ملف خاص عن عمل واعد
سلمى براهمة تكتب: ارتفاع الصوت الداخلي وتجاذبات اللايقين والرؤية الأنثوية في "حين يغيب العالم"
تمهيد
يبدو أن القاصة المصرية الشابة فاطمة الشريف تنحاز في مجموعتها القصصية الأخيرة "حين يغيب العالم" للاهتمام بطرائق الكتابة وصيغ التعبير القصصي، وتؤثر الانشغال بالمبنى دون أن يعني ذلك التضحية بالمعنى، وهذا ما يجعل مجموعتها تدخل ضمن الكتابة القصصية الجديدة. وسيعزز اختياراتها الفنية هاته كون "المعنى" الذي راهنت على ملامسته يصعب القبض عليه، لأنه مفتوح على التعدد والاحتمال. لقد اختارت فاطمة الشريف الاقتراب من العوالم الداخلية للإنسان المغرقة في الغموض والتضارب والالتباس. وحاولت الغوص في أعماق الذات البشرية، وإرهاف السمع للشخصيات القصصية في لحظات تستبطن فيها ذاتها، وتستعرض عقدها وتناقضاتها، وهي تحاور نفسها، وتصارع أناها العميق أو آخرها الخفي المتواري في عمق الظلام، لكنه يتحكم في كل السلوكات الظاهرة والمشاعر الكامنة أو المعبر عنها.
وغني عن البيان بأن الكتابة الجديدة أو ما عرف أيضا بالتجريب انطلق في المشهدين الأدبي والثقافي العربيين منذ السبعينيات من القرن الماضي، استجابة لتحولات وتفاعلات اجتماعية وإيديولوجية، وقبله انتشر الاستبطان الذاتي في القصة والرواية مع تيار الوعي في محاولة للخروج عن الواقعية وأساليب الكتابة الأدبية الكلاسيكية. ولا يعني هذا أننا أمام خيارات فنية تجوزت، ولكنها خيارات تعكس وعيا جماليا مميزا لدى الكاتبة الشابة، وذائقة فنية تستهجن الخطابي المباشر واللغة القصصية الواثقة، وتؤمن باعتقاد أحد النقاد السيميائيين "أن الرسالة الأدبية كلما جنحت إلى الإعتام وابتعدت عن الوضوح والمباشرة كلما زادت طاقتها الإعلامية أو البلاغية"
اللعب الفني ورهانات الكاتبة
لقد راهنت الكاتبة الشابة في هذه المجموعة القصصية على الاشتغال على الجانب الذهني والنفسي أو السيكولوجي للذوات الإنسانية، وهو ما يجعل أول اقتراح يوضع أمام الباحث هو إدراج هذه القصص ضمن قصص "تيار الوعي"، وقراءتها في هذا الإطار. ورغم أن "أسرع ما يتعرف به على روايات "تيار الوعي" هو مضمونها، فيما يرى روبرت همفري، فذلك هو ما يميزها، لا ألوان التكنيك فيها، ولا أهدافها، ولا موضوعها" إلا أن هذا التيار ترسخ في أدبنا العربي (سواء في الرواية أو القصة) وخاصة مع الأدباء المصريين (نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم، بهاء طاهر...)، بمضمون متلازم مع تقنية، الواحد يستدعي الآخرى، ويفترض توفرها. وكل هذا يعني أننا في قصص فاطمة الشريف في مجموعتها "حين يغيب العالم" سنكون أمام بناء قصصي تتوارى فيه الحبكة التقليدية، ويهيمن الضمير الأول للحكي، ويطول التداعي، وتكثر المونولوغات أو الحوارات الداخلية والمناجاة، ونكون أمام أفكار وتأملات ومشاعر وأحاسيس وذكريات أكثر ما نكون أمام أحداث أو مادة حكائية، كما نكون أمام بدايات غامضة مبهمة مضللة، سرعان ما تسلمنا لنهايات خارقة لأفق انتظار القارئ، بل مسلمة هذا القارئ للتوتر، والتيه والسؤال والحيرة. ولعل الأثر المترسب عما سبق (إن كان لابد من الحديث عن الأثر ونحن إزاء هذا النوع الأدبي المخاتل) هو أن المساحات المعتمة في حياة الإنسان صارت أكثر من المساحات المضاءة، وأن الغياب والفراغ بكل ألوانه، والصمت واللاتواصل والوحدة والحزن والحيرة والأقنعة والتيه والضياع واللاجدوى هي المآلات التي يجد الإنسان نفسه فيها في زمن التكنولوجيا والعولمة والمزيد من مواقع التواصل الاجتماعي. ويكون دالا الإشارة هنا إلى أن أولى العتبات (العنوان الخارجي والعناوين الداخلية) ستسهم في بناء هذا الأثر، تاركة مهمات إتمام البناء لمجموع التقنيات المشار إليها أعلاه، من شخصيات وتيمات ولعب فني، وهو ما سنحاول الوقوف عند بعضه في هذه الورقة.
