مريم الخلفاوي تكتب: الأدب العجائبي
عرف الأدب العجائبي ازدهارا كبيرا في القرن التاسع عشر مكنه من اختراق حدود الثقافات وتجاوز العقول والأرواح، فظهرت كتابات عديدة أضحت تشكل جنساً نوعيا مرتبطا بالسياق التاريخي لتطور العلوم وهيمنتها على المعارف المستندة إلى الحس، وكان من خصائصها أنها نصوص عصية على الفهم مفارقة للإدراك الطبيعي ومتميزة بالغرابة والمفاجأة، لأنها تسمح من جهة بكسر الحدود بين عالم واقعي وآخر حلمي ومن جهة أخرى بكسر الحدود بين عالم طبيعي وآخر فوق طبيعي، ومن ثم ربطت بنياتها بين علاقات متواترة جمعت بين واقع مرجعي مرده السرد الطبيعي وبين عمل استيعابي للظواهر غير المنطقية.
أضافت الدراسة البنيوبة للأدب العجائبي التي أنجزها تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov الكثير من التصورات والمفاهيم الدقيقة والقوانين الكلية والعامة إلى هذا الجنس الأدبي الذي بحثت في مظاهره التركيبية والدلالية؛ إذ انطلق تودوروف من عدة تعاريف تتلاءم مع تعريفه للعجائبي الذي ينهض "أساسا، على تَردُّد للقارئ - قارئ يتوحد بالشخصية الرئيسية- أمام طبيعة حدث غريب. هذا التردُّد يمكن أن يحل أو ينفرج إما بالنسبة لما يفترض من أن الواقعة تنتمي إلى الواقع، وإما بالنسبة لما يفترض من أنها ثمرة للخيال أو نتيجة للوهم بعبارة أخرى إمكان تقرير أن الواقعة تكون أَوْ لاَ تكون. من جهة ثانية يقتضي العجائبي نمطاً معينا من القراءة والذي من دونه يمكن أن ينزلق الإنسان إما إلى الأليغوري أو إلى الشعري" .
انتشر العجائبي في الغرب كردِّ فعل مضادٍّ على طغيان الوضعانية والعلموية، وقام الناقد الفرنسي تودوروف بتقديم رؤية مغايرة للعجائبي تفصل بين الواقع واللاواقع وبين المرئي واللامرئي، وهي رؤية أسست لمنهجية تنظيرية للعجائبي بوصفه جنساً أدبيا يتميز بمكونات بنيوية خاصة، وبخصائص خِطابية نوعية وبمقولات دلالية وتيمات غريبة، وأتاحت هذه الرؤية للكثير من النصوص ضبط صياغة إشكالياتها واستعمال تحديداتها ومصطلحاتها، ولابد من الإشارة إلى أن ما كان سائداً قبل دراسة تودوروف في كتابه: مدخل إلى الأدب العجائبي كان "مجرد حالة خاصة للمتخيل تتجسد عبر الملاءمة بين مجموعة من الثوابت التي تكتسي طابعا كونيا مما يجعل الفانتاستيك يندرج ضمن تراث الأساطير والفلكلور لمختلف الثقافات" .
