هشام الحمامى يكتب: غزة وأهلها..الصبر والتحدي والأفكار الكاملة.

ذات مصر

لم نتوقف كثيرا عند (العصا) و(صاحب العصا) في ساعته الأخيرة وهو ينتظر لقاء ربه، ولم نسأل من أين جاء بهذه (العصا) في هذا المكان شبه المدمر؟ وما معنى تلويحه المتكرر بها؟ وإذا كان الرجل فعلا يريد مهاجمة المٌسيّرة وإعطابها، ألم يكن الحجر أنسب وأوفق؟ والحجارة من حوله كثيرة كما رأينا..

فهل كانت تلك (العصا) إلهامات وإشارات؟ لعلها فعلا ..

ومن أبعد الأعماق ومن أرحب الأفاق كانت، من كبد الوجود كانت.

***

سنتذكر هنا (العصا)التي صاحبت سيدنا موسى عليه السلام في طريقه الطويل، مع فرعون ومع بنى إسرائيل (والتقارب هنا أوضح من كل قول)، كانت هي الأية الأولى في ابتعاثه نبيا ورسولا، هو رأها دنيا في دنيا (يتوكأ ويهش...) لكن الله أراد له ولها شأنا أخر.                                                                            

***

وها هي تصحبه عليه السلام في مواجهة(الفرعون)، بل وأهتدى بها(نٌخبة)هذا الفرعون، لأنهم لم يكونوا صعاليك مهازير، وتوابع تافهين، بل كانوا أصحاب عقل ونظر، فما أن تبينوا وعرفوا ، حتى أمنوا وسجدوا لرب العالمين.

ويصح أن نقول عنهم فعليا:

اذا تم عقل المرء تم أمره** وتمت أمانيه وتم بناؤه ..

***

رحم الله (صاحب العصا) فينا .. الذي كان فتحا في فتح، وإلهاما في الهام، وتوفيقا في توفيق، وشهادة في شهيد.

وإذا كان لنا أن نستعبر بدموع لا تجف ولا تكف على الأولين والأخرين، فدعونا نتذكر، ما قاله عبد الله بن مسعود عن(الفاروق) رضى الله عنهما: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه..

***

(وصلينا معه) ..!!

الله يصطفى من عباده من يشاء، ليكونوا في الأمام، وليأخذوا معهم الناس إلى طريق الأمام، ولقد قضى الله أن لا ينال عهده الظالمين، نتذكر ذلك دائما، حين طلب سيدنا إبراهيم أن يكون من ذريته من هو مثله .. (إماما)..

كان عبد الله بن مسعود رضى الله عنه يحب الفاروق حبا كبيرا، وكان يقول: لو أن الناس سلكوا واديا وشعبا، وسلك عمرا واديا وشعبا، لسلكت وادي عمر وشعبه..

***

كانت ديار الإسلام والعروبة قبل (طوفان الأقصى) نسيا منسيا، وليست (فلسطين فقط)، كانت مثل (البيت المٌشاع) يأتيه اللص من كل نافذه.

حتى أذِنَ الله، وجاء اليوم الذى سيكون له ما بعده، وبما يعجز الجميع في العقل الغربي(تحديدا) عن توقع صورته وشكله، فقد علموا يقينا أن الموضوع جد لا هزل فيه..

ويلي عليك، وويلك منى.

وها نحن في اليوم الـ (400) من حربهم، ولازال (الصبر والتحدي) ينهال صفعات تلو صفعات، على وجه الغرب وأمريكا بما أفزعهم من هذا الذى كان، وذاهب في طريقه ليكون .. وإن شاء الله سيكون ..

***

هذا الصبر بالله، وهذا التحدي الشامخ يمثلان (معضلة رهيبة) لهم، ويحاولون بكل الطرق إخفاؤها، وهى بالفعل معضلة رهيبة ومرهبة، ليس لهم فقط كأعداء واضحين فاجأتهم تلك الصفعات، بل وكما فىالأية 60 من سورة الأنفال (وأخرين من دونهم) أيضا، ولن يطول اختفاؤهم على فكرة .. فقط مسألة وقت.  

***

لكن المؤكد أن الغرب الأن في حالة (فزع واستنفار) فكرى وتاريخي لا يريد الكشف عنها، وسيلفت نظرنا أن (الحالة الإسلامية) التي طالما كانوا مشغولين بها طيلة الأربعين سنة الماضية بطريقة دراماتيكية مريبة، وكان إعلامهم عنده (واجب مدرسي) اسمه (الإسلام السياسي).