الشخصيات القصصية والصوت الداخلي
إن الملاحظتين الأوليين اللتين يمكن تسجيلهما بخصوص شخصيات قصص "حين يغيب العالم" هما:
أولا: باستثناء القصتين الأخيرة والأولى، أي قصة "على حين غفلة" والتي قد يكون المتحدث فيها هو الضوء أو حامل هذا الضوء مثل المصباح، وقصة "موجة لا تعود للبحر" والتي يمكن القول إن شخصيتها الرئيسة هي الجنين، الذي قد يكون أنثى أو ذكرا، باستثناء هاتين القصتين، فإننا نجد تقاربا كبيرا بين عدد الشخصيات السراد النساء، والشخصيات السراد الرجال، فأمام عشر ساردات هناك ثمانية سراد، ولهذا دلالته التي سنبرزها في نهاية هذه الورقة. لكن عدا عن تحديد الجنس (ذكر، أنثى أو امرأة، رجل) لا نجد الكثير من التعيينات والخصوصيات، فأغلب هذه الشخصيات لم تكن تحمل أسماء علم (باستثناء ربما واحدة (أيوب))، وقلما يتم تقديم أوصاف وملامح خارجية دقيقة لها (باستثناء العمر في حالات قليلة جدا (عجوز، شاب في الثلاثين))، كما لا نجد تحديدات قد تحيل على جماعة ما بخصوصيتها الاجتماعية والنفسية، والثقافية، وأقصد هنا: المهنة، المركز، العرق، الدين، السكن، أو الانتماء ( الطبقي، العقدي، الفكري، أو الإيديولوجي...) بل حتى العالم الخارجي يغيب فعلا، ونكون أمام أمكنة مطلقة: الشارع، المحل، المقهى، إلى جانب الأمكنة المغلقة، نتحدث هنا عن غرفة النوم، غرفة المكتب، الشقة، المنزل... وأحيانا يختفي المكان أو يكون ضبابيا... وكل هذا يقودنا إلى افتراض أن الرهان الأساسي في مجموعة فاطمة الشريف كان هو الإنسان/ الفرد، وعوالمه الداخلية، وهذا ما سنقف عنده في الملاحظة الموالية.
ثانيا: ما يميز هذه الشخصيات أنها تضطلع بدور السارد أيضا، إذ يهيمن على كل القصص السرد بضمير المتكلم( وهناك من يعتبر ضمير المخاطب، والذي وظف في القصة الأولى في المجموعة، تنويعا على ضمير المتكلم) وهذا ييسر محاولة الاقتراب من حقيقة هذه الشخصيات باعتبار ضمير المتكلم هو ضمير الانفعال وقول الحقيقة، وبصفه ضميرا يحيل على الذات مباشرة ودون وساطة. لذلك سرعان ما نكتشف أن هذه الشخصيات (حتى شخصية الجنين أو الضوء)، تعيش صراعا وتوترا وقلقا وحزنا وانكسارا، وهي تصارع وحيدة، معزولة، وتواجه هذا الخفي الغامض المستور (دلالات الجنين) الذي يقبع بداخلها، باحثة عن الحب والأمان والمعنى والتواصل، لكن دون جدوى. هكذا يختفي الخاص لصالح الذوات البشرية، لصالح الإنساني العام، ويخفت صوت الخارج ليعلو صوت الداخل ويطفو على السطح، وتتوارى الأحداث وتطوراتُها، لكي لا تظل سوى حالات وانفعالات، وصراعات ذهنية وسيكولوجية، أي صراعات بين أفكار ووجهات النظر، وبين مشاعر وأحاسيس ورؤى وخيالات.
