هلال عبدالحميد يكتب: الإجراءات الجنائية ومساعد النيابة ووزير الحربية

ذات مصر

كنت أعمل على إعداد مقال بعنوان ( السباتة  السياسية ) تدور أحداثه داخل سباته والدي بساحل سليم بأسيوط وبه حكاية لوالدي عن سعد زايد عضو الضباط الأحرار
و ثاني محافظ لأسيوط بعد عصام حسونه محافظها الأول بعد تحويل المديريات لمحافظات مع  صدور القانون رقم ١٢٤ لسنة ١٩٦٠ بتنظيم الإدارة المحلية.
 أثناء إعدادي للمقال وتدقيق معلوماته وكنت أبحث عن معلومات عن محافظ أسيوط الأول ( عصام حسونه)، فوقع تحت يدي كتاب (٢٣  يوليو.. وعبدالناصر- شهادتي عصام حسونه)  
.   مركز الأهرام للترجمة والنشر   ط أولى     ١٩٩٠
                  
فاخترت تأجيل مقال ( السباتة السياسية )    
                               قرأت  بكتاب عصام حسونة حكايته مع حكمدار المنيا  عندما كان  الشاب يعمل مساعدًا  للنيابة ، وهي تفصَّل جزئية هامة من  قانون الإجراءات الجنائية، وتؤكد تخوفات كل المعترضين على مشروع قانون الاجراءات الجنائية  ،  ومنها   منح صفة الضبطية القضائية لكل من ( هب ودب ) المادة 25’  
بل ومنح مشروع قانون الحكومة المقدم لمجلس النواب  لمأموري الضبط القضائي بداية من معاون الأمن حق التحقيق والتفتيش والقبض ومناقشة الشهود،وتحليفهم , تلك التفويضات التي يمنحها عضو النيابة بدرجة مساعد نيابة على الأقل لأيٍ من مأموري الصبط القضائي دون تحديد قانوني لدرجته (المادة (63) , بل ويمنح مشروع قانون الحكومة  كل هؤلاء- مأموري الضبط القضائي-  حق إصدار أوامر الضبط  والإحضار في حالات عدم وجود المتهم في حالات التلبس ( المادة 39)
   

   المستشار محمد عصام الدين حسونه   

تخرج عصام حسونه في يونيو 1940 من كلية الحقوق بأمتياز وعين معاونًا  للنيابة العامة ببني مزار بمديرية المنيا, ويبدو من مذكراته أنه كان  يتمتع بحس اجتماعي عالٍ إذ يقول : ( لقد آمنت, وما زلت أن عدل القاضي في محكمته هو الركيزة الأولى لعدل السلطة ,والناس ,خارج المحكمة .. وهو بداية العدل الاجتماعي يعم الوطن من أقصاه إلى أقصاه ) 
ويربط ما بين العدل الجنائي والعدل الاجتماعي فيقول ( وقد وقر في وجداني .. وما يزال ,أن شيوع العدل الاجتماعي في أرجاء مصر , هو الضمان الاول , والحصانة الكبرى ,لعدل القاضي في ساحة المحكمة ) 
وفي إضافة ذات دلالة يضيف المستشار حسونة ( كنت –إذن- رغم حرصي على احترام القانون أوظف أحكامه لصالح غدٍ أفضل , وأكرم , وأكثر عدلًا ..) 
والمستشار عصام حسون-  لمن لا يعلم – عندما كان وزيرًا للعدل  أدخل تعديلا  تاريخيًا  على قانون الاحوال الشخصية الذي ناقشه مجلس الأمة برئاسة أنور السادات وقتها بإلغاء  تنفبذ أحكام الطاعة جبرًا ) وكانت جيهان السادات وسكينة السادات تقفا  في شرفة مجلس الأمة تأييدًا لوزير العدل ولتعديلاته التقدمية, ومعهن مجموعة من السيدات يصفقن له, بينما هاجمه أعضاء مجلس الأمة ولكن السادات نفسه سانده  
وقبل أن يشغل عصام حسونة وزارة العدل كان محافظًا لمحافظات ثلاثة :أسيوط وبني سويف وبورسعيد 
وعمل بغزة رئيسًا لمحكمة غزة,وتم أسره لمدة 3 أشهرمن جنود الكيان الصهيوني  متنقلًا بين سجون غزة ومعتقل بير السبع ومعتقل عتريت وأخيرًا معتقل غزة وكان يحمل رقم 20215 حتى تم ترحيله ورفاقه من الأسرى المصريين للقاهرة عبر الصليب الأحمر
      حسونة والاجراءات الجنائية

