عمار على حسن يكتب: الإنقاد والجهاد االمقدس .. جيشان فلسطينيان غير عابرين
في سبتبمر من عام 1945 أقدمت جامعة الدول العربية الحديثة النشأة آنذاك على تأسيس "اللجنة العربية العليا لفلسطين"، إلا أن هذه اللجنة لم تتمكن من الصمود في وجه النزاعات والانقسامات الفلسطينية التي تبلورت في انقسام الفلسطينيين إلى كتلتين كبيرتين هى اللجنة العربية العليا، والجبهة العربية العليا.
وبفضل الجهود التي بذلتها جامعة الدول العربية بقصد توحيد صف الفلسطينيين وإيجاد إطار موحد للنضال الفلسطيني، برزت إلى الوجود في 11/6/1946 "الهيئة العربية العليا لفلسطين". وخفف ظهور هذه الهيئة من حدة النزاعات التنظيمية، حيث اعترفت بها جميع الأحزاب والهيئات والفئات الفلسطينية، واعتبرتها الجامعة العربية الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني والناطقة باسمه، وبناء عليه حلت كل من اللجنة العربية العليا والجبهة العربية العليا نفسها، وقد تولى رئاسة هذه الهيئة المفتى الحاج محمد أمين الحسيني، وكان مقره في القاهرة، لعدم سماح السلطات الاستعمارية بدخوله إلى فلسطين.
كان لهذه الهيئة دور في مقاومة المشروع الصهيوني إلى جانب الدور النضالي الذي قامت به تنظيمات المقاومة بداخل فلسطين، والدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني أمام المنظمة الدولية.
لكه هذا المسار السلمي ينه إيمان فصائل من الفلسطينينيين بالكفاح المسلح، ليظهر جيشان، الأول هو "جيش الجهاد المقدس" الذي قام في عام 1947 على يد عبد القادر الحسيني بعد صدور قرار التقسيم، وكان عبارة عن مجموعات وجدت في مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، استمرت بفضلها مقاومة الشعب الفلسطيني للمؤامرة الصهيونية. خاضت هذه المجموعات العديد من المعارك ضد العصابات الصهيونية والقوات البريطانية، وراحت تقاوم في ظل ضآلة حجم ونوعية أسلحتها في الوقت الذي كانت فيه الحركة الصهيونية تؤمن تمويل عصابتها في فلسطين بالسلاح والذخيرة.
وفي الثالث عشر من إبريل عام 1948 نشبت معركة كبرى في حي الشيخ جراح حيث اعترض رجال في حركة الجهاد المقدس، بعد استشهاد قائدها عبد القادر الحسيني بأسبوع واحد، قافلة يهودية كبيرة كانت في طريقها لمستشفى هداسا، ومؤلفة من تسع سيارات كبيرة منها سيارات مصفحة وكانت تضم علماء وأطباء يهود ورجال مسلحين من منظمة الهاجاناه اليهودية.
وكان عدد مقاتلي الجهاد المقدس 24 مقاتلًا مسلحين بالرشاشات والبنادق. وفتكت ألغام العرب بسيارتين وقتلت 38 شخصًا كانوا فيهما.
استنجدت الوكالة اليهودية بالجيش البريطاني واندفع ثوار ومقاتلون فلسطينيون وانضموا إلى فرقة الجهاد المقدس وقذفوا بأنفسهم في لهيب المعركة ضد اليهود والبريطانيين على السواء، ووسط عزم العرب عرض اليهود الاستسلام وإلقاء السلاح، لكنهم قتلوا غدرًا المندوب العربي المفوض لإبلاغهم الشروط فلم يعد هناك متسع لقبول الاستسلام.
وعند السادسة من مساء اليوم نفسه كان قتلى اليهود يبلغون المائة والعشرون بينهم عدد كبير من رجالهم المهمين، ولم ينج من القافلة إلا ثمانية أشخاص حماهم البريطانيون الذين خسروا ستة بين قتيل وجريح، وكانت خسارة الفلسطينيين 12 شهيدًا بينهم صحفي معروف وكان من بين الجرحى قائد المجموعة الفدائية عادل النجار فتولى بعده القيادة عادل عبد اللطيف، واستشهد مناضلان آخران بالرصاص البريطاني.