وضع تودوروف عددا من الشروط لكي يتحقق الجنس العجائبي وجوديا بالنسبة له منها؛ أولا: أن يكون العجائبي قادرا على دفع القارئ إلى تخيل عالم الشخصيات عالم أشخاص أحياء، ثم ثانيا: أن يكون العجائبي قائما على التردد بين التفسير الطبيعي والتفسير فوق الطبيعي للأحداث، وثالثا: أن يصير التردد أحد موضوعات الآثار التي يحدثها فيتوحد القارئ مع الشخصية في حالة القراءة الساذجة، ولابد أن يختار القارئ موقفاً معينا تجاه النص برفضه التأويل الأليغوري أو التأويل الشعري، وتتميز هذه الخطوات الثلاثة بكونها متباينة وليست ضرورية وبكونها تفضي إلى اعتبار العجائبي تردداً يحس به شخص لا يعرف سوى القوانين الطبيعية أمام حادث غير مألوف؛ فالاعتباران الأول والثالث يدخلان في علاقة مباشرة مع القارئ وشرط وجودهما ضروري لتشييد الجنس العجائبي، أما الاعتبار الثاني فتشترك فيه الشخصية مع القارئ في الإحساس بصعوبة تفسير الأحداث ويمكن الاستغناء عنه حين يستمر العجائبي داخل زمن التردد ويتمكن القارئ من تفسير الأحداث ونسبتها إلى قوانين طبيعية أو فوق طبيعية، عندئذ ينسحب العجائبي و يحل محله العجيب أو الغريب. أما إذا تمكن القارئ من التوصل إلى كون الأحداث فوق طبيعية يمكنها أن تأخذ تفسيرا عقلانيا ومنطقيا فإن هذا النص يغادر العجائبي ليلج جنس الغريب، أما الاعتبار الثالث فيلزم القارئ بالابتعاد عن التأويل لأن القراءة التأويلية تتعامل مع الظاهرة الأدبية بكونها واقعة داخل نص أدبي الأمر الذي يجعل القارئ ينطلق من التساؤل عن الأحداث الغريبة إلى التساؤل عن أحوال النص، "فالعجائبي يتحدد بصفته إدراكاً خاصاً لأحداث غريبة" وعند وصف حدث ما بالغرابة فإن النعت ينكب على فعل ذي طابع دلالي.
يعد تودوروف القارئ فاعلا حاسما في حضور العجائبي أو في غيابه، إذ يمكن للشخصية أن تحضر إلى جانبه لكن دورها يبقى ثانويا، فالنص العجائبي باعتباره يندرج ضمن الغريب والعجيب والخارق، فإنه يتجاوز القوانين العقلية ويوظف رؤية تقدم تحولات العلائق مع الطبيعة وما فوق الطبيعة ومع الذات ومع الآخر ومع الواقع واللاواقع الأمر الذي يستدعي قارئاً ضمنيا مفترضاً يتفاعل مع النص.
تضمن كتاب تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي بعض النصوص المنضوية تحت جنس العجائبي، مثل المخطوط الموجود في سرقسطة الذي يجسد نموذجا مثاليا للتردُّد بين تفسير واقعي وتفسير غير واقعي للأحداث مع ما جاء في كلامه من كون هذا التّردد لا يستمر إلى نهاية المخطوط، فالعجائبي بالنسبة له معرض للمخاطر وللتلاشي في كل لحظة ويظهر أنه بالأحرى ينهض في الحدّ بين نوعين هما العجيب والغريب أكثر مما هو جنس مستقل بذاته، وتعد حقبة الرواية السوداء The Gothic Novel التي تضمنت ما يثبت انتمائها للأدب العجائبي من أعظم حقب الأدب فوق – الطبيعي، التي ميز تودوروف داخلها بين اتجاهين: "اتجاه فوق الطبيعي المفسَّر (ويمكن أن يقال إنه اتجاه «الغريب») كما يظهر في روايات كلارا ريفيس وآن راد كليف واتجاه فوق الطبيعي المقبول (أو اتجاه «الغريب») الذي يضم آثار هوراس والبول، م،ج. لويس وماثوران. فهنا لا يوجد العجائبي بحصر المعنى إنهما مجرد جنسين مجاورين له" وسعيا من تودوروف لضبط قوانين الجنس العجائبي، فإنه نص على ضرورة التزام القارئ منهجا قرائيا قوامه القراءة الحرفية والابتعاد عن التأويل الأليغوري والتأويل الشعري.
بالرغم من كون العجائبي جنسا أدبيا له مرتكزاته وتصوراته النظرية والمنهجية التي تجعله مختلفا ونوعيا عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، فإن حدوده التي يرسمها مع باقي الأجناس الأخرى يمكن اختراقها وتجاوزها فكل من الرواية أو الأسطورة أو الملحمة أو التراجيديا أو المسرح أو الحكاية الشعبية أو الخرافية أو السيرة الشعبية أو الحكاية العجيبة تنضوي تحت لواء العجائبي.
