إبراهيم عبد المجيد يكتب: مصر يا عبله.. وندّاهة الفن
-1-
أخذني هذا الكتاب عن كثير مما حولي من آلام في مصر وغزة ولبنان، وهذا العالم الذي صار صباحه مثل مساؤه يقطر حزنا وقلقا. يومان قرأته فيهما دون توقف كأني أبحث عن الجمال الضائع. الكتاب عنوانه " مصر ياعبله" للفنان التشكيلي محمد عبله صادر عن دار الشروق منذ أسابيع قليلة، وله عنوان فرعي هو "سنوات التكوين".
كلنا نعرف حكاية " دي مصر ياعبله" التي قالها محمود ياسين في فيلم "الصعود إلى الهاوية" بعد أن اختطف الجاسوسة هبة سليم التي كانت تعمل لصالح الموساد وقامت بدورها مديحة كامل. وكيف وهو عائد بها والطائرة تحلق بهما فوق مصر، يشير إلى الأرض المصرية قائلا هذه الجملة التي لا تُنسي. السؤال هل استخدمها الفنان محمد عبله لأن أسمه يحمل لقب عبله، أم لأنه سيقطع بنا رحلة جميلة بين ربوع مصر. تقرأ الكتاب فيعجبك هذا التناص رغم الفارق الكبير في الأسباب، وتعيش مع مصر ومعه سنوات رائعة.
بعد المقدمة السريعة التي لا تزيد عن ثلاث صفحات، نرى فيها كيف كافأته ناظرة المدرسة الابتدائية" نجية" بعلبة طباشير ملونة، بعد أن كانت تعاقبه على شخبطاته التي تري أنه يشوه بها جدران المدرسة، حتى زار المدرسة مفتش التربية الفنية، وطلب منه أن يرسم على السبورة مباراة لكرة القدم بين فريقي الأهلي والزمالك. كيف أُعجب برسمه وطلب من الناظرة أن تكافئه قائلا " اهتمي به . دا فنان" فصارت الكلمة لقبا إذا أخطأ يقولون معلش دا فنان. يوجز بعد ذلك الرحلة في كلمات مثل "بذلت كل جهدي وعملت المستحيل حتي ألتحق بكلية الفنون الجميلة وأدرس الفن رغم معارضة والدي الشديدة" هذه المعارضة جعلت والده يرفض مساعدته بالمال، فاعتمد محمد عبله علي نفسه في أعمال كثيرة قام بها ليعيش ستعرفها في الكتاب، منها أعمال صعبة مثل المحارة. يقول عبله " مع الفن عايشت العزلة والوحدة التي يحتاجهما الفنان بالضرورة للعمل، والإصغاء ألي رنينه الداخلي"
نكتفي بذلك من المقدمة لندخل إلى الكتاب ونري كيف كان الإصغاء إلى رنين الفن الداخلي هو ناقوس وطريق حياته الروحي، مهما خالف ذلك العقل، وكيف كان طريقه لكل من عرفهم وجاء ذكرهم بالكتاب.
من البداية مع سيف وانلي نعرف كيف جعله رنين الفن الداخلي يترك كلية الفنون التطبيقية بالقاهرة، رغم أنه دخلها من وراء أبيه الذي كان قد الحقه بالكلية البحرية، فلا يوجد محافظ أو مسؤول كبير في البلاد إلا العسكريين. كيف لم تعجبه كلية الفنون التطبيقية بالقاهرة والدراسة فيها، فسحب أوراقه بعد مضي شهرين من العام الدراسي لينتقل إلى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية. أين العقل هنا؟ الانتقال يكون في بداية عام جديد أو مع نهاية العام. هو الرنين الداخي وهي الروح الطفولية التي تظهر في لغة محمد عبلة وتصويره للمكان والزمان والبشر، وستمشي معنا في كل الحكايات. رفض طبعا وكيل الكلية في الإسكندرية طلبه فصار في حيرة وجنون، وفكر في البحث عن سيف وانلي الذي لم يقابله من قبل ليحل له المشكلة. فنان في بداياته يبحث عن فنان عظيم في طريق خارج العقل. شغلت رحلة البحث عن سيف وانلي في محلات البراويز بالإسكندرية سطورا جميلة، بينها بائع قال له لا يوجد أحد بأسم سيف وانلي، لكنهما اثنان يرسمان هما سيف ونيللي، ويجمعان أسميهما معا على اللوحات!. المهم وصل إلى بيت سيف وانلي. بعد الحوار الجميل بينهما واقتناع سيف وانلى به كفنان ، يتصل بعميد الكلية كامل مصطفي، فتنتهى المشكلة ويتم قبوله، ولا يكون عليه انتظار نهاية العام، أو اجتياز امتحان الثانوية العامة من جديد كما تقول اللوائح.
