في عيده المنسي
من هو مالك القيراط الخامس والعشرين؟
الفلاح ابن الطمي وأخو الفجر وأبو الزروع جميعها، جاعل مصر منذ فجر التاريخ جنة الله في أرضه، ولنتأمل: " اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ" البقرة 61، هذا الفلاح أصل الحياة ومنبع الذوق فعلاً وقولاً.. فما وقف رجل لامرأة أو لشيخ أو لعجوز في وسيلة مواصلات إلا قال من حوله: "فلاح ابن أصول".
ولست أدري كيف صار الفلاح وهو علامة التهذيب وآية الكرم التي تمشي على الأرض، وابنته دليل الحياء، وزوجته صنو الشرف، وابنه نموذج الرّقي.. مثار سخرية واستهجان لدى الكثير من الناس؛ فصارت كلمة فلاح تهمة واصمة.
وقد غلب لفظ الإتيكيت على نظيره العربي الذوق وحل محله، الإتيكيت (باللغة الفرنسية: Étiquette) ) وهو مصطلح يعني "احترام النفس واحترام الآخرين وحسن التعامل معهم"، ويعني أيضاً "الآداب الاجتماعية والآداب السلوكية واللباقة وفن التصرف في المواقف الحرجة"، كما يعني أيضاً "الآداب العامة في التعامل مع الأشياء ومرجعيتها هي الثقافة الإنسانية الشاملة التي قلما تختلف من بلد إلى آخر". فهل يمكن أن نقرأ من أقوال الفلاح المصري لنرى.. هل هو صاحب إتيكيت أو لا؟ مع إضافة بسيطة أن مصطلح الذوق في بريطانيا - وفق ويكبيديا - إلى القرن الثامن عشر الميلادي وحينما أصبحت بريطانيا قوة عالمية في القرن التاسع عشر الميلادي اتسع مصطلح الذوق لديهم ليصبح معناه "الحياة كما ينبغي أن تكون" خلال عهد ملكتهم فيكتوريا..
والذوق أو فن احترام الآخرين يصنف غالبا بحسب مواقفه ومنها التحية، الزيارات، مقابلة الأصدقاء، مواقف العمل، المواقف المحرجة والضاغطة.. فكيف كان الفلاح المصري يعيش منذ آلاف السنين.
في التحية لا يفرق في إلقائها بين رجل وامرأة: "العوافي" ويتلقاها المحيا بالرد: "الله يعافيك" ويضيف عليها "يأخي" أو "يا أختي" أما الأجمل فهو الرد على جماعة ألقى واحد فيهم التحية: "الله يعافيكم" والغريب أننا ننفهم العافية بمعنى الصحة إلا أن لها معانٍ تذهلك أمام قدرة الجماعة الشعبية على انتخاب لفظة فيها جماع الدعوات، والأكثر غرابة أن هذه اللفظة فصحى، ويكاد لا يفطن لهذه المعاني إلا الندرة؛ فالعافية فهي في لسان العرب: دِفاعُ اللّه عن العبدِ. وهي: أَنْ يُعافِيَكَ اللهُ من الناس ويُعافِيَهم منكَ أَي يُغْنيك عنهم ويغنيهم عنك ويصرف أَذاهم عنك وأَذاك عنهم. وهي: طُلاَّبُ الرزقِ من الإِنسِ والدوابِّ والطَّيْر. وفي جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية " قالوا: العافية: الرحمة، ومنه قوله عليه السلام، ومنه قول عليه السلام وقد وقف على أهل القبور ، فقال: " السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية " ، يعني الرحمة.
لا تقف العافية عند باب إلقاء التحية في أثناء العبور، لكنها تكون إشعارًا بالاستئذان: " فتكم بعافية" أي تركتكم بعافية، كما تتسرب إلى الدعاء: "ربنا يعافيك" وإلى التعبير عن مرض: "بعافية" فإن زاد المرض صارت: "بعافية حبتين". والملاحظ هنا أن هذا ما كان يفعله العرب القدماء عند التعبير عن المريض مرضًا شديدا، فيقولون: "السليم". لمن لدغته حية.. ويقولون: "المفازة". على الصحراء المهلكة.
أما زيارة المريض فتبدأ بتحية: "ألف سلامة" ويتخلل الحديث أدعية مستمرة "ربنا يخف عنك" .. "تقوم لولادك بالسلامة".. "بكرة حسك يملا الدار" .. "ربنا يشفيك ويعافيك".. "ربنا يديك الصحة والعافية".. وتكون جمل المريض الاعتراضية وهو يحكي عن مرضه آية في الذوق: "ربنا ما يوريها لحد".. "بعد الشر عنك وعن السامعين".