وخاض هذا الجيش "معركة الدهيشة" التي وقعت في 27 مارس 1948، حيث اصطدم مائتا مجاهد من أبناء فلسطين المنخرطين في فرق الجهاد المقدس مع قافلة يهودية قوامها مائتان وخمسون رجلاً من رجال عصابة الهاجانا كانوا يركبون أربعة وخمسين سيارة محروسة بأربع مصفحات عسكرية.
ودارت بين الفريقين معركة حامية قبل شروق شمس ذلك اليوم وانفجرت الألغام الفلسطينية المزروعة في طريق القافلة فقتل وجرح العديد من اليهود، وأحاط المجاهدون برجال القافلة من جميع الجهات، واستمر القتال بقوة وبعنف طوال النهار وكذلك طوال الليل.
واشتركت الطائرات الصهيونية في المعركة فحلقت أربع منها في محاولة لإمداد المحاصرين بالمؤن والعتاد ولكنها فشلت وأسقطت واحدة منها بفعل المقاومة.
وحين أدرك الصهاينة أنهم مغلوبون استنجدوا بالوكالة اليهودية التي استنجدت بالجيش البريطاني، فجاء مزودًا بالمدافع يحاول فك الحصار، ولكن الفلسطينيين كانوا قد تجمعوا من القرى المجاورة كل بما يملك من سلاح، فقابلوا الجيش البريطاني برصاصهم وانذروه بأن الألغام مزروعة في طريقه، وحذروه من التقدم نحوهم معلنين أنهم على استعداد لقتاله، فتراجع الجيش البريطاني ولم يتقدم خطوة واحدة.
واستنجد الصهاينة من جديد بوكالتهم وبالحكومة التي راحت تستنجد بكبار العرب وتفاوضهم كما تفاوض الهيئة العربية العليا، طالبة فك حصار الصهاينة. وأمام إصرار الفلسطينيين ألقى الصهاينة سلاحهم بعد حصار دام 36 ساعة متخلين للمقاتلين عن ثلاث مصفحات، وثماني سيارات ركاب كبيرة، وثلاث سيارات وستة وسبعين بندقية، ومائة قنبلة إنجليزية وألمانية، وقنابل ومسدسات كثيرة، وطن ونصف طن من ملح البارود والمتفجرات، ومقادير كبيرة من الأمتعة والذخائر. وقتل في هذه المعركة أربعة وثلاثين صهيونيًا.
ظل "جيش الجهاد المقدس" قائمًا، يؤدي مهمته في الدفاع عن فلسطين ضد المؤامرات الاستعمارية الإنجليزية والصهيونية، حتى صدر أمر في عمَّان بحله في 18/12/1948، وبقي مرابطًا في مواقعه إلى أن أتاه أمر الحل من الهيئة العربية العليا لفلسطين من القاهرة في 15/5/1949.
وكان من قادة "الجهاد المقدس" البارزين حسن سلامة، الذي عينته الهيئة العربية لقيادة القطاع الأوسط الغربي، وكان مقاتلًا مخلصًا، خاض معارك الفلسطينيين المتعاقبة ونال مكانة مهمة بين المقاتلين والمجاهدين بين عامي 1936- 1938. ومن أشهر العمليات التي قام بها عملية نسف قطار به عدد كبير من الجنود البريطانيين، كان يسير بين اللد وحيفا، وجرح بعد مطاردة البريطانيين له جرحًا يسيرًا.
هاجر سلامة إلى العراق واشترك كغيره من الفلسطينيين في الثورة العراقية التي قادها رشيد عالي الكيلاني، وخرج منها إلى سوريا، واستمر يبحث عن ملجأ حتى وصل إلى ألمانيا، وهناك واصل تمارينه وتدريباته استعدادًا للعودة إلى فلسطين لمواصلة النضال.
