هشام الحمامى يكتب: معركة اليقين.

ذات مصر

بين معركة حطين ذات الشهرة الكبيرة في التاريخ(1187م) وبين طرد أخر صليبي من أخر إمارة صليبية في عالم الإسلام/ إمارة عكا (1291م).. 100 سنة تقريبا، وجرت خلال هذه المائة سنة، المعركة (ذات الإلهام).. عين جالوت(1260م) .

وهي بالفعل ذات إلهام كبير، وكلنا يعرف كيف كان الشرق الإسلامي تفككا وصراعا وبٌعدا عن كل ما هو صحيح (دنيا ودين) ومع ذلك بمجرد تحول(البوصلة) إلى الإسلام، حتى حدثت..

والأروع أنه بدأ بها العد التنازلي للوجود الصليبي في الشرق ..

***

فبدأ الظاهر بيبرس فورا بالخطوة اللازمة عام 1265م ودخل في معارك منظمة ضد الإمارات الصليبية وواصل الطريق من بعده السلطان المنصور قلاوون، الذي تولى السلطنة في سنة 1279م، واسترد اللاذقية وطرابلس1289م ثم بيروت (هل تسمعون أسماء هذه المدن الأن..!!)

ولم يبق سوى(عكا) وصيدا وبعض المدن الصغيرة، لكنه توفي في1290م وجاء بعده ابنه (الأشرف خليل)، والذي شاء الله تعالى له أن ينهي الفصل الأخير من أحد أهم دروس التاريخ الكبرى للشرق وللغرب أيضا، كما قال د/ عبد الوهاب المسيري رحمه الله .. درس (الحروب الصليبية).

***

حطين كانت رأس الفأس الذى هوى على أصل الشجرة الخبيثة، وأصبح الطريق ممهدا لاجتثاثها وإنهاء وجودها تماما، هي وما كان يتعلق بها من فروع وأغصان، وما كان دور(الفرد) فيها إلا دور التسليم والتسلم بين الأيادي الطاهرة والأيادي الصادقة التي كانت تمسك بحبل الله ..

وما جعل الله التاريخ على هو عليه إلا ليكون أحد الأبواب الكبرى للعلم والتعلم واكتشاف الأغوار العميقة للإنسان في نفس الإنسان، وما حول الإنسان، ولا شك أن الأشرف خليل بن قلاوون وأبوه المنصور رحمهما الله كانا على وعى تام بحطين.

***

الحبل موصول ممدود، والعهد قائم موجود، والرجال يولدون ويموتون ويولدون، أعمارا تلى أعمارا في زمن الوجود ..

الوجود الذى أوجده الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى علوا كبيرا، وما هو عنه بغافل سبحانه بل يدبِّره ويرعاه ويقدِّر أقداره، ويقلب ليله ونهاره، فيتذكر من يتذكر ويقول كما قال بن عطاء الله السكندري:

(علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني، أن تتعرّف علىّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء..                          

.. فأرى سلطان حكمك وباهر حكمتك في كل شيء...).

***

وسنهتدى و سنعرف بعدها بيقين أن هناك (تدبيرا إلهيا) للتاريخ، وإنه فعلا من أفعال (العناية الإلهية)..وأن الإنسان يكشف فيه، ومن خلاله وعبر(تنقلات أطواره واختلاف أثاره) !! عن الكثير من طبيعته الإنسانية كما قال المؤرخ الألماني أرنست كاسيرر (ت/1945م) في كتابه الهام (المعرفة التاريخية) الذي ترجمه لنا الأستاذ احمد حمدي محمود.

***

أهل الطريق لهم أنوارهم ومعارفهم التي تتنزل عليهم من رب العالمين كالمطر والغيث (بن عطاء الله السكندري مثلا) لكننا نقدر كثيرا ولا نهمل أبدا،من يتعب ويحفر في الأرض عينا بعد عين ،يشرب منها الأولون والأخرون (أرنست كاسيرر مثلا) .

***

وسيصح كثيرا كثيرا قول من قال (لنتذكر من حفر الأبار ونحن نشرب من مائها) ..وكيف ننسى وكيف ننكر، ونحن نتبع أبانا إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذى وصفه الله سبحانه بأنه (إبراهيم الذى وفى) ..                      

وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثالا للوفاء (أفلا أكون عبدا شكورا)، وكيف كانت الصحبة والصداقة بينه وبين أبى بكر والتي تعلمنا منها (كيف نكون أصدقاء وأصحابا).

وكان الفاروق رحمه الله يدمع بعينيه التي طالما فاضت منه وهو الشديد البأس.. ويقول (إن الله عظم الوفاء) ..