وتتخلل العبارات الدالة على الذوق حياة الفلاح منذ أن يفتح عينيه على الفجر والصبح: "اصطبحنا بوش كريم".. ثم وهو يبدأ العمل: "بسم الله.. توكلنا على الله" وعندما يشعر بتسرب التعب: "الهمة يا رجالة".. "ربنا يقويكم".
أما حينما يريد مقاطعة أحد، أو المرور أمام جماعة فإنه ينطق بكلمته الرائقة: "دستوركم" فكأنه يأخذ الإذن وينبه الجماعة فتتوقف عن الكلام إن كان غير ملائم، أما إن أراد أن يستضيف غريبًا وتصادف وجود جماعة من أهل القرية فإنه يقول أيضًا: "اتفضل بدستور" وفي حالة الموافقة يكون الرد: "دستورك معاك".
وعند احتدام الحوار أو رغبة الفلاح في طرح مسألة شائكة، أو فيها نقد لأحد الجالسين فإنه يكرر: "لا مؤاخذة" أو "ما تأخذنيش" أو "معلش استحملني".. وحين يشعر أن الأنظار انصرفت عنه فإنه يلفت الانتباه بعبارة: "صلوا ع النبي يا جماعة" أو "واخدين بالكم يا جماعة"
حتى في حالات الغضب الشديد تجد عبارات الفلاح شديدة التهذيب: "روح.. ربنا يسهل لك" .. "ربنا يهديك".. "أبوس راسك امشي من قدامي"
ولأن فطرة الفلاحين تعرف ما يعلق بالنفوس من تطير وتشاؤم وخوف من الحسد؛ فإنهم لدى تعبيرهم عن الغبطة بشيء لدى غيرهم، يقدمون الدعاء: "اسم النبي حارسه وصاينه".. أو يرفعون أصواتهم بالدعاء على من لا يصلي على النبي، وكأنها تعويذة ضد الحسد: "حصوة في عين اللي ما يصلي على النبي".
حتى هذه اللحظات تشيع هذه التعبيرات لتملأ سماء الريف الذي يعاني الأمرين بالأمن؛ فأن يسبق كلام الصغير للكبير بلفظ ممهد: "يا عمي" أو " يا حج" وأن يسبق كلام الكبير للصغير: "يابني" هي ممهدات تقود الحديث إلى أن يخلو من الشوائب، وتصفي نفس المستمع من التوترات.
ولعل في التعبيرات التي اختارها العلامة حسين فوزي واعتبرها دليلا على قدرة الشعب على تسيير أموره دون أن يصطدم بأحد.. إشارات واضحة على إصرار المصري عامة والفلاح خاصة على استعمال تعبير غير صادم، بما يجعل الكلام مدخلا حسنًا ليفهم اللبيب ما يراد، فيختار حسين التعبيرات التي استعملها المصريون ويحلل مرادها:
التعبير | المراد |
يفتح الله | السعر الذي تعرضه غير مقبول. |
صل ع النبي | فلنبدأ في الفصال. |
علي الطلاق | لا تصدق كلمة مما سأقول. |
يا فتاح يا عليم | أول القصيدة كفر، وربنا يكفينا شرك. |
باسم الله | تفضل شاركني اللقمة التي لا تكاد تكفيني. |
حلفت عليك | أيها الأريب لقد فهمتني. |
اتوكل على الله | اغرب عن وجهي، من غير مطرود. |
دستور إيه يا عم الله يخليك | شبعنا من هذا الكلام وأمثاله |
الفلاح في عز مشكلاته وهمومه لا يحاول جرح من إلى جواره حتى لو كان هو السبب في هذه المشكلات، بل يحاول التخلص من الضررين: المشكلة وإغضاب من إلى جواره..
ما أشد احتياجنا الآن إلى ذوق الفلاحين، فعلا وقولا، هذا الذوق الذي جعلهم بنيانًا مرصوصًا في مواجهة ظروف بالغة القسوة، جعلتهم في بعض الأحيان شيئا مملوكًا، فكما يروي اين إياس ان الحكام كانوا يقسمون مصر من صدر الدولة المملوكية في عهد السلطان المنصور حسام الدين لاجين، في أواخر القرن السابع الهجري (697هـ) إلى أربعة وعشرين قيراطًا، أربعة للسلطان، وعشرة للأمراء، وعشرة للجند. أما نصيب الفلاح هو عافيته ودستوره وذوقه.