صراع داخلي وحوار خارجي
إن الصراع الداخلي تيمة أساسية في قصص فاطمة الشريف، ومن خلالها بني اقتصادها الدلالي، ولكن اللافت في هذا العمل، هو اعتماد القاصة في العديد من القصص على الحوار الخارجي لتجلية هذا الصراع الداخلي، والذهاب به حتى حدوده القصوى. وهو ما يدخل في إطار اللعب الفني، فنكون ظاهريا أمام حوار بين شخصيتين، أو صوتين متعارضين أو مختلفين، ويتضح في النهاية أننا أمام مونولوغات أو حوارات داخلية لاغير. وسيكون لهذه التقنية وظائف جمالية واضحة، إذ على عكس تقنيات التداعي والمناجاة وبعض الحوارات الداخلية التي تعتمد عل انسيابة السرد واسترساله وربما تكراره ورتابته، سيكسر الحوار الخارجي الرتابة، ويخرق التوقعات، ويبعد القصة عن المباشرة والوضوح، ويعزز أجواء التوتر والقلق.
هكذا تطرح في قصة "الفراشة النائمة" إشكالات الكتابة ومنزلقات خلق الشخصية وأدوارها لدى الكاتب من خلال الحوار بين هذا الكاتب وإحدى شخصياته الخارجة للتو من الصفحة، والرافضة للمصير الذي منحه لها داخل العمل الروائي الذي يشتغل عليه. وفي قصة "يختبئ خلف التفاصيل" يتجسد الصراع النفسي لدى الشخصية من خلال حوار هذه الشخصية الوحيدة الحزينة والمنعزلة مع الصوت المحرض على الحياة الداعي للاحتفال مع الأصدقاء بعيد الميلاد، الصوت المستيقظ دائما، و"لا ينام حتى عندما أنام" كما يقول السارد. أما في قصة "بين يديه" فلا نجد حوارا خارجيا مطولا كما في القصتين السابقتين، ولكن "الأنا" التي تصارعها الشخصية في هذه القصة كانت تتخذ هيئة "رجل غريب" يعود أياما ليلازمها، ثم يختفي أياما أخرى، وستدور أحداث القصة حول محاولة الشخصية التخلص بكل الطرق من هذا الغريب/ الشبيه، لدرجة أن يستدعي أحد الأصدقاء لمعاينة المنزل وتأكيد أن لا وجود لاحد. أما في قصة "رأسي أكبر من جسدي" فإن الحوار بين المرأة المتجولة في الشارع ليلا، والرجل "هائل الجسم، عظيم الهيئة" الذي اعترض طريقها، أو "زرادشت" كما يعلن عن ذلك الحوار، سيتضح في النهاية أيضا أنه مونولوغ، لأن الرجل سيختفي فجأة، ولا تظل إلا المرأة والليل والوحدة والفراغ. وتجذر الإشارة هنا إلى أن استدعاء هذه الشخصية "الروحية، الفلسفية" سيجعل من هذا المونولوج، حوارا عميقا مع الذات، وطرحا لأسئلة جوهرية تخص الإنسان عموما ومشاعره وأفكاره وقيمه وطبيعته البشرية (مثل الخوف، السعادة، الألم، المحبة، القيود المجتمعية، الحرية، العزلة، والوحدة...) ولنقرأ جمل البداية في هذه القصة: ""انتبه أيها الإنسان! لما يحدث منتصف الليل العميق" بصوت عال أردد هذه الكلمات، وأمشي، وأتموج، وأرقص. الشارع خال تماما... صراخ بداخلي يريد أن يعبر عن نفسه، طال كتمانه..."، ويمكن إدراج قصص أخرى في هذا السياق مثل قصة "خضوع" وغيرها.
