عمارة إبراهيم يكتب: ظاهر اللغة في بنية الأحوال. . قراءة في ديوان " كما يليق بمي " للشاعر حسام جايل
تعددت الكتابات الشعرية العربية عبر أشكالها في القرن الماضي وبدأت بتطور ملحوظ في بنية أحوالها وأدواتها وترجمت هذه البني الجديدة في معظم أشكال الشعر بوجه عام إلي معالم جديدة تمثل لكل شكل بنيته التي تعزز قيمه الجمالية مع الأشكال الأخري التي تعمل وفق بنية تطور مغايرة،وكان له فتوحاته القليلة عند القلائل من مواهب الشعراء عبر سياق كتاباته التي تجاوزت النسخ والتقليد والنظم والسرقة، لتحفر ملامحها الجديدة التي حافظت علي بنية الإيقاع الخليلي في ثوبها الجديد.
ثم الشكل الثاني وهو قصيدة التفعيلة الواحدة التي بدأت قبل منتصف القرن الماضي وتعانقت مع التطور في مبني سطرها الشعري الذي وجد شاعره نفسه في فضاءات أكثر مما وجده في الشكل العمودي خاصة دفقة النفس الواحد في شحنة الكتابة الوجدانية
ثم جاء الشعر الحر بروافده " الحداثة وما بعد الحداثة"؛ليمتلك الفضاءات الأكثر اتساعا من الشكلين اللذين سبق لهما العمل، غير أن من أجادوا في بنية التطور باستخدام عناصر الكتابة من اللغة العربية وبيئتها وثقافتها بعيدا عن العمل التشكيلي الغربي الذي لم ينسجم معها لاختلاف اللغات والبيئات والثقافات وكان القلائل من كتابها الموهوبين هم من أداروا دفة الكتابة والإطلاع الواسع علي ثقافاتها،وكان من غيرهم الكثير
من تأثروا برواد هذه الأشكال الشعرية التي سبقتهم، وباتت كتاباتهم نسخا أو تقليدا أو أثرا.
والشعر لن يحكمه غير قانون الشعر وأول مواد قانونه الذي تعارفنا عليه في قديمه وجديده،ما قبل الإسلام وما بعده، أن نفرق بين الأداة وبين المكون؛ فاللغة أداة،الموسيقي أداة، البنية أداة، التناص أداة....إلخ.
أما المكون في الشعر فهو منتجه التقليدي والجمالي أو التشكيلي الحداثي وغير الحداثي.
من هذه القاعدة الأساسية نستطيع القول بأن الشعر لا نثر فيه، وأن الشعر الذي يخلو من أداة من أدواته مثل الإيقاع، لا تنطبق عليه قوانين الشعرية ونقدها ولا ممتلكات وجدانية كتابته، فهو غير المألوف في بنية تطوره وتجديده،ولا يكتب في بنية تقليدية علي نظم حسابي أفقده نبضه علي عكس هذه الكتابة الحقيقية، التي يمتلك أدواتها وثقافتها شاعرها الموهوب المطلع.
والنظم هنا لا يقف عند الشكل العمودي وحده، بل نجده في كل الأشكال الشعرية المتعارف عليها؛ نجده في بنية الكتابة العمودية التي بنيت من دون وجدانية حضورها،أو في السطر الشعري الذي بني علي أنساق بنية التراجم؛ فيتحول إلي نظم لغة تمنح المعني، لكن لا يوجد في مكوناتها ما يرقيها إلي لغة الشعر،فيحال أمر كتابتها إلي خاطرة فكرية أو بنية أخري تمنح المعني ولا تمتلك مكوناته التي يحاكي منها واقعه وبنيته وتشكيلاته.