هنا تبدأ الإسكندرية في الظهور، وتطل علينا بعين الغريب المندهش الطفولية التي تراها في بسمة محمد عبله حتي الآن. الإسكندرية ومن قابلهم في الحياة وفي الكلية.
الأماكن التي سكن فيها ومع من وشوارع وميادين الإسكندرية في الطريق إلي الكلية أو غيرها. مغامراته مع من عرفهم التي تصل أحيانا إلي الذهاب إلى منطقة المكس لشرب الحشيش والبيرة. كيف كانت تدار الأمور في الكلية والمرسم الذي يرسم فيه مع غيره من الطلاب، وصور مجسدة لكل ذلك. رسم الموديلات العارية وكيف كان الأمر أول مرة مربكا له، وكيف من زملائه من رفض النظر إلي الموديل وطلب أن يرسمها من الخلف. كيف صار يدور حول الموديل هو الذي ارتبك من قبل ويرسمها من كل اتجاه. حديث الموديل "سعاد" الجميل معه. أيضا حضور دروس التشريح في كلية الطب وكيف تقبَّل التعامل مع الجثث. فيما بعد سنعرف كيف توقف رسم الموديلات والرسم العاري مع الانفتاح وسياسية السادات، وظهور جماعات الإخوان المسلمين في الجامعات، ومحاولات البعض ضمه إليها وفشلهم، كما حاول البعض قبل ذلك من زملائه ضمه إلى جماعة ترى في اليوجا والفلسفة الهندية خروجا عن العالم الأرضي إلى السماء، وحضر جلسات قليلة معهم لكنه لم يستمر. في كل أفعاله تفكر كيف لا يستمر في شيئ أقدم عليه. حتى حين عرف أن من حقه الإلتحاق كمعيد بالجامعة بعد تخرجه، وبمجرد رفض الكلية بتأثير من العميد حامد عويس لم يهتم. هو يريد الفن فقط. الوظائف ستشغله عن الفن. الفن نداهته الوحيدة التي يسرع إليها.
لم يستمر في أي تجربة. حتى الصحافة التى ذهب إليها بعد تخرجه ليقابل أنيس منصور رئيس تحرير مجلة أكتوبر الذي عرف أنه يريد فنانا غير جودة خليفة.
ذهب ولم يستمر وصادق وعرف جودة خليفة. أحداث كثيرة في الكتاب تذكرني بشخصيات عرفتها منهم جودة خليفة الذي سهرنا أعظم الليالي في بداية السبعينات في مصر الجديدة في كافتيريا أمفتريون وكان كلما استبدت به البيرة يهتف " الإستقلال التام أو الموت الزؤام" فنضحك ضحك السنين. لا أنسى يوم بدأ العمل في مجلة أكتوبر وقابلته في مقهي ريش، فوجدته يرتدي قميصا أشتراه من بورسعيد مكتوب علي جيبه " السادس من أكتوبر " وقال لي ضاحكا "حتي يقتنع أنيس منصور بي". طبعا سنعرف من محمد عبله أن جودة خليفة لم يكن يعمل كما يريدون. يعطيهم رسمين صغيرين أو ثلاثة، ويقول لهم استخدموها طوال الشهر، ويرى أن ذلك يتناسب مع راتبه، لذلك بحثوا عن فنان آخر، لكن عبله لم يستمر إلا أياما قليلة. كالعادة دخول وخروج إلى الفضاء الأوسع.