ظلال فان جوخ
نحن إذن أمام نساء ورجال يستبطنون ذواتهم، يسائلون عجزهم وحيرتهم، يتخبطون في الوحدة والوحشة والفراغ والعتمة، يبحثون دون جدوى عن الحب، والبيت، والحرية والتواصل، ويتأملون ... ويحزنون، يفكرون في "لا جدوى الحياة"، وفي "أن عبثية الحياة تتفاقم" لكنهم يصارعون للخروج إلى هذه الحياة، ويقاتلون من أجل أن يروا النور(القصة الأولى) لكن سرعان ما يعملون على مواراة هذا الضوء ويكسرون المصباح الذي يحمله (القصة الأخيرة).
وستكون فاطمة الشريف وفية لبعض سمات النوع الذي تكتب في إطاره، إذ إن أهم خاصية تميز القصة، أو ربما هي الخصيصة الأقوى، هو اعتمادها، كما يقول توماس بافل وبخلاف بعض السرود القديمة التي تقدم لنا أبطالا خارقين، على الشخصيات الناقصة أو الشخصيات التي تعاني نقصا لا يمكن علاجه. وقبله بسنوات طويلة أكد فرانك أوكونور أن القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل قط، بل إن شخصياتها كانت دائما جماعة مغمورة تبحث عن مخرج. ويستند أوكونور إلى أمثلة من أعمال غوغول، وأنطون تشيخوف، وتورجنيف، وموباسان ليخلص إلى أنه "يوجد ضمن الخصائص الغالبة للقصة القصيرة شيء لا نجده كثيرا في الرواية، إنه الوعي الحاد باستيحاش الإنسان". ولا بد من القول إن فاطمة الشريف تحاول في قصص مجموعتها الأخيرة أن تجعل هذه الوحشة أقسى وأقوى بلفها بالكثير من الغموض والالتباس والعوالم الضبابية التي تجمع بين الرمز، والمفارقة والتقابل والتضاد والإلغاز والمراوحة بين التصريح والتلميح والعجيب أحيانا، وأيضا من خلال الانفتاح على خطابات أو فنون أو رموز أو قصص حياة تدعم هذه المشاعر والأحاسيس والمصائر والعوالم، وذلك ما نجده في قصة "عتمة ونور"، التي تستثمر فيها الكاتبة جماليا ودلاليا نتفا من حياة الرسام الهولندي فان جوخ وبعض لوحاته وقصصه الغريبة. ويبدو أن مجرد استدعاء هذا الاسم إلى نص أدبي، سيتداعى معه عالم من القسوة والوحشة والوحدة والبؤس والفقر والاغتراب وخيبة أمل وعبثية الحياة. لكن الكاتبة لن تكتفي بالإشارة إلى الاسم، بل ستستلهم الكثير مما روي عن هذا الفنان، وما عكسته لوحاته التي لم تحظ بالتقدير المادي والمعنوي إلا بعد وفاته، مثل ولعه بالطبيعة، وافتتانه باللون الأصفر، واستئجاره بيتا أصفر، وبحثه عن الحب والأمان، والكثير من القصص الأخرى المحاطة، مثل لوحاته، بالغموض والالتباس، والمنفتحة على التعدد والاحتمال والمزيد من التأويل. ونشير هنا إلى قصص فان جوخ مع الحذاء، والمشي حافي القدمين، مع فتاة الليل.... تستلهم القاصة كل ذلك لتعيد بناءه تخييليا، في قصة عجوز تائه في الشوارع، يحمل مصباحا في يده وحذاء مهترئا، ويبحث ليلا عن بيته الأصفر. ولا حاجة للقول هنا: إن التخييل ينأى بنا عن الحقيقي والمرجعي، ليلقي بنا في رحابة الخيال والسؤال والظنون والاحتمال والنسبي، ويخرجنا من ضيق التجربة الخاصة إلى شساعة الإنساني العام.