لذلك يجب أن نحافظ علي أدواته وبعض مكوناته الثابتة في اتساع فضاءات عمله، ليتحول منها إلي كتابة حرة تتسع منها روافده الجديدة التي لن تقف عند ثابته ولا تمثل له الانغلاق في بني تشكيلاته حتي يمنح وجدانية كتابته المساحات الأوسع في التشكيل في بنية الأحوال ومكونات إنتاج جمالياته،التي يجب أن تتغير وفق تغير الزمن والبيئة والحضور الإنساني وخصوصيات أحواله وقضاياه.
ومن ضمن هذه المكونات يكون الإيقاع، الذي لن يقف عند حدود العمل الذهني الحسابي، ولا يخرج عن العمل الوجداني الذي يتحقق في شعرية النص وأن ينطلق هذا الإيقاع عبر مكوناته التي تنتجها حركية الأفعال من بنية الأحوال العامة داخله بحسب منحة مشحون الشاعر ليتحقق من إدارة أفعال لغة الأحوال، لتمثل كتابته مظاهر أفعال اللغة وليس مظاهر عمل اللغة الخام.
والتطور الذي تبرز ملامحه الواضحة ي الأشكال الشعرية لن يقف عند أداة واحدة،مثل أداة اللغة التي تتعاطاها أحوال الكتابة،أو أسلوب البناء أو العمل بإيقاع الخليل الذي تكون بنيته من حراك الأفعال وهي تدير البنية الكلية وسياقاتها العامة ومكونات حضورها،أو تشكيلات الصور الشعرية التي تعتمد علي تقنيات مغايرة عن ما كانت عليه عند الرواد مثل السياب أو نازك أو عبد الصبور، بل برزت له ملامح أخري لم يقف عندها النقد الأكاديمي من قريب أو من بعيد، مثل اللغة التي تتعانق مع وحدات بنية الأحوال وفق معطيات واقع حياة بيئتها المتفاعلة ووفق تجانسها في البنية الكلية للنص وأصبحت تمثل لغة زمنها وبيئتها وثقافتها، لتمثل مظاهر الافعال فيها، ولم تكن عند القليل من الشعراء الذين تميزت كتاباتهم وأصبح لها التفرد في هذا الحضور الذي أنتجته مظاهر حراك الأفعال داخل وحدات النص لتمثل كينونة هذه المظاهر اللغوية في بنية أحوال شعريتها، وهي الممثل الشرعي والبطل الرئيس داخل النص الشعري،ولم يتوازي مع عملها المتطور النقد الأدبي بسبب عدم مواكبة هذا التطور ولم يقف عند بنية ومظاهر هذا التحول المتفوق في أحوال الشعر، بعدما تعددت أدواته بحسب تطور بيئة النص وثقافته الطالعة التي يستدعي منها شواهده وتناصه المتسق مع كل نص حتي يمثل الحالة الوجدانية التي تفاعل معها الشاعر في تعدد القضايا التي برزت في أحوال كتابته والتي يتشكل منها مظاهر عمل أفعال اللغة داخل النص.