نعود إلى الإسكندرية وكيف كان لحديث الدكتورة الفنانة فاطمة العرارجي لهم في كلية الفنون، عن مرسم الأقصرالذي أقامه طه حسين من قبل، أثر في سفره في سنته الأخيرة بالكلية إلى هناك. رحلة رائعة مع الأقصر والبر الغربي ومن قابلوه واستضافوه في بيوتهم، وكيف في النهاية كانت عودته بالمركب إلى قنا ليركب منها القطار. المكان في الأقصر أو النيل ليس مجرد تفاصيل، لكنها مشاعر الدهشة الطفولية أمام إنجاز المصريين القدماء وأفعال المعاصرين. إذا كان أهلنا القدماء قدموا كل هذه الإنجازات الفنية فلماذا نرسم؟ لذلك كانت الرحلة بالمركب من الأقصر إلى قنا هي الملهمة لمشروعه. ما يفعله المراكبية للتقدم بالسفينة وحكاياتهم وجلساتهم وأحاديثهم. صار المراكبية والنيل هي مشروعه للتخرج.
أسماء الأساتذة الذين احتفوا برسمه وأحبهم ومواقف جميلة بينهم. ازمته مع الفنان حامد عويس رئيس القسم وعميد الكلية حين قال رأيا لم يعجبه في أعماله فسبه حامد عويس قائلا " ماذا تقول يا وقح ؟ أذهب من أمامي" وسيكون لذلك تأثير فيما بعد وإن لم يصل إلى رسوبه مثلا أو فصله لاي سبب، لكن إلي عدم الموافقة علي تعيينه معيدا رغم نجاحه بمرتبة الشرف وجيد جدا! لكن محمد عبلة لم يهتم . لم يكن متحمسا للعمل جوار الفن. أسماء أساتذة وفناين آخرين مثل الفنان منير فهيم المحب لرسم البورتريه والذي كان يملك محلا لبيع بروايز اللوحات، رغم أنه لم يكن محبوبا من أساتذة الجامعة ويعتبرونه تاجرا وليس فنانا. لكن النداء الداخلي لعبله أن يعرف ويتعلم بعيدا عن لغط الوسط الفني أو الثقافي.
حديث رائع عن متحف الكلية وكيف أنشأه الفنان أحمد عثمان، ومن هو أحمد عثمان وتاريخه العظيم منذ بعثته إلي أوربا ثم عودته في نهاية الثلاثينات، وإنجازات عظيمة له مثل ترميم تمثال رمسيس الذي كان في محطة مصر، وتأسيسه مدرسة للنحت في سجن طرة عام 1957 وكيف علّم المساجين الذين يعملون في قطع الأحجار كيف يجعلون منها تماثيل، ومشاركته في الدعوة وتأسيس كلية الفنون بالإسكندرية، وكيف كان صاحب فكرة نقل معبد أبو سنبل وإنقاذه أيام بناء السد العالي، لكنهم أنكروا حقه فعاش متألما ومات في حادث قطار بمحطة الإسكندرية عام 1970 . هذا مثال واحد علي حياة أحد الفنانين الذين يذكرهم سواء قابلهم في الإسكندرية أو فيما بعد في القاهرة، والمقال لن يتسع للحديث عن كل منهم. الحديث دائما تشعر فيه بروح الطفولة العذبة، ويستمر في تصوير كل مكان في الإسكندرية مثل الشواطئ والرسم مع صديقه في الملاحات، وأصدقائه من الطلبة ومن عاش معه، وما فعلوه من زيارات ومعارف لا ينساها. تردده على كلية الآداب ليستمع إلى محاضرات الدكتور حسن ظاظا في الفن، ومحاضرات الدكتور أحمد أبو زيد في الإنثروبولوجيا حبا في معارف جديدة. للأسف حدث ذلك بعد أن تخرجت أنا عام 1973 من كلية الآداب ورحلت إلي القاهرة، وإلا كنت التقيته حتى ولو في فناء أو كافتيريا الكلية. لقد كان الإثنان من أعظم أساتذتي وتحدثت عنهما من قبل في مقالات لي وآثار في حديث محمد عبلة كثيرا من الشجن الجميل.
