميط والتعصب فقط، فاعتبار المجتمع جاهليًا وتقسيمه وهميًا إلى (ثيوقراطيين) و(علمانيين) أو (سنة) و(شيعة)، يترجم تلقائيًا إلى أعمال عنف وإرهاب، وكلا السلفيتين تحرصان على استدعاء التاريخ بتلك الانتقائية الجدلية العقيمة لإيقاع الحاضر في أحابيل الماضي.

يظل التاريخ عبر هذا التوظيف مغذيًا للكراهية والتنابذ والقطيعة والإرهاب، وسر من أسرار تمدد الحركات المتطرفة المغلقة على ذاتها أن الفكر الإسلامي المعاصر غاطس في امتثاليته التواكلية ومشغول بحروب التحرير السياسية أو الأيديولوجية التي أهملت مهمة البحث عن الحقيقة وآفاق المعنى.

الإشتغال بالشكليات والقشور والجدل العقيم وتقديس الشخصيات بل تقديس الماضي كما هو، هو أحد أقوى أسباب تخلف العرب والمسلمين، وحلحلة تلك الإشكاليات المتعلقة بالواقع التاريخي مرتبطة بالإجابة على تساؤلات مركزة حول طبيعة مسيرة الفكر وتعليل عدم مسايرته للواقع تعليلًا مقنعًا.

تأسيسًا على ذلك أرى أن التعاطي مع التاريخ خطوة مستقبلية لإضاءة الحاضر، فهو ليس خزانًا لحلول جاهزة وليس سجل تمجيد تعالج به مركبات النقص أو مجرد أداة للتخدير، بل تطهير للذاكرة وإنارتها وصقلها، بغرض إعادة فهم دروس التاريخ، بما يمكن من صياغة مشاريع حضارية إستراتيجية واضحة للحاضر والمستقبل.

الإقلاع الذهني هو شرط الإقلاع في بقية الميادين، وإعادة فهم التاريخ هو في ذاته فك للقيود التي تعوق حل مشاكل الساعة، ولذلك يعد خطوة على طريق بناء المستقبل لا خطوة تراجعية نحو البقاء عند الماضي حتى لا نغرق في أصولية وهمية تجعلنا نظن أنه لم يعد في الإمكان أبدع مما كان، وأن قدرنا هو فقط اجترار عظمتنا الغابرة.

أرى أن هدف المؤرخ ليس مجرد عرض حقائق التجربة الإنسانية أو حتى فهمها فحسب، وإنما بعثها بإعطائها القيم والمثل الحافزة والبناءة المرتبطة بعصره، وهذا هو السبب في أن التاريخ لا يكتب فقط وإنما تعاد قراءته بواسطة أجيال متعاقبة عبر رحلة الإنسان التي لم تتم بعد عبر الزمان.

لا ينبغي الوقوع في فخ تكرار أخطاء الماضي، حيث أن التاريخ ما هو إلا إنذار مبكر لا يسمعه إلا من يجيدون قراءته ببصيرة ووعي نافذ.

لا تحمل الحوادث التاريخية المجردة قيمة في حد ذاتها ما لم تتفاعل مع الفكر الإنساني، وهي تصبح ذات قيمة عندما تسهم في تغيير وضع الإنسان وتوجيه مساره.

لم يتحقق الهدف الفعلي من قراءة التاريخ على نحو فعال حتى الآن، فالقراءة التاريخية معنية بالوقوف على أصول وأسباب المشكلات التي واجهت الأسلاف، وبالتالي يمكننا تجنب الأسباب المشابهة التي تؤدي إلى خلق مشكلات مشابهة.

والتجديد عملية تجعل من كامل الواقع المتشعب والمترامي الأطراف شيئًا له نظامه وانسجامه، مقابل الجدل العقيم والنقاش الذي لا يقتنع به أحد ولا يرضي أي أحد، ولا يكون فيه رأي جامع، وينتهي دائمًا كما بدأ دون إقناع ولا اقتناع، لتستمر كل الأطراف في اختلاف وخلاف.

التاريخ تلزمه إذن إعادة قراءة وإعادة تفسير مستمرة، فتطوره التراكمي يضيف المزيد إلى الرصيد المعرفي للشعوب باستمرار، وهنا يتضح المنهج المضاد للاجترار السلفي، فالظن أنه لا جديد في مناهج التاريخ عما تم لدى مؤرخي الماضي مرجعه يعود إلى شعور باطني يعكس حالة من الجمود على مستوى الرؤية والتوقعات، لا من التاريخ الماضي وحده بل من الأمل في استئناف تاريخ جديد في المستقبل.

العجز عن بلورة مشاريع حضارية بالرغم من امتلاك تواريخ عريقة وعظيمة، يعود للعجز عن فهم ودراسة التاريخ واستيعابه ومن ثم الفشل في وصل الماضي بالحاضر بطريقة إبداعية خلاقة، فيثقل ذلك الماضي على الحاضر المتواضع فيلغيه ويزيده تواضعًا.