لنجد هذه البنية الشاعرة في ديوان " كما يليق بمي" للشاعر حسام جايل، فقد بدأ كتابته الشعرية في الشكل العمودي، وانسجمت موهبته مع أدواته التي امتلكها عبر اطلاع واسع في علوم اللغة وآدابها؛ فهو الأستاذ الأكاديمي الذي تخصص في علوم اللغة، مستفيدا من خبراته وثقافته الشعرية بأدق تفاصيلها، وقد صدر الديوان من" مؤسسة العالم العربي للدراسات والنشر" عام 2015 في طبعته الأولي؛ ويتلخص العمل هنا من واقع البنية الكلية التي أفرزت عوالمها الجمالية من مظاهر فعل اللغة في إنتاج بنية النص؛ فاللغة هي وسيلة التعبير عن الإنسان في كل مكوناته الإنسانية الحياتية، كما أنها هي التي تقود الفن الأدبي إلي التعبير الجمالي الذي يدعم العلاقات البشرية في إنتاج فنها الأدبي عبر أجناسه المختلفة، ويجعل من لغة آدابها التفاعل الإنساني في أرقي التعامل بين أبناء اللغة الواحدة، ينتج منها عدة مظاهر جمالية تبرز قوة تفاعلها مع الإنساني في بنيتها الأدبية التي تعزز اتساع رقعتها وتعدد دوالها من واقع مرونة وحيوية ألفاظها في إنتاج المعني وفي تعدد دلالاته،كما في قدرتها علي إنتاج مظاهر إنسانية تتطور وتتسع من خيال الكاتب،تستجد حضورها مع تطور بنية الإنسان في مجمل حياته، لتتحول اللغة من أداة عمل تعبيري ثابت المعني إلي مظاهر عمل إنساني متعدد المبني والمعني في سياق أدبي يتطور بتطور الإنسان عبر أزمنته،أخص هنا الشعر منه؛
فهي المانحة للفعل الإنساني التعبير عن رؤاه وأفعاله داخل فضاءات العمل وفق طقوس تبرزها في كل نص شعري واحد،تتعدد منها المكونات الجمالية في حضورها الفني الذي يتلازم ويتسق في انسجامه الكلي مع العوامل الأخرى المتفاعلة معها، عبر حراك الأفعال التي تعبر عنها،كي يتحقق لها التسيد الكامل في إبراز حضور تلك المظاهر التي تحولت من ألفاظ بسيطة في معناها القاموسي، إلي مظاهر الأفعال التي ترقيها إلي سلطة أعلي بأن تكون المعبرة جماليا عن وجدانية أحوال الفن الشعري،وأداته الأولي ، بتعلية مراكزه وجودته في إنتاج الدال وتعدد إنتاج المعني؛ فتبرز إدارة أسلوبية العمل الذي يتحقق في بنيتها الفنية بعدما تجردت من تقليديته الذهنية؛فلا يستطيع العمل إلا مع ما يتوافق مع البنية التي انسجمت مع شحنة أحوال و دفقة شعرية الكتابة،وأصبحت تمثل التعبير الأقوي في بناء النص الشعري.
تكون وظيفة اللغة في بنية عملها هنا معبرة عن سياقات أحوالها، يتحقق الفن الشعري في تعاظمية مجردة من تكرار الوصف وترهله أو التقرير المجرد من عوامل الفن ولا يستحضر غير القاموس الذي لا يمنح غير معني اللفظ من دون رسم عوالم خيالية تمثل الصور الشعرية المعبرة في عمل الأسلوبية ومنتجها؛ كما أنها تمنح بساطة بنيتها في إنتاج مكوناتها، التي تعبر بقوة السهل الممتنع والممتع في بنيتها الشعرية بدقة الفن المتفرد الذي يتحقق من الشاعر الموهوب الذي يمتلك أدواته وثقافته وحضور معايشته الوجدانية وفق مراسمها التي أجاد فيها الشاعر من عمله في تجريبه وتحديثه وتجديده بما لا يتجاوز متعارف قوانين الشعرية ونقدها، تنظم أنساقها مع عمل الأدوات الأخري التي تساعدها في بناء كلية وحدة النص حتي يتوحد الهيرموني وتون الإيقاع في بنيته الموحدة مع الصور والتناص المستخدم إن وجد وعبر تراكيب متوافقة ومنسجمة في وحدة كلية تبرز الجماليات ومستجدها؛ فتتعدد مظاهر حضورها وفق البنية الشعرية ووفق الشكل الذي قبل أن تتوافق فيه هذه المظاهر المستحدثة في الشعر العربي الذي لا يقبل عمل الذهنية التي لا تملك فضاءاتها ولا تملك نبض حضور هذا العمل الحداثي وفق تطور عملها داخل النص، لتكون هي المحراث وبطاريته المشحونة من القوة في إدارة حقول النص وإنتاج الثمر المتفرد عن إنتاج الحقول الأخرى.
