هشام النجار يكتب: أزمة اليسار المصري مع الدين والإخوان والإسلام السياسي

ذات مصر

في حوار بودكاست مؤخرًا مع المفكر اليساري ووزير التضامن الأسبق الدكتور جودة عبد الخالق سألته الدكتورة رباب المهدي عن سبب أزمة اليسار في مصر، فأجاب الرجل بأن (مشكلة اليسار أنه خسر حاضنته الإجتماعية، لأنه لم يحترم تدين الناس وتحدى ثقافة مجتمع يتنفس الدين من أيام إخناتون وليس من أيام الإخوان) –وفق وصفه-.

أرى ومع احترامي الشديد للدكتور جودة العكس تمامًا؛ إذ أن مشكلة اليسار المصري أنه لم يكن وفيًا لقناعاته وأدبياته التقدمية (الدولة المدنية-الديمقراطية- العدل الاجتماعي- عدم تسييس الدين-وفصل الدين عن السياسة) وإنه –أو أجنحة منه -حيث لا يصح التعميم- تورط في تحالف وتعاون غير منطقي وغير عقلاني وأستطيع أن أصفه أيضًا بغير الأخلاقي مع تيارات رجعية وأقصد بها جماعات الإسلام السياسي وفي القلب منها جماعة الإخوان،وهذا هو ما تسبب في فقدانه حاضنته لأنه بالفعل لم يحترم تدين المجتمع ليكون حالة وعلاقة خاصة بين العبد وربه ولم ينزهه عن التوظيف السياسي.

العلاقات بين تيار اليسار وتيار الإسلام السياسي قديمة وليست وليدة حراك الربيع العربي، وعلى الرغم من عراقة وسبق التيار اليساري في مصر وارتباط رموزه بقضايا الاستقلال والتنوير الفكري والنضال الثوري وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية والانتصار لطبقة العمال والفلاحين، إلا أنه لم يتدرجفي مسار مستقل بشكل متماسك وباتجاه الصعود والتطوير، وصولا لبناء كيان مستقل.

في السبعينات حصل أمر خطير عندما اعتبر اليساريون تيار الإسلام السياسي قوة ضاربة بأيديهم ضد خصومهم السياسيين، وبعد ما وقع اليسار في فخ الإسلام السياسي في الستينات وقع الإسلام السياسي في فخ اليسار نهاية السبعينات وبداية التمانينات، وبدأت القصة عندما أخرج الرئيس السادات رحمه الله الإخوان والجماعات الإسلامية من السجون لمواجهة اليسار والقوى التقدمية، ساعتها ينجح اليسار في تأليب الإسلاميين وتحريضهم ضد الرئيس السادات وشحنهم ضده وضد نظامه، يرفع الإسلاميون السلاح – ولم يكن تحريض اليسار السبب الوحيد- ويغتالون الرئيس السادات بعد ما رددوا نفس عبارات هجوم اليسار ضده بشأن زيارة الكنيست والسلام مع إسرائيل والانفتاح على الغرب (لكن بصبغة إسلامية) وهذا كان هو ما يكتبه نشطاءاليسار، إلى أن وقع المحظور وجرى تكفير الرئيس وإهدار دمه وبعدها اغتياله بحادث المنصة الشهير، وبذلك يكون اليسار انتقموا وثأروا لأنفسهم من الرئيس السادات ولكن بأيدي الإسلاميين والجهاديين، الذين أخرجهم خرجهم أصلًا الرئيس –ويا للعجب- ليكبح بهم جماح القوى التقدمية ويواجه بهم اليسار، و(لله في خلقه شؤون).

التجلي التالي للعلاقات دي بين اليسار والإسلام السياسي ودا حصل بدفع وتشجيع من منظرين غربيين وعرب انه حظيت جماعة الإخوان المسلمين بتحالف مع اليسار أتاح لها تلميع إسمها بمشهد الانتفاضات العربية اللي انطلقت سنة 2011م، وهذا التعاون جعل جماعة الإخوان تستخدم شعارات اجتماعية وسياسية لم تستخدمها طول تاريخها، ولم يقتصر هذا على الموجة الأولى للانتفاضات 2011م إنما تكرر وامتد مع كل ذكرى لحراك يناير، ولاحظنا استجابة نشطاء يساريين لدعوات قادة الإخوان للخروج والتظاهر.