وفى عام 1942 هبطت سراً طائرة ألمانية في سهل أريحا، ونزل منها خمسة رجال، ثلاثة ألمان واثنان عربيان، كان أحدهما حسن سلامة. ولم ينج من الاعتقال على أيدي المخابرات الإنجليزية سوى سلامة وألماني واحد حيث قصد سلامة سوريا وعاد منها إلى وطنه قائدًا لقطاع يمتد من يافا إلى وادي الغرار.
وتولى هذا القائد الدفاع عن يافا وكان شوكة خطيرة في خصر الصهاينة، وغادر يافا إلى القرى المحيطة بعدما وصلها متطوعو لجنة دمشق العسكرية، ووصل بجنوده الفلسطينيين مرات عديدة إلى تل أبيب، ودخل ذات مرة إحدى المستعمرات الصهيونية في ضواحيها، وأجبر عصابات الهاجانا على الجلاء عنها. وحين نفدت ذخائر المقاتلين في تلك المنطقة واستطاع الصهاينة التغلب على "جيش الإنقاذ" التابع للجامعة العربية استمر حسن سلامة يناضل في بقية القطاع حتى جرح في 5 أبريل 1948، وما كادت جراحه تندمل حتى واصل نضاله لا ينسى فيه اللد والرملة ولا رأس العين وفى هذه الأخيرة كان استشهاده.
ويقول المؤرخ عارف العارف إن المعارك لم تنقطع بين الصهاينة والمناضلين من عرب فلسطين في الأيام التي سبقت مجيء الجيش العراقي إلى ذلك القطاع، وكان أشدها تلك المعارك التي وقعت في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر مايو 1948، وقد استطاع عرب فلسطين بقيادة سلامة استرداد رأس العين وطرد اليهود منه، ثم استشهد متأثرًا بجراحه بعد ذلك.
وبعد ذلك سلم المناضلون الفلسطينيون مواقع رأس العين الحصينة إلى سرية الجيش العراقي التي وصلت إليهم، وبعدما علمت هذه السرية بنبأ تخلى جيش الأردن الذي يقوده جلوب الإنجليزي عند مدينتي اللد والرملة، تخلت السرية العراقية هى الأخرى عن رأس العين فاحتله الصهاينة، ولم يعد بإمكان المناضلين الفلسطينيين مواصلة الدفاع عنها بعد أن تولى المهمة جيش العراق، الذي لم يلبث أن سلمها لليهود عام 1948.
وهناك "جيش الإنقاذ"، وهو جيش من المتطوعين العرب هب أعضاؤه عام 1947 لإنقاذ عرب فلسطين من المؤامرة الصهيونية، ومنع قيام دولة إسرائيل. خاض هذا الجيش معارك ضد العصابات الصهيونية والقوات البريطانية طيلة سنوات 1947، 1948، 1949، ظل كذلك حتى صدرت الأوامر من المفتشية العامة لقوات الإنقاذ وبتوجيه من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في 15/5/1949 بإنهاء مهمة هذه القوات وتسريح أفرادها.
مع "جيش الإنقاذ" وقبله جيش "الجهاد المقدس"، خاص الفلسطينيون معارك عديدة ضد العصابات الصهيونية. ففي عام 1948 وبالتحديد بالتزامن مع حرب النكبة الكبرى، وقعت معركة "ظهر الحجة" بعدما اقتربت مجموعة من الصهاينة من قرية صوريف العربية. وكانت هذه المجموعة قادمة لنجدة مجموعة منهم في مستعمرة كفار عصيون، فخرج لهم سكان القرية وراحوا يطاردونهم، بلا هوادة، حتى أرغموهم على أن يحتموا بجبل يدعى "ظهر الحجة".
وكانت النجدة اليهودية مسلحة بأسلحة أوتوماتيكية وجهاز لاسلكي ولكن المناضلين الفلسطينيين الذين لم يكن سلاحهم إلا البنادق العادية، استطاعوا أن يبيدوهم عن آخرهم، وكانوا أربعين مقاتلًا بينهم العديد من شباب الجامعة العبرية، وقد اعترفت إحدى الجرائد اليهودية بأسماء خمسة وثلاثين قتيلاً منهم.