في قصيدة هروب (1) وهي مفتتح قصائد الديوان؛ تلعب اللغة دور البطل الرئيس في إنتاج ضروراتها الجمالية في بنيتها التي جمعت بين حضورها المنسجم مع الأدوات الأخري وبين حضور أسلوبية تناولها المتحقق في البناء الذي سعي إليه الشاعر كي يبرز منه التطور الذي يتحقق؛ فتبرز شخصية النص في وحدات تطورها بحسب ما برز في إنتاج النص
تكونه هو ولا تجعل منه الناسخ أو المقلد لمن سبقه من الشعراء، حيث مثلت بساطة الألفاظ عبر بنية تراكيب تجمع في مكونها الإنساني الجمالي الفاظا صوفية تتوافق مع بساطتها، فتمثل مظاهر فعل اللغة في سياق المعني المعبر عن جمالية شعرية الأحوال داخل النص، وتمثل لغة الفعل الزمني والمكاني فيها وفق انسجامها العضوي داخل وحدة مكونات النص،ممهورا ببنية التناص التي لعبت دورها في تناسقية المبني والمعني لإنتاج مكونها الجمالي، في الاتكاء علي لغة حياة المتصوفة رابعة العدوية،لترسم مستجد عوالمها عبر الاستشهاد والمعايشة في بنية أحوال القصيدة،يقول الشاعر:
أنا أول الناجين مني
آخر الشطار والزهاد
في عصر الحيل
أنا صمت رابعة التي
قد أينعت صبواتها
ما بين تجار
الملل
أنا منتهي دعوي أبي
وصلاته
حلم النساء
إذا تعبن من الملل
لكنها قوية في إنتاج مكوناتها الجمالية وفق عمل البنية الأسلوبية التي انسجمت داخل البنية العامة، وخاصة من خلال التطور الذي طرأ وتحقق فيها وحقق الإنتاج الجمالي المغاير حيث قام باستدعاء التناص الذي تناسب مع حالة الوجد التي تعايش مع حضورها وفق بنية أحواله، وأوفد ضروراتها إلي معمل أداء هذه الأدوات حيث قامت بعمل هذا البناء في الأسلوب وفي التراكيب ،فقد جمع بساطة لغة فعل أحواله المتسق مع زمن الفعل ومكانه الذي يخصه ليصهر العمل هذا في بوتقة شعرية تفاعلت مع بقية مكوناتها الجمالية؛ فمثلت لي من واقع التأمل الذي تعايشت معه كمتلقي مع النقيضين وهما يمثلان التفاعل مع لغة الفعل القديمة التي اعتمد عليها قاموس الشعر الصوفي بين لغة الوجد في مستجدها وبين تطور بنيتها لتمثل لي مظاهر فعلاللغة التي توحدت في حداثية المشهد الشعري هذا، فتحقق لي فلسفة عضوية جمالية أضافت لحداثة تجربة القصيدة مكونات جمالية ومظاهر جديدة في علاقة اللغة وفعلها مع رابطها الثقافي الذي توحد في بنية النص في مجمل قراءته؛فربط الشاعر بين ضمير ال أنا وبين غوايته التي يسعي لأن ينجو منها أو من الحيل التي قد يكون اعتنقها في عصر الحيل التي عاش واقعها وربما تأثر منها ويحاول أن يتطهر منها.
في قصيدة " المقامر "(2) كان ضمير المتكلم هو قائد بنية عمل القصيدة،معتنقا مناجاته ونداء الليل الذي وهبه الظل والأفئدة والحزن كي يهبه الخلاص من عدم اكتراث الأمنيات وقادته للموت طفلا ووهبته للذكريات الخائنة يقول فيها:
يا ليل
حين وهبتني ظلا
وأفئدة وحزنا
طوحتني للأمنيات
وقدتني للموت طفلا
مسنا
ووهبتني للذكريات الخائنة
أمشي أمني النفس بالحب
في ليالي القاهرة
لا شيء
غير أرصفة الشوارع
والنهود النافرة.