غض اليسار الطرف عن كون جماعات الإسلام السياسي والإخوان قائمة على الاستبداد الديني وتعادي الحريات والتعددية، ولا تمتلك رؤية شاملة للإصلاح والتغيير ولا مشروعًا ثوريًا وهذا ماجعلهاعلى استعداد للتحالف مع قوى وأنظمة الاستغلال الطبقي التي ناضلت قوى اليسار ضدها على طول الخط.

ظن بعض اليساريين إن التقرب من القوى الإسلامية التي باتت تمتلك شبكة ضخمة من المدارس والمستشفيات الخاصة والمساجد والأحزابوالمؤسسات الاجتماعية والخيرية سيعيد إليهم قوتهم بالشارع من خلال جمهورهم وسط الطبقات المهمشة والفقيرة في المجتمع.

حديثًا أثبتت ثورة30 يونيو وما تلاها من أحداث تورط جماعة الإخوان المسلمين في العنف وهذا قلص مساحة تقارب اليسار مع تيار الإسلام السياسي، وطالما استمرت وضعية الجماعة كمطرودة من المشهد ومحظورة ومنبوذة وموضوعة في خانة الإرهاب، فالمعارضة اليسارية لن تجازف بالتعاون معها،خاصة أن القانون يدين ويجرم كل من يتعاون مع تنظيم إرهابي.

إذن مر تحالف اليسار مع جماعة الإخوان والإسلام السياسي بمحطات؛ حيث تشاركوا وتعاونوا وجمعهم تحالف ضد الدولة منذ 2005 وهذا وضح فيما قاله الاشتراكيون الثوريون في مؤتمرهم الذي عقدوه وقتها، واستمر هذا حتى السنوات التي كان اليساريون يلبون فيها دعوات الإخوان للتظاهر في 2019 وما قبلها، قبل أن تنجح الدولة المصرية في شق صف اليسار بالدعوة للحوار الوطني ليَنفَضْغالبيته عن جماعة الإخوان المهزومة والخاسرة ويلحق بفاعليات الحوار الوطني.

نحن اليوم في مرحلة ينبغي على كل تيار خلالها أن يراجع نفسه ومسيرته، وأرى أن أزمة اليسار المصري ليس كما قال الدكتور جودة عبد الخالق في إنه لم يحترم تدين الناس (لأن احترام تدين الناس) هو ترك خصوصيات الناس وعلاقتهم بربهم ودينهم وعقائدهم بعيدًا عن ملوثات وأغراض السياسة وهذا هو أساس الفكر التقدمي والدولة المدنية.

أزمة اليسار كانت في التقارب وربما التعاون والتحالف مع الإخوان والإسلام السياسي، ما يعني محاولة الجمع بين ضدين متناقضين ومنهجين لا يصلح أن يجتمعوا، لأن منهج جماعة الإخوان يعاني من قصور في التصورات والبرامج والأهداف المستقبلية، فالمنكر –على سبيل المثال- وفق تصورهاهو الاختلاط وزي المرأة وليس الفقر والمرض والجهل والأمية(وفق التصور الإسلامي الصحيح)، وأيضًا وفق التصور الاشتراكي.

وعندما كانت جماعة الإخوان المسلمين في المعارضة هاجمت اشتراكية عبد الناصر ووصفتها بالكفر واعتبر قادتها قوانين الإصلاح الزراعي أكلًا لأموال الناس بالباطل وناصبوا حركة الإصلاح والتطوير الحالية العداء ومارسوا العنف والاغتيالات،فكيف يتحالف ويجتمع فكر تقدمي مدني مع فكر رجعي تكفيري متطرف يوظف العنف والإرهاب؟