هكذا حتي تصل إلي قرابة الصفحة رقم مائة ولا زالت الإسكندرية هي فضاء الكتاب الأكبر، رغم وجود فصل عن والده وبلدته الأصلية بلقاس، حتي قلت لنفسي دي إسكندرية يا عبله. لكني كنت أعرف أنه هكذا وصل إلى السنة النهائية في الكلية، وسينتقل بعدها إلى القاهرة، فمشيت شغوفا في الكتاب متوحدا معه.
-2-
أول ابتعاد حقيقي عن الإسكندرية كان في رحلة إلى بغداد قبل السنة النهائية للكلية عام 1976. كانت قفزة أيضا غير متصورة ومغامرة. ذهب إلي بغداد في إجازة الصيف. فتنته المدينة وشارع الرشيد وكما يقول عنها " سحر بغداد لا يمكن مقاومته. هي مزيج من القاهرة ودمشق ومدن شرقية كثيرة، بطلها الأول شارع الرشيد وقهوة "المربعة " التي يتجمع فيها المصريون بكل طوائفهم كأنك في الحسين أو السيدة زينب"
ذهب للبحث عن كتابين ظهرا هناك كان يحلم باقتنائهما هما" فن التصوير عن العرب " و" بدائع الخط العربي" للخطاط الكبير هاشم محمد. وأيضا ليشتري بعض الأدوات لمشروع التخرج. الرحلة الصعبة من مصر من القاهرة بالطائرة إلى دمشق ثم من دمشق بالأوتوبيس إلى عمّان بالأردن، ثم من عمّان بالأوتوبيس إلى بغداد. نزل في بغداد في فندق نصحه به أحد الركاب المصريين صاحبه أو "أبو الفندق" كما يسمونه شخصية جميلة، وتصادقا معا بسرعة.
سعيه للبحث عن الكتابين فلم يجدهما في المكتبات، حتى أخبره أحد أصحاب المكتبات أنهما موجودان في مخازن وزارة الثقافة فقط. في الوزارة أخبروه أنه لابد من موافقة وزير الثقافة سعدون حمادي. قابله بسهولة وعرّفه بنفسه كطالب في كلية الفنون في مصر. استجاب له وأعطاه خطابا لتسهيل مهمته. لم يأخذ الكتابين فقط، لكن كمية كبيرة من الكتب من مخازن الوزارة ملأت كرتونة. عمله بعد ذلك في محل الخطاط عادل الخالدي في شارع الرشيد قرب ساحة الشهداء، الذي عرف أنه رساما أيضا فطلب منه أن يرسم ما يريده واتفقا على أجر مُجزٍ. بدأت رحلته مطمئنا في بغداد وأسواقها وسحرها. تعرفه على الأكراد وكيف سهر معهم واستمع إلى موسيقاهم، واستمع إلى قلقهم لو وصل صدام حسين إلى الحكم. نتابع الرحلة الجميلة لكن كان من غرائبها بعد أن تحولت غرفته في الفندق إلى مرسم صغير، ومنتدي يقابل فيه صاحب الفندق مع بعض النزلاء ويرسم هو ويحكي ويتناقشون، أن أحد الشباب المتحمسين، أخذ يتحدث بسخرية عن السادات وكيف هو خائن للعرب وأنه وكل المصريين خونة.
هنا لم يسكت محمد عبلة وعنّف الشاب، فأمسك الشاب بسكين وطعنه في ظهره. كيف تم التعامل مع الجرح واستمر هناك، وكيف أقام معرضا لأعماله، حتى أدرك أنه تأخر في العودة الي مصر للسنة النهائية فقرر العودة. وداع صعب مع الأكراد بالذات الذين أحبوه كثيرا . المفاجاة اللطيفة في الطائرة من دمشق إلى مصر بعد أن طاف بدمشق وأسواقها والمسجد الأموي وغير ذلك يصفه بجمال فني وإنساني فائق.