وقد تعددت سياقات عمل اللغة عبر مظاهر أفعالها وتفاعلت مع التطوير في بنية سردية الأحوال في مجمل قصائد ديوان " كما يليق بمي " لتمثل بساطة بنيتها المتعانقة مع ضرورات أحوالها، متشحة بتعددية مشاهد هذه الأحوال التي انصهرت مع مكونات جماليات القصائد لتمثل ظاهرة صوت الفعل في تفاصيل شعريته كما هي منسجمة مع مكونات بنية أحوال النصوص التي تفوق فيها ضمير الأنا، ليكون بطل أحوال الديوان وقد عبر عن حقبة زمنه وبيئته وثقافته وتطور عمله الإبداعي وفق رؤيته التنظيرية وقناعته بها، فتجده هنا مثلا؛ يمزج تقنية شعرية السرد ببنية الحكي الشعري الذي يستدعي ألفاظ واقع بيئته وهي تمثل للنص أرضية العمل واستدعاء ما يتوافق منها وما ينسجم مع هذه البنية المتطورة في أدواتها وفي مكونها الذي تديره لغة بيئة الأحوال عبر حراك أفعال أحوالها لتمثل مظاهر انسجام التفاعل بينها وبين نبض المشحون الإنساني المتوالد في بنيتها، لتنسجم مع عمل بنية الإيقاع التي حددتها شحنة الأفعال واستدعت تفعيلة البحر الشعري وقد انسجمت مع المكون الحالي ومشحونه داخل الشاعر قبل ولادة قصائد الديوان - وقد برزت هذه الظاهرة في أكثر من قصيدة داخل الديوان وكأن الشاعر يريد أن يبني عوالم شعريته من بيئة وزمن وجوده هو لا تراث الشعر الذي أخذ من زاده الكثير حتي حقق لنفسه وموهبته المساحات الوافرة من خبرة كتابة الشعر من حفظ أبياتها وتفعيلات بحور إيقاعها لتتشبع في وجدانه حتي أصبح من السهولة انصهار كل هذه العوالم الإنسانية في شحنة الدفقة الشعرية داخل مشحونه الذي توافق في إيقاع الحال مع إيقاع البحر الخليلي لإنتاج قصائد الديوان، وكان سيطرة ضمير الأنا واضحافي معظم قصائد الديوان حسب المظاهر التي تحقق في مبناها ليمثل فعل الشاعر وذاته وتجربته مع مي بطلة قصائد الديوان؛
وهو الذي ربط علاقة الإيقاع الوزني بأحوال قصيدة" تفعيلة حيري"(3) حيث تألف الإيقاع هنا من بحر المديد (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن) ليمثل لنا هذا الرابط علاقة فعل أحوال القصيدة ببنية تفعيلة البحر الشعري وهو المعروف عن إيقاعه أن تكون دالة ومتناغمة مع أحوال البنية المتعانقة معها وممثلة لرمزية إيقاعها في ألفة تميل وتعمل وفق وجدانية حراك الأفعال المتواترة من شحنة أحوال القصيدة.
يقول الشاعر:
ليس قلبي يا صديقي
من يراني
إنما الحزن كتاب
كالأغاني
ستراني - لو تراني يا صديقي
فيه فنا
من أعاجيب الزمان
مترعا من كأس همي
ساكرا من خمر ذاتي
بيد أني لا أعاني
أمتطي حزتي
جوادا للعلا
أبغي علاء
فوق ذياك الزمان
شاهرا صمتي كتابا
رافعا حلمي لواء
ساخرا من كل جان
غربتي داري
كفاحي موطني
حبي.. أنا
قلبي عدو للتواتي
مستقبل
من عذابات الهوي
إلا غراما مثلما أدنو
فاللغة هنا تفاعلت في بساطتها ووفق الألفاظ التي يعانق بها الشاعر أجواء بيئته وثقافته وعناصر الأفعال المتوافقة مع بنية الأحوال عبر مظاهر أفعال اللغة وانسجام بنيتها مع تفعيلة البحر الحيري في حزن الكتاب الذي يشمل الأغاني ويمتطي جواد العلا شاهرا الصمت،لكنه رافع حلم القيادة والعمل ساخرا من كل جان.