بينما يعطي مشروع قانون الحكومة لمأموري الضبط القضائي الكثير من صلاحيات النيابة’ بل أن ممثل النيابة نفسه باللجنة الخاصة بمجلس النواب طلب تعديلًا على المادة  33 بإضافة عبارة ( متى اقتضى الأمر  ذلك) بعجز المادة لأعفاء النيابة من الانتقال  لمعاينة جناية محل تلبس
وبينما طلب ممثل النيابة ذلك , وسكت عن مواد تعطي صلاحيات النيابة لمأموري الضبط القضائي فإن 
مساعد  النيابة( عصام حسونة )أوقف التحقيق لمجرد أن حكمدار المنيا كان يحاول التدخل في مجريات التحقيق وكان الحكمدار وقتها قريًبا لوزير الحربية, ولكن معاون النيابة تمسك برايه حتى  حدثت أزمة بين وزارتي الداخلية والعدل وتمسك كل منهما بأجراء التحقيق في الخلاف بين الحكمدار ومعاون النيابة وتم حل الموضوع بأن يتولى الموضوع قاضي تحقيق 
واستأذنكم في سرد الواقعة من كتاب المستشار عصام حسونة ((٢٣  يوليو.. وعبدالناصر- شهادتي عصام حسونه) 
يقول عصام حسونه في كتابه  من ص 21: .. وقد نُقلت في بداية سنة 1942إلى نيابة ملوي .. بعد ان رقيت مساعدًا للنيابة .. وبعد ان حصلت على خبرة نفيسة خلال عملي بنيابة بني مزار 
ويواصل : وفي ملوي .. وقعت لي أخطر تجربة مررت بها في مطلع عملي بالنيابة العامة  .. وهي في نفس الوقت من أخطر قضايا الصدام بين النيابة العامة والشرطة .. بين وزارة العدل ووزارة الداخلية !

                يواصل مساعد النيابة عصام حسونة : كنت في المنيا أشارك زملائي في حفل تكريم لرئيس نيابتنا المرحوم محمد علام بمناسبة احالته للمعاش .. وبينما نحن نتهيأ للحفل وردت إشارة حادث سطو .. من نيابة مركز المنيا .. فرجاني وكيل النيابة المختص – عبدالحميد البنداري – أن انتقل للتحقيق فيها بدلًا منه .....
يواصل مساعد النيابة رواية الصدام الإجرائي قائلًا : .. انتقلت إلى مكان الحادث بعربة مأمور المركز .. وحين وصلت النقطة لأبدأ سؤال الشهود وجدت حكمدار بوليس مديرية المنيا – الاميرلاي عبدالسلام جودة – قد سبقني .. ولم أكن لأعرفه من قبل , فقد كانت نيابة ملوي التي كنت أعمل بها تابعة إداريًا لمديرية أسيوط رغم تبعيتها قضائيًا للمنيا .. وحياني الحكمدار وبدأت أسمع شهود الحادث .. وقد لاحظت منذ البداية .. ان الحكمدار لا يتورع عن التدخل في أقوال الشهود .. وتوجيهها .. بدعوى أن سعادتي لا أعرف لهجة الصعايدة .. وقد دهشت من أسلوبه .. غير المسبوق .. غير أنني كظمت غيظي .. قلت في نفسي .. لعله محق !! 
        ويواصل مساعد النيابة : ثم جاء  الدور على شاهد مهم .. وكان رئيس النقطة .. ضابطًا يحمل ليسانس حقوق .. أصله من القاهرة .. فلما بدأ يدلي بشهادته .. حتى تدخل الحكمدار في أقواله بقوله : أنت قصدك تقول لسعادة البك .. كذا .. وكذا 
وهنا أوقفت التحقيق .. وامليت كاتب التحقيق ملاحظة نصها :, لاحظنا منذ بدأنا التحقيق أن حضرة الحكمدار يتدخل في أقوال الشهود ويوجههم ألى ما يريد بدعوى مساعدتنا على تفهم لهجاتهم .. فما بدأنا سؤال ضابط النقطة .. استخدم معه نفس الأسلوب . ولما كان هذا التدخل  لا يسمح لنا بالاستمرار في التحقيق فقد اقفلنا المحضر وقررنا عرض الأمر على السيد رئيس النيابة. 
                        يواصل مساعد النيابة سرد الواقعة ذات الدلالة على  كيفية سير التحقيق وقوة شخصية مساعد النيابة الشاب المستمدة من الفصل القانوني بين مهام مأمور الضبط القضائي وعضو النياية العام فيقول  : 
  ولم يصدق الحكمدار عينيه وهو يراني أسجل تدخله ,, وآمر بوقف التحقيق فصاح مغاضبًا :< أنا أولًا  بك .. أخذت البكوية  من جلالة  مولانا الملك فكيف تثبت  في ملاحظتك حضرة الحكمدار > ؟!
ويواصل المساعد الشاب  : ولم يفتني مغزى هذه العبارة فقد اعتاد بعض كبار رجال الشرطة أن يربكوا بها العمد .. ومن في مستواهم .. حيث يقع هؤلاء في خطأ الرد .. بما يعتبر عيبًا في الذات الملكية .. وهي تهمة خطيرة 
ملكت أعصابي .. وطلبت من مأمور المركز الذي أحضرني بعربته .. أن يأمر عربته بعودتي