***

وهنا لن ننسي من حمل الفأس يوم (7 أكتوبر) ووضعه على أصل الشجرة الخبيثة .. ومن حفر لنا عين اليقين نشرب منها ونرتوى جيلا بعد جيل ..و(الحٌر) حٌر.. ما انتمى لمن عَلّمه لفظا، وقد علمونا ما لا يٌنسى من الوعى بديننا وأنفسنا وواقعنا وتاريخنا ..

***

من كان يتصور أن مقاومة مّحاصرة في (360 كم) قادرة على المواجهة والصمود طوال 408 يوم.. مواجهة أكبر جيش في العالم (الجيش الأمريكي/ الإسرائيلي) ومن ورائه أعتى الممالك الصليبية في أوروبا، عفوا أعتى الدول الغربية في أوروبا.. ومدد من التكنولوجيا لا ينقطع.

وإلى الأن هم (عاجزون) عن الوصول لأسراهم رغم اجتياح كل متر مربع، ورغم طيران استطلاع وتجسس (بريطاني) يحلق في الأجواء على مدار الساعة .. ليس هذا فقط بل وإيقاع عددا يوميا وعتادا فىكمائن من أذكى وأقوى ما عرفته حروب المدن.

بطولات من الفولاذ نراها بأم أعيننا، ويراها العالم ..وبالفعل يصح عليهم قول من قال (والفولاذ سقيناه)..

***

إنها بالفعل (معركة اليقين) بيننا وبينهم، فهذا الصمود الخيالي لأهل العزائم والأنوار وهم يتلقون القتل اليومى بصدور مفتوحة، ودموع مسفوحة على(الشرف) الذى أهدره كل سفيه، في ساعة تاريخية جاءتهم على أعتاب بيوتهم ليكونوا رجالا بحق وحقيقة ..

لكنهم أبوا إلا الحياة اليومية الكسيحة الذليلة، بطعامها وشرابها ومراحيضها، ولن تعدم القول من كل جبان ذو خدعة ولؤم.

كما قال المتنبى: يرى الجبناء أن العجز عقل ** وتلك خديعة الطبع اللئيم ..                                                         وأصدق وصف لهم فعلا هو وصف (اللئيم) .. وكما جاء بسفر الأمثال في الإنجيل (الرجل اللئيم .. الرجل الأثيم..  يسعى باعوجاج الفم).

وها هو كما قال المتنبى يعوج فمه ويصف العجز بالعقل.!

اللؤم أصلا يصفه العرب بانه من (سوء العقل)!! واللئيم عندهم كل مهِين النفس، خسيس الإباء..

***

ولنا أن نتخيل حالة السلطة الفلسطينية ومحمود عباس وفرج وحسين الشيخ وكل هؤلاء (الرسوم المتحركة) على شعاع واحد من ضوء هذه الأوصاف؟

فأي مهانة وأي خسة ..

ولنا أن نتخيل ما الذى كان سيكون عليه الحال لو لم تكن هناك (أوسلو/1993م) ولم يختم (عرفات) تاريخه بأسوأ خاتمة، ويلقى بنفسه وبشعبه في أحشاء الغرب وإسرائيل، لمنع تمدد الانتفاضة( 1987م)، و إعادة المارد إلى القمقم كما قال اسحق رابين ..

***

لم يكن ياسر عرفات إلا(دورا) على المسرح العربي الذى أقامها الغرب فوق أراضينا من الخمسينيات ..

والذي تٌمثّل عليه كل المشاهد والأدوار، إلا الدور الذى يتحتم عليه تمثيله بمثال الحق والحقيقة .، وهو التصالح مع تاريخهم، كما فعل الأشرف بن قلاوون الذى نظر إلى ما بدأه بيبرس وقبله صلاح الدين .. فجاهدهم وطردهم.

كان من الممكن أن يجلس على عرش السلطنة ويتبع نظرية الجبرووتوالشهووت ؟! (عش ودع الأخرين يعيشوا) كما قال الأستاذ هيكل عن الرئيس مبارك رحمهما الله ..

***

يتوقع الغرب وإسرائيل أن تكون الأعوام القادمة هي أعوامهم مع عربدة ترمب وطيشه .. لكنهم لو تأملوا لحظات قليلة فيما حدث من 7 أكتوبر حتى أول أمس (السبت 16 نوفمبر) في جباليا مثلا ..لعلموا أنهم مهزومون مهزومون ..

فهؤلاء الذين خرجوا لهم من تحت الأرض، لا يحملون سلاحا وعزما وشرفا فقط.                                

بل فوق ذلك يحملون اليقين .ويصح فيهم قول من قال: جاوزوا علم اليقين إلى عين اليقين..وينتظرون حق اليقين.

***

ما كان لنا أن نرى الأشياء على حقيقتها لو لم يخضعها الأبطال لاختبار واختيار الجهاد.

ومن كانت له الكلمة الأولى .. ستكون له  إن شاء الله الكلمة الأخيرة