حين دخل الطائرة في الصباح حاملا كرتونة الكتب كانت المفاجأة أنه بينما يمر بين المقاعد، شاهد الفنانة ماجدة الخطيب التي رآها من قبل في فيلم "زائر الفجر" وانبهر بها وبتمثيلها. ابتسم لها فإذا بها تشده من يده قائلة" أهلا أهلا كيفك يا محمد . أجلس بجانبي" سألها مندهشا هل تعرفيني؟ قالت هامسة " أنا لا أعرفك لكن خلفي شخص ثقيل الظل يريد أن يجلس بجانبي وقلت له أني أنتظر صديقا، وحين رأيتك تظاهرت أنك صديقي الذي انتظره. سألها من أين عرفت أن أسمي محمد؟ قالت خمنت. جلس جوارها وحكت له أنها أتت إلى دمشق للاتفاق مع أحد المنتجين لعمل فيلم عن حياة فدائية فلسطينية ستقوم هي بدورها، وحكي لها عن رحلته في بغداد، وراحا يتحدثان عن الفن والفنانين وأنا أقول يا بختك ياعبله!
عاد إلى الإسكندرية وتم التخرج وتم تجنيده في الجيش. رتب نفسه على الحياة في القاهرة. تفاصيل التجنيد التي عنوانها "جندي مجند .. تمام يا افندم" وكيف تنقل بين المعسكرات واستفادوا من فنه في رسم لأعمالهم وغيرها. استقر في معسكر بالمقطم، وطبعا لا يفوته وصف المكان وما حوله والقاهرة من أعلى ومشاهدها. في إحدى المرات وهم ينتقلون بالسيارة إلى السيدة عائشة ليعود كل منهم إلى بيته وكانوا حوالي ثمانية عساكر، انقلبت بهم السيارة التي تكوموا في صندوقها. لم يشعر بنفسه إلا وهو في غرفته في الجيزة في صباح اليوم التالي وزميله في الغرفة يوقظه ويسأله ألن تذهب إلى الجيش. لماذا نمت بملابسك؟ بسرعة أخذ طريقه إلى المعسكر أعلى المقطم، وما إن رآه الجندي على باب المعسكر حتي هتف " العسكري عايش .. العسكري عايش " وأبلغ القيادة " تمام يا افندم العسكري محمد الذي مات أمس لا يزال حيا". استقبلوه ولم يعرف لاهو ولا هم.
كيف نجا من الموت؟
صار يعمل كموزع لقطع غيار السيارات يطوف بها بين المدن، ورغم إغرائها لم يستجب إلى ما فيها من عمل أحيانا قد يجلب مالا وفيرا. هنا تظهر القاهرة أكثر من أي وقت في الكتاب بأحيائها التي سكنها. جاءت الصدفة العظيمة وهو يسير في شوارع الزمالك معه الحقيبة الفارغة يذهب بها إلى مخازن قطع الغيار يملأها ويدور بها لبيعها، فيجد أمامه من يرحب به ويسأله أنت رايح فين.
كان "السنيور أدريان " أستاذه في اللغة الإسبانية في الإسكندرية. سأله أدريان عن ماذا يفعل وأخبره أنه هنا صار مديرا للمركز الثقافي في شارع عدلي، وبعد حوار طريف يطلب منه إقامة معرض له في المركز الإسباني بعد أسبوعين، ومحمد عبله لا يصدق. يجري محمد عبله وينهي عمله في قطع الغيار ليقيم أول معرض له. كيف لم تكن لديه اللوحات الكافية فذهب إلى كلية الفنون في الإسكندرية، وطلب مشروع تخرجه من العميد حامد عويس، الذي وافق من باب الخلاص منه لأن هذه الرسوم تظل ملكا للكلية. تفاصيل لطيفة عن البدلة التي استعارها من أخيه، وعن الكرافتة التي ربطها له مستر أدريان لأنه لا يعرف، وعن الحذاء الضيق الذي يرتديه.