وجاءت في اليوم التالي قافلة يهودية لنقل الجثث فدارت معها معركة دامت سبع ساعات وخلفت وراءها ثلاثة وعشرون قتيلًا، واستشهد من الفلسطينيين سبعة مجاهدون.
وهناك معركة " كفر كنا" التي وقعت حين هاجم اليهود القرية بغية الاستيلاء عليها، ولكن المناضلين صدوهم ولحقوا بهم حتى وصلوا إلى كرم الزيتون التابع لمستعمرة الشجرة.
وتوجد معركة "عين مامول" التي دارت في يوم 23 يناير 1948، حين هاجمت العصابات الصهيونية معسكرًا للمناضلين الفلسطينيين، ومهدوا للهجوم عليه بقنابل المورتر، وكانوا زهاء ستين يقابلهم 15 مسلحًا، تمكنوا من صد الصهاينة، واستولوا على قطيع من البقر قوامه أربعون بقرة حلوبًا بعد أن قتلوا حراسها الخمسة، وتصدى لهم الصهاينة محاولين استرداد بقرهم فقامت معركة سقط فيها أربعة صهاينة.
وبعدها جهز المناضلون كمينًا لقافلة صهيوية كانت قادمة من طبريا ومعها خمسة مصفحات بريطانية لتطويق المناضلين، لكن هؤلاء زرعوا لغمًا للقافلة ونسفوا جسر الشراء فاضطر ركاب سيارات صهيونية كانت تحمل عددًا من المسلحين إلى الهبوط أرضاً بسبب نسف الجسر.
وبمجرد هبوطهم هاجمهم المناضلون وقتلوهم وغنموا سلاحهم، وقاموا كذلك بنسف أربعة خزانات كهربية من جسر المجامع، ولذا عاشت مستعمرات اليهود بمرج ابن عامر في ظلام دامس. ودارت بعدها معارك عدة، بلغت فيها الخسائر 1050 فلسطينيا و750 صهيونيا و103 من جنود الإنجليز، حتى يوم 17 يناير من عام 1948.
وهناك معركة "الماصيون" التي نشبت عام 1948 التي اندلعت بسبب أن جماعة من اليهود كانت ترابط في الطريق لاعتراض السيارات العربية، فتصدى لهم الفلسطينيون حينما كانوا يصعدون تل الماصيون بمنطقة رام الله. وقتل في المعركة أحد عشر صهيونيًا، ورفع ستة أيديهم رامين سلاحهم معلنين استسلامهم، وحينما تقدم العرب لتسلمهم رماهم أحد اليهود بقنبلة يدوية فأطلق الفلسطينيون رصاصهم عليهم وأبادوهم.
وهناك معركة "سعفاط" التي اندلعت في 14 مارس 1948، وفيها هاجم المناضلون الفلسطينيون قافلة يهودية كانت تمون بعض المستعمرات، وحطموا المصفحتين اللتين ترعيان القافلة، وقضوا على حياة أربعة عشر من أفرادها، وجرحوا آخرين، واستولوا على أسلحة كثيرة. ولولا تدخل الجنرال ماكميلان قائد القوات البريطانية في فلسطين لما توقفت المعركة، ولقضى الفلسطينيون على جميع رجالها. وكانت هذه القافلة نفسها قد أطلقت نارها على قرية شعفاط العربية فقتلت تسعة رجال وفتاة.
وفى الوقت الذي كان فيه المناضلون الفلسطينيون يخوضون المعركة ضد المصفحات اليهودية عند شعفاط، كان إخوانهم الآخرون يرابطون على طريق القدس – يافا، وما أن مرت القافلة اليهودية الأخرى المؤلفة من13 سيارة حتى حطموها.
ولم ينقطع النضال الفلسطيني ففي عام 1955 تحركت مجموعات من أبناء فلسطين وبدأوا ضد إسرائيل حركات فدائية استمرت حتى عام 1956، عام العدوان الثلاثي على مصر، جاس الفلسطينيون خلالها في الأراضي المحتلة، وفجروا ألغامهم في مدنها وقراها، وضجت إسرائيل بتلك العمليات ثم قامت بغزوة سريعة فضربت سوق غزه بالقنابل وقتلت العشرات من سكان المدينة.