هشام النجار يكتب: إطلاق اللحية.. برنامج الإخوان وطالبان لهزيمة أميركا والحضارة الغربية

ذات مصر

 

هيئة تحرير الشام وهي مجموعة كانت تابعة للقاعدة وتزعم أنها بتحكم بالشريعة في شمال سوريا، بعد انسحابها سنة 2019 من مدن وقرى انتزعها الجيش مثل سراقب وخان شيخون ومعرة النعمان، كان هناك دمارًا هائلًا ومدن أشباح، لكن الملفت والمذهل أن الجدران كانت تحكي كيف كانوا يحكمون الناس؛عبارات وسط الخراب بتوقيع مجموعات حكمت بالقهر وحد السيف مثل أحرار الشام وجبهة النصرة منها (اعفوا اللحية) (الحجاب أو العقاب) (الاختلاط حرام).. الخ..

المشكلة هنا أن الأمر يتوسع وليست جبهة النصرة ولا هيئة تحرير ولا أحرار الشام هي التي تطبق تلكالتصورات فقط؛ هناك أيضًا طالبان ولحقهم الإخوان في غرب ليبيا وأيضًا تجربة السودان، والسبب في رأيي أن هذا هو برنامج عمل كل الجماعات الدينية بداية من منشأها الأصلي عند جماعة الإخوان، إذ أسس المدرس حسن البنا أفندي جماعة (منع المحرمات) لتصير نوعًا من الشرطة الدينية التي تحارب تأثير المستعمر البريطاني على المجتمع خاصة أنه كان في الإسماعيلية وعاينطريقة عيش الأجانب وأزيائهم، بمعنى أنه من البداية وحتى اليوم ركزوا على هذا الجانب وبنوا خطتهم على أن الغرب خلاعة ومجون وسفور واختلاط وأن النقيض الحضاري الإسلامي هوتغطية شعر المرأة وإطلاق الرجل للحية ومنع الاختلاط وان هذا هو التمظهر الأهم للأخلاق والقيم، وأنه هو محل التنافس ومقياس الأفضلية وليس ماوصل إليه الإنجليز والأميركان وعموم الأوربيين من حضارة وازدهار وتقدم في كل المجالات.

أضرب مثالًا واحدًا فقط وهو نموذج الحكم الديني الصارخ وشبه المكتمل في أفغانستان، حيث أنهدف طالبان الرئيسي هو التمكين لنموذج مناهض أو بديل ومنافس للحضارة الغربية والأميركية محمي بقوة عسكرية، ونتذكر الصورة التي نشرتها الحركة لمجموعة من عناصرها ضمن كتيبة بدري 313 وهم يرفعون الراية على موقع صخري، فقد كان استنساخًا كاملًا وإعادة إنتاج للصورة الأيقونة في تاريخ العسكرية الأميركية التي التقطها جو روزينتال ونال بسببها جائزة بوليتزر لمجموعة من المارينز خلال الحرب العالمية الثانية وهم رافعون العلم الأميركي على جبل سوري باتشي أثناء معركة أيو جيما الشهيرة في اليابان، وهي التي تستخدمها أميركا للدعاية وكرمز للقوة الأميركية منذ بداية الحرب العالمية الثانية، وتوازى مع ذلك إصدار طالبان لقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الذي هو نفسه برنامج الحكم وقانون شرطة الأخلاق في ليبيا والذي هو نفسه في شمال سوريا؛ الحجاب - اللحية – الاختلاط)، والهدف الترويج لأفضلية متوهمة على أميركا وأوروبا التي حققت منجزات تصل إلى مستوى المعجزات وحققت رفاهية شعوبها، لكن طالبان وهيئة تحرير الشام وإخوان ليبيا يقولون (لايا نحن الأفضل بتغطية شعر المرأة وإطلاق اللحية ومنع الاختلاط في الأماكن العامة والجامعات والمتنزهات).

الملمح التنافسي واضح جدًا؛ صورة عنصر طالبان في العرض العسكري الأخير بزي عسكري كامل من الحذاء للخوذة، ما معناه أن مقاتل الحركة لم يعد ذلك العنصر الذي طالما سخر منه الإعلام الأميركي الذي يرتدي العمامة وينتعل الصنادل، كما أنه واضح بشكل أكبر في تطور ثياب أبو محمد الجولاني (أحمد حسن الشرع) –قائد هيئة تحرير الشام من الجلباب والشال وتغطية الوجه لزي بن لادن الأفغاني للكاجوال وصولًا للبذلة (الأفرنجية).