لعبة النهايات والدعوة إلى قراءات متجددة
لعل من أهم المحطات في القصة القصيرة هي النهاية، وطبيعة النهاية غالبا ما يحدد أثر القصة ككل، ووحدة الانطباع التي تميزها عن الرواية والسرود الطويلة. ورغم خلو الكتابة القصصية الجديدة من حبكة واسترسال وخطية للسرد تناسب تعاقبا للأحداث، إلا أننا يمكننا الحديث عن النهاية، النهاية التي لا تخلّف إلا توترا للقارئ، وأسئلة مفتوحة، ودعوة ملحة للبدء من جديد وتجربة قراءات أخرى. ولم تخرج نهايات قصص الشريف عن هذا المنحى، إذ تجعل القارئ يكتشف أنه كان أمام أحلام ورؤى وخيالات وتداعيات، لأن السارد في آخر النص يستيقظ من نوم، أو يعود من رؤى أو حلم يقظة، أو يدون آخر جملة، في كتاب له أو رواية أوحى بها خياله في وقت متأخر من الليل. وهذه النهايات تسوغ من جهة، للقارئ هذه المشاعر المضطربة والأفكار الغامضة والعوالم الغريبة التي أنهى للتو قراءتها، وتحرضه من جهة ثانية على فعل قراءة جديد ربما يفك المزيد من مستغلقات النص.
لعبة العنونة الداخلية والتقطيع والتجزيئ
من أصل عشرين قصة تعتمد ثماني قصص في المجموعة القصصية "حين يغيب العالم" في بنائها على التقطيع أو التقسيم إلى مقاطع سردية صغرى، تفصلُ بينها أرقامٌ، أو عناوينُ فرعية. والعناوين الفرعية هي عتبات، والعتبة تعلن عن إقحام الكاتب لنفسه داخل عمله، وتلح على توجيه القارئ لقراءة محتملة، لذلك يتحدث النقاد عن كون "كل عتبة تمثل التعبير عن موقف ما، وتضطلع بدور أساسي في ولوج القارئ إلى عالم الكتابة وتوغله التدريجي فيه، لأنها تحدد ملامح هوية النص، وتقدم عنه إشارات أسلوبية ودلالية أولية...". خاصة إذا ما انبنت هذه العناوين على التكرار، الذي ستستثمر كل ظائفه الجمالية والبلاغية، ففي قصة "آهات الفراغ" مثلا، تتوالى العناوين الآتية: الفراغ المحسوس، فراغ المعنى، فراغ الصورة، فراغ الوقت، فراغ الصوت، فراغ الجسد، فراغ القلب. والصيغة نفسها نجدها في قصص أخرى مثل قصة "الخضوع" وقصة "يختببئ خلف التفاصيل". وإذا كانت هذه العناوين تلح على كثافة دلالية ما، فإن التقطيع يجعل القصة تتوزع بين سرد الأحداث، واللوحات تأملية، والشذرات، ومقاطع وصفية، ومشاهد حوارية، كما يسمح بانتقالات فجائية للسارد، ودون مسوغات من موضوع أو حدث إلى موضوع أو حدث آخر، ومن مكان إلى مكان غيره. ومن شأن كل هذا كسر خطية السرد، وإبعاد النصوص عن أساليب الكتابة القصصية التقليدية، وتعزيز طاقات الغموض والإلغاز والتلميح والتوتر.
بين اللايقين والرؤية الأنثوية: قصص منفلتة
صحيح أن اللعب الفني في إطار التجريب والتجديد الذي ابنّا بعض أوجهه، يؤكد رغبة الكاتبة في الاشتغال المغاير، وفي الاهتمام بالبعد الجمالي وتقنيات القول القصصي، ورغم كون هذا الاهتمام بالجانب الفني جعل بعض النصوص أشد غموضا من أخرى، وجعل الإمساك بالموضوع أو الموضوعات المطروقة أكثر تمنعا في بعض القصص. لكنه يعكس أيضا رؤية "اللايقين" إلى العالم والذات والوجود، "اللايقين" الذي صاحب ظهور التجديد والتجريب في الكتابة الأدبية العربية روائية وقصصية ومسرحية وشعرية، وربما تجلى أكثر في الرواية العربية بوصفها "ديوان العرب الجديد"، واتضح من خلالها أن هذه الكتابة الجديدة "تعبير فني عن حدة الأزمات المصيرية التي تواجه الإنسان، فالذات المبدعة تحس غموضا يعتري حركة الواقع ومجراها، كما تشعر بأن الذات الإنسانية مهددة بالذوبان أو التلاشي. وفي ظل تفتت القيم واهتزاز الثوابت وتمزق المبادئ والمقولات وتشتت الذات الجماعية وحيرة الذات الفردية وغموض الزمن الراهن والآتي وتشظي المنطق المألوف والمعتاد..." تأتي الكتابة السردية الجديدة لتتمرد على الكتابة التقليدية وكل الثوابت الأدبية وتتجاوزها.