         صدام بين وزارتين 
             
    يواصل مساعد النيابة سرد الواقعة النموذج فيقول : وفي نيابة المنيا .. كان رئيس النيابة محمد علام .. قد بلغه ما فعلته في نقطة بوليس ماقوسة .. من وزارة الداخلية .. وزارة العدل .. فقد طير الحكمدار المعتدي الخبر إلى رئاسته على وجه أخر .. ادعى فيه أن رئيسًا للنيابة .. وافدًا من نيابة ملوي قد اعتدى على شهود الحادث فلما حاول أن يصده اعتدى عليه . وقامت الدنيا في القاهرة ولم تقعد 
   فقد كان وزير الداخلية حينئذ هو رفعة مصطفى النحاس باشا , وهو في نفس الوقت رئيس الوزراء .. وتبين أن الحكمدار قريب لوزير الحربية حمدي سيف النصر باشا .. 
     ويستمر تسلسل الأحداث فيقول مساعد النيابة :
واحتار الكبار في القاهرة ..
وزارة الداخلية ترفض أن تتولى النيابة العامة التحقيق في الواقعة – يقصد الخلاف بين الحكمدار وبينه - .. ووزارة العدل ترفض أن تتولى الداخلية تحقيق الواقعة 
   وانتهى الأمر بأن اتفق صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية , وصاحب المعالي صبري أبو علم باشا وزير العدل على أن يتولى التحقيق قاضي تحقيق .. هو رئيس محكمة المنيا الابتدائية محمد عزمي بك الذي اتخذ مقرا ًله مكتب مدير مكتب وزير العدل 
         
       أرفض الشهادة


    ويواصل مساعد النيابه سرده للواقعة التي تثببت حرص عضو النيابة على سير اجراءات التحقيق فيقول :
 واستدعاني محمد عزمي بك لسؤالي .. واعتذرت عن الإدلاء بشهادتي . وذهل الرجل .. وسألني في استغراب يخالطه غير قليل من الاستنكار .. لمَ تمتنع عن  الإدلاء بشهادتك ؟!
     قلت له : يا سعادة الرئيس لقد اثبت في محضري ما وقع من الحكمدار من تدخل في أقوال الشهود .. ومحضر النيابة حجة بما فيه إلا إذا طعن فيه بالتزوير . أيحوز إذا أنا اثبت اعتراف متهم بجريمة قتل .. أن ادعى للإدلاء يشهادتي على وقوع هذا الاعتراف .. ان الكلمة التي اثبتها في محضري  قد تفضي بالمتهم أإلى حبل المشنقة ؟
أيجوز أن ادعى للشهادة على تدخل الحكمدار وهو واحد من الضبطية القضائية التي تخضع لرئاستي –وقد اثبت تدخله في محضر التحقيق . إنني لو قبلت الإدلاء بشهادتي .. أكون قد خالفت القانون , واهدرت حجية المحضر ...
  ويواصل عضو النيابة الذي يعرف قيمة دوره في تحقيق العدالة : 
لم يتوقع عزمي بك هذا الموقف مني فدخل الى مكتب وزير العدل , ويبدو أن الوزير اتصل برئيس الوزراء .. وعاد اليَّ رئيس المحكمة مضطربًا . أرجوك لا تضعني  في حرج .. إن الوزير يقف معك .. وكذلك النائب العام .. وأنت بامتناعك تضع الجميع في حرج .. ولم أكن أريد أن يبلغ الحرج حد الأزمة فقلت لعزمي بك : إنني مستعد أن ادلي بشهادتي عن الوقائع التي تناهت إليَّ خارج التحقيق .. فلتبدأ سيادتك بسماع شهادتي عنها ..وتنفس عزمي بك الصعداء .. واخبرني أنه سينقل التحقيق ألى نيابة المنيا  حيث يقيم الشهود 
 

    النائب العام تعظيم سلام


      يقول مساعد النيابة عصام حسونة : أما النائب العام عبدالرحمن الطوير باشا .. فقد دعاني إلى مقابلته .. وقال لي : إنني معك .. ووزير العدل معك .. وقد أمرت بندبك إلى نيابة الاستئناف .. ثم أضاف – يقصد النائب العام – قد جاءني الحكمدار – ومعه توصية من وزير الحربية – فتركته ينتظر في مكتب سكرتيري حسين حجازي أفندي – حتى نهاية اليوم .. ثم اعتذرت عن  لقائه