كان ربط عنوان القصيدة "تفعيلة حيري" من ضرورات تنغيمها وفق انسجامها الحالي،لكنه المشوش بين الأنا في غربتها وبين الأنا الحالمة بمستقبل الأحلام في التحقيق المنشود في حارات العمل وحارات الحب والغرام وهو يتطلع للعلا في موطنه ،رافعا أحلامه لتمثل قيادة العمل والحب والحياة؛ من كل ذلك اضطربت حركية عمل التفعيلة باضطراب هذه البنية الجمالية وهذا الاضطراب ليس اضطراب البنية في عملها الفني ،بل كان الاضطراب هو التعايش الجمالي الذي انسجم وتوافق مع بنية الحال المضطربة التي عبر عنها الشاعر من واقع حياته وبيئته التي يعمل فيها متأثرا بسياسات عامة مثلا، أو في بنية أحوال تمثل بيئته التي يعيش فيها وما تحمل من تناقضات تأثر بها وكان منها عمل تفعيلة بحر المديد التي أسماها الشاعر وصدرها كعنوان للقصيدة.
نخرج من هذه القراءة الناقدة ببعض النتائج المهمة التي تعين الشعر والمهتمين والقائمين عليه في أعمالهم وفي دراساتهم لنؤكد:
أن الفرق بين مظاهر اللغة التي تعمل وفق بنية عامة، تتحدد فيها عناصر ومظاهر مكونات اللغة،وبين مظاهر فعل اللغة في بنيته الشاعرة التي تمثل الفرق بين البحور المالحة وبين الأنهار العذبة المتسعة باتساع وتعدد حراك الأفعال المنتجة لإيقاع أحوالها من مشحون القصيدة قبل ولادتها أو التي قامت باستدعاء تفعيلة البحر العروضي الذي انسجم مع مظاهر الفعل في أنساق نفس مشحون أحواله التي انصهر في وحدتها ايقاع البحر الشعري من واقع حفظ نغميته التي تفاعل وتعانل معها الشاعر من قبل في أعنال شعرية أخري، أو التي يتعاطي فيها العمل مع ضرورات استدعاءات تناص تراثه وثقافته وكل ما يجيء متفاعلا مع وحدة النص الكلية في أنساق عمل مظاهر الأفعال في بنيته الكلية، من ذلك نستطيع أن نفرق بين الشعر وظله؛
فالنظم في الشعر تبرز معالم معرفته من واقع بنيته التي تقوم علي مظاهر اللغة وليس فعل اللغة،كما أن بنيته تقوم علي رص الحروف في بنية تمنح المعني ولن تجد فيها روحا تسوق نبض وجده وحضوره؛ فمبناه يقوم علي لغة الوصف والتوصيف والتقرير من دون حركة الفعل في مضمار تجلياته وفضاءاته، وتجد تجلياته في تمثيل صوته علي منصات الشعر ليكون بديلا عن نبض وجوده الحقيقي.
أما الشعر فهو ابن حركة أفعاله التي تنبض بحروفه عبر تقنية بنية الأحوال الساردة، الحكاءة، الراوية، التي تقودها مظاهر أفعال اللغة وليس مظاهر اللغة من إنتاج معاجمها وليس نبض وجدانها الذي يضيف للقاموس ولعلوم الشعر ما يعزز تفرده،ولا تجد فيه غير نبض حضوره فيك وكأنك أحد أطراف بنية أحواله.