ووسط هذا "اللايقين"(الذي قد تتفاوت حدته من الرواية للقصة لاعتبارات تخص النوعين) كانت هناك قصص تبدو منفلته ببعديها الدلالي والإيديولوجي الطافحين، بل إن الرؤية الأنثوية برزت أيضا في هذه النصوص، فقصة "وااااو" تلتقط لحظات التواصل التي تحجب لا تواصلا حقيقيا تتسع دائرته في عصرنا الحالي، إنه التواصل الفج أو السطحي في مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يكشف مدى التباعد الحاصل بين رواد هذه المواقع. ولبناء هذه الدلالة تستغل الكاتبة المعجم الهجين لمواقع التواصل الاجتماعي منذ العنوان، وتوظف أسلوب السخرية، لتدرج تعليقات المتدخلين الذي يتزايد عددهم كلما كان الموضوع تافها، ولتشير إلى أسمائهم المستعارة المفارقة (زهرة الربيع، أمل الوجود، الشاعر الكبير عبد الله العارف...) وإلى ردود بعضهم التي لا تمت بصلة للتدوينة التي نشرتها الشخصية الرئيسة على صفحتها. وقد يتحول الرد عند بعض الرجال إلى الصندوق الخاص، لإلقاء تحية المساء. كما قد تؤكد الردود والتعاليق على أن المنشور، موضوع النقاش، لم يقرأ من الأساس، تقول الساردة في قصة وااااو: "التعليق الستين، كان من رجل وسيم جدا باسم "السيد مراد":
- ما شاء الله شعر جميل جدا.
- ليس شعرا فهي مجرد جملة.
- منتهى الإبداع.
- ما الذي وصلك منها؟
- رقة وعذوبة.
سكتُّ، يبدو أنه لم يقرأ المنشور من الأساس".
وإذا كان هذا اللاتواصل الإنساني يتضح بقوة في قصة "واااااو"، فإن الجدير بالانتباه هو أن اللاتواصل بين المرأة والرجل سيمتد على مدى كثير من نصوص المجموعة، وسيشكل موضوعها الأساس، إذ تلامس أغلب القصص علاقة التوتر والتنافر والغموض التي تطبع علاقة المرأة بالرجل، كل واحد منهما يبحث عن الحب عند الآخر ولا يجده، ويجهل الواحد منهما حقيقة الآخر، لذلك تبدو المشاعر بين الإثنين ملتبسة، وتغدو المواقف إزاء بعضها البعض مشوشة قلقة مستفزة، نقرأ مثلا في قصة "الفراشة النائمة":
"-أنت لا تعرف شيئا عن المرأة
– وأنت هل تعرفين شيئا عن الرجل؟"
ولا يمكن أن يقود هذا التوتر إلا إلى الانفصال والتباعد، أما الاتصال الحقيقي فيبقى المأمولَ والمرغوب فيه في هذه القصص، هكذا حينما تحس الساردة في قصة "إشارات تلوح لي" بالدفء والأمان وعمر يحضنها ويبادلها الحب، تستفيق في نهاية القصة على كون ما سبق كان جزءا من خيالات عابرة أو حلم يقظة، لأن عمر كان مع امرأة أخرى في المقهى التي كانت تجلس بها. ويتذكر السارد في قصة "الشارع المطل على بيتها" الفتاة التي أحب كل ما مر من الشارع الذي تقطن به، لكنه سرعان ما ينفض عنه الذكرى ويمضي متجاوزا كل شيء. أما في قصة "الجرح الذي يصدر صوتا" فإن الزوج الذي أتى بزوجته صبيحة ليلة الزفاف، مثقلا بهم السؤال: لماذا لم ينزل منها دم، وهل هي غير بكر؟ لم يثق في تفسير العلم لمشكلته، ووثق بقواعد النظام الأبوي وتمثلاث الفكر الذكوري عن النساء، لذلك حينما يغادر العيادة هو وزوجته تقول الدكتورة: كان "الرجل يمشي على الرصيف الأيسر والمرأة على الرصيف المقابل"، بل وحتى في قصة "رجل" التي عرفت تحايلا على الأطروحي، ومراوغة للقصدية، كانت الشخصية الرئيسة فيها امرأة تبكي بحرقة وبشكل متواصل، وحينما يسألها "رجل"، كان يلملم دمعها ويلتقطه من الأرض، عن سر هذا البكاء، تخبره أن "رجلا" كانت تحبه ولا تستطيع العيش بدونه تركها وانفصل عنها دون أن تعرف السبب. وغير خافية هنا دلالة التعميم التي يحققها التنكير لكلمة رجل.
