أحمد إسكندر يكتب: "الاستياء" طريق ترامب نحو البيت الابيض
صعود ترامب على سدة حكم البيت الابيض الامريكي إفراز طبيعي لحالة امريكية تمر بتحديات وأزمات حيوية في صلب ديمقراطية امريكا، ومشاريعها الثقافية والاجتماعية والسياسية. يمكن القول بأن حقبة الديمقراطيين تحت قيادة بايدن القصيرة كانت مجرد استراحة ، وربما يمكننا القول ان صعود الرؤساء الديمقراطيين على رأس السلطة خلال الاربعين عاما الاخير كانت بمثابة استراحات فى مسارات اليمين الجمهوري الذي هيمن على الجمهورية الامريكية منذ حقبة ريجان حتى وصلنا لامتداده المتطور فى نسخة ترامب الشعبوية الان.
هذا الملياردير الابيض الخارح عن أوليجاركية النخبة النيوبرالية والقادم برؤى اقرب للفوضوية لا يملك هو وتياره قدرات فكرية تمكنهم من تقديم نموذج متكامل عن السياسة والحكم، فترامب يقدم بديل سياسي يتغذى على اخفاقات النخبة القديمة ونموذجها النيوبرالي المعولم التى اعلنت من قبل انتصارها النهائي وأعلنت نهاية التاريخ معها!
بروز التيارات الشعبوية التى يمثلها ترامب فى امريكا واليمين المتطرف فى اوروبا ومبرمجي مشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ، فى اهم جوانبها هى انعكاس للاستياء العميق لدى جماهير تشعر بالتهميش بعد قرنين من التقدم الذي روّج له فكر التنوير وجسدته الحداثة الليبرالية على حد توصيف المفكر الهند "بانكاج ميشرا" عبر اطروحته الشيقة والرشيقة "زمن الغضب" .ظروف وسياقات اجمتاعية وثقافية وسياسية متخمرة حولت الشعور بانعدام معنى الحياة الى أيدلوجيا فوضوية أنتجت ثمرتها المتطرفة مبكرا مع أول إرهاب محلي داخل امريكا على يد الجندي السابق فى الجيش الامريكي "ثيموتي ماكفيه" الذى نفذ عملا ارهابيا راح ضحيته 168 شخصا فى اوكلاهموما عام 1995 قبل ان تصل الى نسخة ترامب الشعبوية الحالية . ماكفيه الذي اُعتبر ضحية نموذجية لاستياء الرجل الابيض فى عالم بدأت فيه أقليات عاشت القهر زمنا طويلا تفرض نفسها .
قد لا نجد صعوبة فى رصد اللبنة الاولى ف "ايدلوجيا الاستياء" من خلال وهم المساواة الذي أدركه الانسان الديمقراطي المعاصر، بعدما ادركه بحدة وعنف ماكفيه من قبل ؛ أشار "جاك رانسيير" ان هذا الوهم المساواتي سواء المساواة فى العمل السياسي الديمقراطي او مساواة التبادل المتكافىء فى التجارة وعالم الاستهلاك ،جعل الانسان الديمقراطي سهل استغلاله داخل "مملكة المساواة" التى بشرت فيها البرجوازية الراسمالية رعايا مجتمعاتها بالوفرة والرفاهية والمبادرة والتملك وتكافؤ الفرص. وفى ظل سيولة مفرطة للمجتمع والثقافة التى تحدث عنها "زيجموند باومان" داخل مجتمع مابعد الحداثة ،اكتشفت الجماهير انها ليست شعبا او مواطني دولة تتولى الحكومات إنارتهم والارتقاء بهم ، بل زبائن تغريهم بالحرية والمبادرة وتخلق لديهم احتياجات دوافعهم لا يمكنهم اشباعها، واحلام سياسية غير قابلة للتحقيق، وسخط لا تشفيه السياسة او العلاجات التقليدية.
لم يشهد الامريكي هذا التناقض من التراكم المالي والحرمان المادي كما يشهده اليوم ، واذا كانت ثمار الابداع الانساني تنمو فان معايير التقدم تغطي على التوزيع المجحف للفرص التى يخلقها هذا التقدم كما اشار لها باومان . وفى ظل تناقضات اجتماعية وغياب نموذج او معايير صلبة من الامان الاجمتاعي ، والقدرة على حرية الاستهلاك الموعود بها ؛ وفى مجتمع ناشىء لم يعد فيه اشياء اكثر ديمومة من مجموعة البنوك وشركات التأمين والصناعات ولم يعد له معتقدات اعمق من الفائدة المركبة والحفاظ على مستوى الارباح ؛ كما تنبه له ت س اليوت مبكرا ف نظرة متشائمة . كان حريا ان يكون حاصل الجمع بالسالب وتزداد معه جاذبية "العدمية النضالية" التى رصدها ميشرا بدقة - بعدما كانت العدمية السلبية هى السائدة – والتى جسدها ماكفيه مبكرا حينما أعلن استيائه واستياء الرجل الابيض .