نحا تودوروف إلى الاهتمام بالخاصية الدلالية أو الموضوعاتية للعجائبي، بوصفها إدراكا خاصا لأحداث غريبة، فصنف موضوعات العجائبي ضمن شبكتين من الموضوعات: موضوعات الأنا وموضوعات الأنت، ويعرف تودوروف موضوعات الشبكة الأولى (الأنا) بقوله: " إن المبدأ الذي اكتشفناه ينماز بوصفه وضعا للفصل بين المادة والروح موضع سؤال. هذا المبدأ يَسِمُ بميسمِه العديد من الموضوعات الأساسية من سببية خاصة وحتمية شمولية ومضاعفةٍ للشخصية وتحطيم للفصال بين الذات والموضوع ثم تحول الزمن والفضاء، وهي قائمة ليست شاملة لأنها تجمع "العناصر الأساسية للشبكة الأولى من الموضوعات العجائبية" ، أما الشبكة الثانية من موضوعات الأنت فتبقى الرغبة الجنسية نقطة انطلاقها؛ "لأن الأدب العجائبي "يتعلق بوصف الأشكال والتحولات المختلفة (الرغبة والقسوة) أو التحريفات والاهتمامات التي تخص الموت والحياة بعد الموت والجثث والهامِيَّةَ Vamparisme المرتبطة بموضوعات الحب، ولا يتجلى فوق - الطبيعي بالحدَّة نفسها في كل حالة من هذه الحالات فهو يظهر ليقدم قياس الرغبات الجنسية القوية بصفة خاصة وليدخلنا في حياة ما بعد الموت وبالمقابل لا تترك القسوة أو التشويهات الإنسانية عامة حدود الممكن ولا يتعلق الأمر إن جاز القول إلا بغريب بعيد احتمال اجتماعيا" .
تحتفظ دراسة تودوروف للأدب العجائبي براهنيّتها، لأنها حاولت التنقيب والتفتيش عما ظل مغيباً ولم يتم كشف النقاب عنه فيما بعد إلا من خلال الدراسات التي قام بها علماء التحليل النفسي، وقد تصدر الأدب العجائبي مركز الصدارة خاصة في كتابات جوهرية من أمثال كتابات (إذكار آلان بو و تيوفيل كويتر فومان لوفيكرافت، لزفال، مويسان...)، التي ابتكرت لغتها وبنياتها بشكل شخصت فيه كل ما هو غريب ويبعث على القلق والحيرة إنها "الغرابة المقلقة " "التي تحدث عنها سيغموند فرويد Sigmand Freud التي تسكن في أعماقنا وتفاجئنا من حين لآخر فتخلخل حياتنا التي كانت تبدو من قبل متماسكة صلبة لا شيء يمكن أن يعكر صفوها" . وساهم الجنس العجائبي بشكل كبير في توسيع دائرة الأدب من خلال التحولات التي شهدتها سياقات تمثيل الأشياء لمختلف الصور المتخيلة المبثوثة في النص العجائبي من خلال إمكاناتها الدلالية وإيحاءاتها المتنوعة المظاهر فوق الطبيعية المانعة لفهم الواقع، لأنها تعيد النظر في الطرق المشتركة للإدراك، فتتحول بذلك المادة الحكائية العجائبية ذات البناء القصصي العجائبي من متخيل سائب إلى عرض متناسب قائم على التتابع المنظم والسببي، فيتشكل بذلك جنس تحليلي واع مبني ومتماسك تشتغل على نمطه شبكة من العلاقات الزمنية والمكانية والسببية القائمة بين عناصر النص التي يحدث بها انسجامه، منتجا طاقة جمالية تثير في المتلقي شعور الدهشة والمفاجأة الذي يستثار من اجتماع عالمين: عالم المألوف وعالم المستحيل الحقيقي واللاحقيقي.
لائحة المصادر والمراجع:
• تزفيتان تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، تر: الصديق بوعلام، تقديم محمد برادة، (دار الكلام- الرباط 1993 ).
• جان بيلمان – نويل، التحليل النفسي والأدب، ترجمة وتقديم: حسن المودن، (دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع).
• عمري بنوهاشم، «مفهوم العجائبي من منظور غربي» ، البلاغة وتحليل الخطاب، (عدد: 12، 2018)، ص-ص: 55-56.
• محمد القاضي، معجم السرديات، تأليف جماعي، (دار محمد علي للنشر- تونس، ط: 1، 2010)
• Sigmand Freud , l’ynquiétante étrangeté, traduction deMarie Bonaparte et E.Morty, introduction et commentaires par François Stim.