فهل هي الرؤية الأنثوية التي تنفلت مهما حاولت الكاتبات العربيات التنكر لها، ولنتذكر ما أشرنا إليه أعلاه من وجود شبه تقارب بين عدد السراد وعدد الساردات؟ وهل هي اشتراطات ذات المبدعة المرأة التي لها وضعها الخاص اجتماعيا وثقافيا وحتى جسديا؟ قد نجد بعضا من الإجابة على سؤالنا في إحدى شهادات الروائية المصرية ميرال الطحاوي: "... النسوي الذي أتنكر له أنا بدوري مثل كل الكاتبات في عالمنا العربي، وأدعي أنه لا يخصني ولا يهمني يصبح بوابة النص ومتنه وهامشه"
خاتمة:
تكتب القاصة الشابة فاطمة الشريف مجموعتها القصصية الأخيرة "حين يغيب العالم" في سياقات أدبية وثقافية يخفت فيها صوت القصة. وتكتب في مشهد أدبي قصصي قائم على التنوع، تتعايش فيه الخيارات الفنية المختلفة، وتستمر فيه أسئلة طرحت منذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وتستجد فيه أسئلة وقضايا أخرى فرضتها العولمة وتكنولوجيا المعلوميات واندحار الإيديولوجيات الكبرى، وغياب أفكار وفلسفات وقيم وشعارات سادت في وطننا العربي فترة من الزمن، وكان لها أثرُها العميق على الأدب. تكتب فاطمة الشريف في ظل كل هذا وغيره لكنها تتخذ موقعها الواضح: موقع السؤال والتغيير والتمرد والتجاوز، موقع الإدانة والخلخلة والشك، موقع الممكن والمحتمل والمأمول، موقع التجديد والتجريب بما هو بحث دائم ومستمر عن تقنيات جديدة للكتابة.
بيبليوغرافيا:
- فاطمة الشريف، "حين يغيب العالم"، ط1، 2023، عن الهيئة العامة للكتاب، سلسلة إبداعات قصص هذا العام. والنسخة التي اشتغلت عليها هي نسخة إلكترونية معدلة عن wps office .
- شكري عزيز الماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، الكويت، العدد 355 شتنبر 2008.
- عبد المالك أشهبون، عتبات الكتابة في الرواية العربية، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، ط1، 2009.
- روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ترجمة وتقديم محمد الربيعي، المركز القومي للترجمة، ط1، 2015.
- دراسات في القصة العربية "وقائع ندوة مكناس" كتاب جماعي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط1، 1986.
- تحولات القصة الحديثة بالمغرب، كتاب جماعي، من إعداد مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، منشورات المختبرات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2010
- في نظرية القصة، كتاب جماعي، إعداد: مصطفى جباري وعبد المجيد جحفة، مجموعة البحث في القصة القصيرة، منشورات المختبرات، كلية الآداب ، الدار البيضاء المغرب، ط1، 2011.
- الرواية العربية... "ممكنات السرد"، كتاب جماعي، أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، الجزء الثاني، المجلس للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009.
- ابن منظور، لسان العرب، دار إحياء التراث العالمي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت لبنان، الجزء 15.
- رابعة الخطيب، انتحار فان جوخ بين الحب والبؤس والشعور بالوحدة، نشر في:04/09/2019 Aljazeera.net;
THOMAS PAVEL; La pence du roman; edition Gallimard; PARIS.FRANCE–2003