الدعم لقومية لترامب تصدر اليوم من طبقات عانت تدهور حاد فى المعيشة والمستقبل والاحلام ؛ واذا كان "توكفيل" تبنأ بأن الرغبة فى العيش الرغيد تفتح الباب بسهولة لقبول اى حكومة قادرة على تلبية هذه الرغبة ، فمع فشل النخبة الليبرالية وجمودها وجد الملايين من الشباب ومتوسطى العمر أنفسهم حبيسي مبادىء واحكام "الداروينية الاجمتاعية" ، ونُسف العقد الاجتماعي بفعل اسلوب تسيير السياسة والاقتصاد الحاليين وفًتحت ابواب العدمية النضالية على مصراعيها وكان سهلا على ترامب وتياره ان يكونوا ملاذا لهؤلاء اليائسين المستائين .فبعد ان قسمت النيوبرالية المعولمة المجتمعات الى رابحين وخاسرين على حد وصف دكتور وحيد عبدالمجيد ؛فقد سهل على القوى الشعبوية حشد الخاسرين منها ، لكن الملفت ان هذه القوى لم تضمد الجراح بل واصلت الضرر وكرست نفس الخراب الذى أصيبت به الركائز الثقافية والاجتماعية.
مقارنة بانتخابات 2020 ؛ وللمفارقة فانها اكثر انتخابات حصل فيها ترامب على اصوات ورغم ذلك خسرها؛ فان مرشحا الحزبين الكبيرين خسرا نحو 15مليون صوت فى انتخابات 2024 ؛ ربما اعلنوا استيائهم لكن بعدمية سلبية. لكن الفوز الكبير الذى تحصل ترامب عليه هذه المرة يعظم من موجة الاستياء العام. يستمد ترامب وتياره جاذبيتهم من شعور عميق بتفكك المفاهيم كما ألمح لها ميشرا ؛ ومن بينها مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان والاقليات والمراة جراء منظومة اجتماعية وثقافية تجلت اختلالاتها بوضوح تام ، وهذا لم يعد غريبا فى عالم يتحول فيه "الليبراليون" الى دعاة حرب ، ويدخل فيه "المحافظون" اصلاحات ثورية على السوق الحرة والهجرة والعولمة والتجارة الدولية ثم يطلقون مشاريع سياسية واجتماعية غير مستقرة لمجرد انها سئمت من المفاهيم القديمة.
بنظرة ثاقبة ثائرة على التحليلات المتداولة ؛ ربط جاك رانسيير صعود الاحزاب اليمينية المتطرفة بردة الفعل على الاجماع الذي تريد ان تفرضه الاوليجاركية الحاكمة على أي انقسام طبيعي ، فكانت "الشعبوية" هى الاسم المريح الذي يخفي تحته التناقض بين الشرعية الشعبية وشرعية الخبراء ، هو الذي يكشف أمنية الأوليجاركية ان تحكم دون انقسام او تحكم دون سياسة .لذا فان التفسيرات التى ترى صعود اليمين الشعبوي من امثال ترامب على انه تهديد للديمقراطية غافلة تماما عن ان كراهية الديمقراطية التى تحملها النخب النيوبرالية المهمينة هى ما أضرت بالديمقراطية وهي ما فتحت الباب مجانا للشعبويين.
أربع سنوات من اخفاق بايدن والديمقراطيين فى ملفات كورونا والتضخم وحماية العمال وانظمة الرعاية الاجتماعية والصحية والخدمات ... كانت بابا مهما لصعود ترامب من جديد من دون ان يقدم رؤية عملية واضحة للاصلاح ؛لكنه حمل لجمهور الناخبين طاقات ايدلوجيا الاستياء القادرة على تفريغ شحنات اليأس، واستعادة كرامة النرجسيات المجروحة عبر خطاب قومي مبشر بعظمة امريكا ،ومعارك مفتعلة مع "الاعداء الذين حرموا الامريكيين من رغدهم وحريتهم وممتلكاتهم" . وقد يسهل لاحقا ان يتنامى لديه جنون العظمة ويخيل اليه انه يقود تمرد ينضوي تحت لوائه الجماهير المظلومة والمستلبة رافعا لشعار "نحن ضد الاخرين".