عمار علي حسن يكتب: هل تعوض المقاومة غياب نصر الله؟
ما فعلته إسرائيل باغتيال حسن نصر الله، ومن قبله إسماعيل هنية، وغيرهما، هو "إرهاب دولة" لا علاقة له بجريان الحرب، وقوانينها وأعرافها ومقتضياتها وتاريخها.
هنا لا يمكن للمرء هنا أن ينسى قول أخت صالح العارورى القيادى الفلسطينى الذى اغتالته إسرائيل أيضا قبل شهور: "كل طفل فلسطينى قائد"، فمن يتابع رجال المقاومة يرى أنها قادرة دوما على تعويض القيادة، حيث تربي الجماعات أو التنظيمات أو الفصائل المقاومة أتباعها فى ظل تسلسل قيادى، وهى تضع فى اعتبارها أن رجالها مطاردون، قد يُقتلون أو يُسجنون أو يتم نفيهم واستبعادهم عن الساحة، وعليها أن تجعل مخزنها البشرى عامرا بالبدائل، فإن غاب شخص، وترك فراغًا، سرعان ما يتم ملؤه بشخص آخر، يكون قد تم تجهيزه لهذا اليوم.
وليست التنظيمات ذات الأيديولوجيات السياسية الدينية استثناء من هذه القاعدة، بل هى تمارسها ربما أكثر من غيرها، كما تنبئنا تجربتها ليس فى فلسطين فحسب، إنما أيضًا فى كل الدول الإسلامية التى وجدت فيها، وعاشت فى خطر، أو انخرطت فى تحديات شديدة، بسبب سعيها إلى تحقيق أهدافها.
وفى الأراضى الفلسطينية المحتلة وفي جنوب لبنان تزيد التحديات بالطبع أمام مثل هذه التنظيمات أو الفصائل، إذ إنها مستهدفة طوال الوقت، وليس لديها فرصة لالتقاط أنفاسها، ومطلوب منها العمل النضالى المستمر بلا هوادة، وأن تظل غريزة البقاء لديها يقظة على الدوام، فيما تجد صعوبات جمة فى التعبئة والتجنيد.
وهناك ثلاثة أمور أساسية تتعلق بقدرة المقاومة على تعويض قياداتها، أو ملء الفراغ الذى يترتب على فقدان بعضهم: أولها أن هذه التنظيمات قد اعتادت الموت غير البيولوجى لقادتها، فهؤلاء لا يضمنون البقاء على قيد الحياة حتى يبلغوا من الكبر عتيا، إذ يمكن أن تخطفهم يد الموت فى أى وقت، حتى لو كانوا خارج الأراضى المحتلة، بفعل يد سلاح الجو الإسرائيلى الطويلة، وقد لا يقتلون لكن يؤخذون إلى غياهب السجون ويمكثون فيها زمنًا طويلًا، منعزلين عن الميدان، فى حال هى أشبه بالموت.
إن إسرائيل لم تكف عن تعقب القيادات منذ اغتيال غسان كنفانى فى لبنان عام ١٩٧٢ وحتى نصر الله وبعض قيادات المقاومة اللبنانية، مرورا بكثيرين مثل الشيخ أحمد ياسين وفتحى الشقاقى وأبو على مصطفى وحسن سلامة وعبد العزيز الرنتيسى، بل إنها قتلت ياسر عرفات نفسه بالسم، كما يؤكد كثيرون، لكن الساحة الفلسطينية تمكنت على الفور من التعويض، وترميم الشروخ.
الأمر الثانى هو غزارة التعرض لمهارات اكتساب القيادة لدى حركات المقاومة، ففضلًا عن التدريب الذى يتم على هذا فإن أسلوب حرب العصابات الذى تتبعه المقاومة يجعل الفرد فيها مجهزًا لاتخاذ القرار، أو إصدار الأمر لنفسه فى ميدان القتال، وليس مقيدًا، مثل الجندى فى الجيش النظامى، بالأوامر التى تأتيه من قيادته المباشرة، والتى تكون بدورها قد تلقتها من قيادة تعلوها.
أما الأمر الثالث فيرتبط بالتركيبة العمرية للقائمين بالعمل المسلح، حيث يجب أن يكونوا جميعًا أو أغلبيتهم الكاسحة من الشباب القادرين على القتال، وتسود فيهم هذه الطبيعة الشبابية، ما يمنحهم فرصًا متواصلة لإفراز العناصر المؤهلة للعب أدوار قيادية. وكان على حركات المقاومة أن ترفد حياتها على الدوام بصنفين من القيادات، الأول هو قيادات عسكرية ميدانية تخرج من رحم التدريب الشاق والكتمان الأشد، والآخر هو قيادات سياسية، لها هامش من الخطاب المرن، والحركة الحرة نسبيًا، وهى تتعامل مع الداخل فى تنظيم شؤونه وإدارتها، ومع العالم الخارجى، حيث التمثيل السياسى، وإعلان المواقف، والتفاوض.
وتوضع صور هذه القيادات على جدار النضال زمنا، ويعتاد الناس على وجوهها، لكنهم يستيقظون صباحا ليجدوها قد اختفت، وهنا يُطرح السؤال: من بوسعه أن يأتى بعد هذا، ويعوض غياب ذلك؟، ولا تمر سوى ساعات حتى يجد المتسائلون وجها جديدًا قد خرج إليهم، وأطل عليهم، ليملأ عيونهم.
إن المقاومة تدرك أن مسيرتها نحو التحرر طويلة وشاقة، ولذا تتصرف كما تفعل شركات الطيران فى رحلاتها، فتضع إلى جانب الطيار مساعدًا له لا يقل عنه كفاءة، أو يمتلك القدرة نفسها فى أن يصل بالطائرة إلى محطة الوصول إن جرى للطيار الأصلى مكروه. ويصبح هذا الأمر ضرورة أكثر فى الرحلات البعيدة جدًا.
وبالطبع فإن كل المجتمعات السليمة، والدول فى حال قوتها، تمتلك قدرة على إنتاج البدائل بما فيها القيادات الإدارية والسياسية والعسكرية، بل وفى الاقتصاد والثقافة، لكن هذا مع فصائل المقاومة، وفى أى زمان أو مكان، يختلف فى مسألتين، الأولى أن القيادة تكون فى الغالب مغرمًا وليست مغنمًا، لا سيما بالنسبة للقيادات العسكرية أو الأمنية، التى عليها أن تضع رؤوسها على أكفها طوال الوقت.
والثانية أن وتيرة الإحلال والإبدال فى القيادات عند المقاومين تكون أسرع لا يعنى كل هذا أن المقاومة لا تخسر بقتل أو غياب بعض قادتها، لا سيما النبهاء الأذكياء الشجعان منهم، لكن هذا بعض قدرها، الذى تؤمن به، بل يمكن أن يفيدها فى كثير من الأحيان، لأن القتل، على بشاعته، يعطى قادتها فرصة ليبرهنوا على أن مصيرهم لا يختلف عن مصير أفراد المجتمعات الحاضنة للمقاومين، وأن دماءهم ليست أزكى من دماء الذين يساندونهم، ويعولون عليهم.