التوصيف الظريف الذى اخترعه لهم المفكر الفرنسي (ميشيل فوكو)، ولأن الفراغ يستدعى ما يملأه .. فقد تم استدعاؤه فورا من مثقفينا العظماء..!

***

الحاصل أن تلك البروباجندا الغربية الشهيرة عن (الحالة الإسلامية) إذ بها فجأة تخفت، رغم أن (طوفان الأقصى) حالة إسلامية تماما في تمام ! صحيح أنه حدث نوعى وتاريخي مختلف في طبيعته وقوته وأثره..

لكن العبرة في كل الأحوال بـ (الإنسان) واستعداده للتلقي والاستجابة، وهذا ما حدث ..وهذا ما ينذر بما يمكن أن يحدث في أي وقت وفى أي مكان ..!

***

هم بلؤمهم وخبثهم التاريخي المعروف، انتبهوا إلى أن (الموضوع) هنا مختلف، بل ومن القوة وبعد النظر واتساع الشعور الفكري والديني والإنساني، بما يكفل له أن يكون بالفعل طوفانا شاملا.                                                  

فهذه بالفعل أول ضربة حقيقية يتلقاها الغرب في السويداء من بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك أنه وبين يوم ليلة، وإذا وقد انزاحت عن (عيون الدنيا) كل الأغشية، وأصبحت(الحقيقة) متاحة للجميع بكل نصاعتها وقوتها، ولم يبق حجر على حجر من عالمهم الذي شيدوه..وبخبث وذكاء شيدوه ..

***

لكن هذا ليس كل شيء ..ذلك أن المقاتل الذى يذهب كل يوم (حتى أمس الأحد 10 نوفمبر!!) يذهب مختالا إلى (الميركافا) ليصنع لها كمينا ويعود وهو يتهادى، أو صاحبه الذى يحمل (الياسين 105) على كتفه ويقترب حتى لكأنه يستكثر الصاروخ على الدبابة ومن فيها ..

ومتى ؟ ..

بعد 400 يوم من عدوانية لم ير العالم أهول ولا أبشع منها.

***

من أين أتى كل هذا (الكمال)؟ ومن الذي تعهده ورعاه؟                              

لابد أن هناك (بيئة شاملة كاملة) لكل هذا الذي نرى، وهذا ما يفسر تلك الشراسة والدموية المفرطة في القصف الأمريكي والغربي(إسرائيل) للبيوت وأماكن اللجوء، ومنع الطعام، وهدم المستشفيات والمدارس.

هذه (البيئة الشاملة الكاملة) تحتوي على كل ما عملت أمريكا والغرب ومن معهم، على محوها محوا تاما من الخمسينيات، ليس من واقعنا الاجتماعي والفكري والسياسي فقط، بل محوها من ذاكرتنا ووعينا بأنفسنا وأمرنا.  

وإذا بها تتجدد وتٌبعث من جديد، حيث (الأفكار الكاملة) التي تحلق فوق عالم الحواس ..

***

دعكم من قصة(إسرائيل) فهي حرفيا في (النزع الأخير) بتوصيف قادتهم السابقين ومفكريهم، وسيضطر الغرب قريبا جدا إلى التعامل مع الشرق المسلم بحسبة (ما بعد إسرائيل) ..  

القصة الحقيقة بالفعل هي قصتنا مع هذا الغرب.. بكل ما يعنيه من كراهية وأحقاد سحيقة في أغوار التاريخ لنا ولكل البشر من خارج دائرته.. وهذه حقيقة للأسف.

***

ما تقدمه المقاومة في غزة، وأيضا في لبنان، هو حدثا تاريخيا كبيرا للغاية، لكن غزة حالة قائمة بذاتها، وستتذكر لبنان كلها يوما ما (فضل غزة) في ترتيب البيت اللبناني

ليس فقط لتلك العظمة القتالية التي يقدمها (حزب الله) رافعا رأس شعبه وبلاده ..بل لأسباب أخرى كثيرة ليس الأن حديثها ..

***

لكن (أهل الأنوار والعزائم) في غزة، شأن أخر..فهم وبهذا الحدث الإنساني والتاريخي الفذ في (الصبر والتحدي) سيكون لهم في اعتبارات التاريخ الإنساني كله، ما لا يٌنسى، ولا يٌوصف، ولا يٌقارن بأي تجربة مقاومة أخرى قدمها شعب أو بلد.. فى زمن ما، أو حقبة ما..

هذه التجربة وبحق، ليس لها من نظير غير نفسها .. ولها ما بعدها .

وقد تٌنكر العين ضوء الشمس من رمد ** ويٌنكر الفم طعم الماء من سقم .