المهم أقيم المعرض الذي كان أشبه بالانفجار في حياته الفنية. رحبت به الصحف وكتب عنه كمال الملاخ وأرسل مصورا يصوره، وشاهده حسين بيكار وأعجبه ودعاه إلى بيته، وكان قد باع لو حتين بمبلغ يزيد عن المائتي جنيه وتغيرت الحياة . حصل على مرسم بالمسافر خانة التي يصفها وما حولها من أزقة بحضور فائق، وكيف زار أحمد فؤاد نجم في بيته القريب والحوار خفيف الدم لنجم معه. بدأت حياته وسط المثقفين والفنانين في القاهرة يشارك في المعارض الجماعية، وعرف أسماء مثل عبد الوهاب مرسي وزهران سلامة وعز الدين نجيب وإسماعيل دياب وعدلي رزق الله وصلاح عناني ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم ومن جيله وحيد مخيمر. كيف قابلهم في أماكن مثل الأتيلييه ومقهي ريش أو زهرة البستان وغيرها.
توقفت في شجن عند الكثيرين ممن عرفتهم، وعند الحديث عن جماعة الوراق واللقاءات في بيت محمد كشيك حيث ألتقينا أول مرة هناك، وكيف كانت أياما لا أنساها. رحم الله محمد كشيك وأيامنا الحلوة التي جاءت في كتابي عن الأيام الحلوة، عنه وعن غيره مثل صلاح عناني وجودة خليفة ومقالاتي عن الكثيرين منهم.
تستمر الحياة في القاهرة ويعمل في مصلحة الدمغة ولذلك حديث فني طويل عن طبيعة العمل. يلتقي أيضا بالفنان العظيم عبد البديع عبد الحي، وطبعا نعرف حكايته مع النحت، وكيف تبنته هدي شعراوي وكان يعمل طباخا عندها، وكذلك يلتقي بالمخرج شادي عبد السلام والممثل صلاح مرعي والحديث عنهم يطول. يشتري من عائد معرضه الأول ثلاجة يذهب بها إلى أمه. كان أبوه يعترض علي وجود الثلاجة لأنها سبب لكسل الزوجة. عودة رائعة إلي بلدته التي عرف أنهم انتقلوا منها إلى بلدة أخري في زمام المحافظة. هنا حديث عن أبيه وتاريخه في العمل والبيت وعلاقته به، وحديث عن أمه، لكني أتوقف عند الحديث عن جدته التي كانت تحكي لهم قصص العفاريت مجسدة بصوتها، ووعدته أن تطعمه قلب الذئب ليعيش شجاعا. بالفعل جعلت أحد الرجال يقتل ذئبا ويأتي لها بالقلب، طهته له وقالت هكذا لن تخاف أبدا. حكاية قد تفسر حياته التي لم يشبها الخوف حقا، لكن المغامرة كانت الدافع الأكبر، ورنين الفن في روحه هو الذي كان النداهة التي لا تغيب. وهكذا بعد الرحلة الرائعة في الحياة والفن والمدن والبلاد والناس التي خبرها نكون مع مصر، ويكون العنوان " مصر ياعبله" في مكانه لا الإسكندرية فقط يا ابراهيم!
هل أوفيت الكتاب حقه في العرض؟
كثير جدا لم أذكره من طرائف ومواقف وناس والكتاب أمامكم فاقرأوه. الكتاب به في كل فصل صور لمن يذكرهم، أو له معهم، وشيئ من إنجازهم الفني، وفي النهاية عدد من رسوم محمد عبلة المبكرة، فهو أشبه بالمتحف رغم الحديث الذي يشغل الصفحات. المهم في النهاية أنه بعد معرضه الأول عمل مسيو أدريان على سفره لاستكمال دراسته العليا في إسبانيا. بداية مرحلة جديدة قد يكتبها في كتاب آخر.