                   وكما يقول مساعد النيابة الشاب : كان الحكمدار قد تبين مدى ما ارتكبه من خطأ.. وعرف أن قرابته من وزير الحربية لم تجده نفعًا .. فآثر أن يلتمس طريق المصالحة والمصانعة .. واذ أنا أدعى لغرفة التحقيق ذات  مساء .. رأيت المحقق محمد عزمي بك . وبجانبه مفتش الداخلية إسماعيل فخري بك وهو قاضٍ سابق . وامامهما جلس الحكمدار وما أن رآني حتى هب واقفًا .. يقول للمحقق .. احب أن أعتذر لسعادة عصام بك عما فهمه من موقفي .. إنني أضع نفسي دوماً في خدمة رجال النيابة لا تفضلًا مني .. لكن لأن لائحة الشرطة تلزمني يذلك .. بل وتلزمني بأن أجهز لهم الدواب ,لنقلهم  إلى مكان الحادث.. والمادة .. والمادة .. وجعل يقرأ من نصوص لائحة الشرطة  ما يؤيد كلامه  .. وأنا صامت لا انبس ببنت شفه ..
  الابتسامة على وجه المحقق تزداد اتساعًا وعمقًا .. وإذا بمفتش الداخلية يعلق على كلام الحكمدار بقوله : الحمد لله .. تستطيع الآن يا عزمي بك أن تبلغ دولة رئيس الوزراء أن ألامر انتهى صلحًا والحمد لله ..
  قلت حينئذ : إنني أقدر ما وجهه حضرة الحكمدار إلى شخصي..وأنني أقبل  - بالشكر-  اعتذاره غير أنني لا املك  , ولا انت يا سيدي المحقق تملك الصلح على ما وقع منه بالمخالفة لأحكام القانون.. هذا أمر لا يملكه أحد ..
ويختتم مساعد النيابة الشاب قصة تدخل مأمور الضبط القضائي في مجريات التحقيق بشكل غير قانوني قائلًا :
 
                           ومضى التحقيق إلى نهايته              
ووقف معي النائب العام – عبدالرحمن الطوير باشا – إلى  نهايته .
وتقرر نقل الحكمدار المتعجرف إلى سلاح الهجانة .. جزاء على فعلته 
وعرفت الهيئة القضائية كلها : قضاة وأعضاء نيابة أن الغلبة للقانون
           يا ريت : للخلف در
  انتهت رواية مساعد النيابة الشاب حول واقعة تدخل الحكمدار وهو في أعلى الرتب من أعضاء مأموري الضبط القضائي 
    فما بالك لو اعطيت سلطة التحقيق وأمر الضبط والإحضار لضابط صغير يطمح للترقي’ وبعضهم يلفق التهم ويزور في التحريات ويقول لمواطنين جلبهم لغرفة المباحث : اختر لك محضرًا , بعض ضباط المباحث يفعلون ذلك, وبعضهم يعذبون المتهمين ليعترفوا, وهذا موجود وفي كل الهيئات هناك الصالح والطالح , ولكن جمع كل  الصلاحيات لمأموري الضبط القضائي سيحول العدل لكارثة محققة لا محالة 
 نحن نطالب بالفصل بين سلطة التحقيق وسلطة الإحالة , حتى لا تكون النيابة خصمًا وحكمًا فجاء مشروع الحكومة ليزيد الطين بلة, ويعطي لمأمور الضبط القضائي سلطات النيابة’ ويعطي للنيابة العامة سلطات القضاء( المادة 147 تمنح النيابة العامة الحق في المنع من السفر عند وجود أدلة كافية على جدية الاتهامات بجناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس , وتصل مدة المنع لمدة عام كامل ) كما منحت المادة 35 للنيابة فرض الغرامات على مخالفي أوامر مأموري الضبط القضائي بعد أن كان ذلك خاصًا بالقضاء 
                                   و
ليذهب ما فعله مساعد النيابة الشاب عصام حسونة  من  80 سنة أدراج الرياح ويُشرَّع قانون يعطي لأصغر مأمور ضبط قضائي حاصل على الاعدادية سلطات تفوق سلطات حكمدار المنيا من 80 ىسنة   
وبالتالي وكالعادة نقول للحكومة :  للخلف در 
نرجوكي بلاش تغييرومش مشكلة موضوع الحبس الاحتياطي خلوه سنتين مش مشكلة 
ودَّوروا المتهمين في قضايا جديدة من على  باب السجن أو مركز التأهيل  مش مشكلة  لأن مشروعكم هيحبس البلد كلها  
وهيخلينا نقول ولا يوم من أيامك يا عصام حسونه