يقول المثل الصيني (من لا يقارن لا يعرف) وكانت هناك مقابلة عملاقة بين عملاقين هما (طه حسين وأحمد لطفي السيد) تساءل خلالها الأخير عن طبيعة جماعة الإخوان وأهدافها، فقال طه حسين ساخرًا -لكنه في الحقيقة لخص كل الملهاة والمأساة من حسن البنا للجولاني لهبة الله أخوندزاده لعماد الطرابلسي في عبارة واحدة- عندما قال (إنها جماعة تريد أن تستعيد الأندلس)، بالطبع هناك عجز عن تحقيق الشعارات الكبرى واستعادة الأمجاد الغابرة والانتقال لمصاف العظماء، كما أن العرب والمسلمين في الحضيض بين جوعى وقتلى ومشردين ونازحين ولاجئين ومتصارعين ومذلولين ونايمين في العراء ومفقودين ومدفونين تحت الأنقاض، والبقية عاجزون عن فعل أي شيء، وأوباش العالم وعتاته يتناقشون: هل ننتهي من المسألة خلال هذه الجولة أم نكتفي بهذا القدر ونواصل في نكبة أخرى قادمة؟

رغم هذا كله ورغم الفارق الذي يصل إلى أكثر من خمسين سنة حضارة في التفوق في القوة والتقدم المعرفي والتقني والعلمي والعسكري وتحقيق كرامة الإنسان وتوفير كفايته بل رفاهيته بيننا وبينهم، هناك مجموعات تحاول تعويض الشعور بالدونية بمزاعم الاستعلاء الديني والأخلاقي مثلما كتب الفيلسوف زكي نجيب محمود في كتابه (جنة العبيط)في أربعينات القرن الماضي؛ إن العالم الإسلامي سعيد وراض بأوضاعه المتخلفة وقانع بخدر لذة إظهار التفوق على الغرب في القضايا الجنسية باعتبار أن هذا أكثر شرفًا وفضيلة وفق ما يتوهم.

أسهل الأمور على الإطلاق الحدث عن المظاهر وفعل المظاهر (ما هو الإبداع هنا)، لكن هل حققت أنتالأخلاق والقيم الكبرى، هل لا يوجد عندك كذب وغش وشهادة زور وتحرش واغتصاب واختلاس وفساد ونفاق واحتيال وخداع،  هل قضيت على الفقر والبطالة وحققت الكرامة للبشر؟

الغرب حقق هذه القيم حيث نادرًا ما يكذب أو يغش أو يختلس أحد، وهناك مساواة أمام القانون ولا يفلتصاحب مركز أو نفوذ بجريمة أو يحابي أحد أقاربه، وهناك صدق في التعامل وإتقان في العمل ورحمة بالبشر وبالحيوان وهناك تكافل واسع مع الفقراء،وليست فقط الدولة هي التي ترعاهم بل أيضًا مؤسسات خاصة كبرى أسسها ويشرف عليها أثرياء، وهذا ويا للعجب هو المعنى الحقيقي لقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، لكن ليس كما يدعي الجولاني ولا الطرابلسي ولا غيره أنها تغطية الشعر وإطالة اللحية، إنما المعروف بمعناه الحقيقي في التصور الإسلامي نفسه هو تحقيق الكرامة الإنسانية وهذا ما أنجزه الغربيون والأميركيون من خلال التفوق العلمي والمعرفي والمادي الذي أدى إلى ارتفاع مستويات الرفاهية والإفاضة على الفقراء والضعفاء بالعطايا والمنح،والمنكر المطلوب إزالته ومجاهدته ومحاربته هو الفقر والعوز والذل والمهانة وفقدان الكرامة.

الإمام محمد عبده كان قد توصل إلى صياغة رؤية إسلامية كفيلة بترجمة مبادئ الإسلام ومفاهيمه إلى أخلاقيات مُنتجة للتعايش والحس المشترك للمواطنة والتكافل الإنساني والحرص على المصلحة العامة، ومحاربة الفساد والرشوة والكذب والنفاق الاجتماعي؛ ورأى أن الدين ليس محتاجًا لسلطة تحميه ولا لجماعة سياسية تدافع عنه وأن الإيمان ليس محتاجًا لحماية أحد، إذ أنه شأن من شؤون القلب والضمير وليس هبة من أحد عالمًا كان أو فقيهًا.

قال الإمام رحمه الله أن هذا ضمانة ضد أي سلطة دينية مزعومة تستمد نفوذها من فرض مظاهر وتهدر الطاقات في صراعات وهمية، لكن حدث أن الإخوانوالسلفيين ومن لف لفهم فعلوا العكس ليجعلواالمسلمين بدلًا من أن يملكوا دينًا فالدين الذي يملكهم، وأنه لا وجود للقيم الفردية لتُغل الروح التي لو لم تجد عضو أوقائد جماعة يقمعها قمعت نفسها بنفسها.

أرى أن الجهل بمفاهيم الإسلام وبقيمه ومقاصده، لا بل حتى بتفسير بعض الكلمات والألفاظ والأوامر هو سبب رئيسي في الكارثة، وأضرب مثالًا وحيدًاوالأمثلة لا تُحصى.

حديث (أعفوا اللحية) ليس معناه كما يتوهم البعض وكما تقول طالبان والقاعدة والسلفيون (أطيلوا اللحية)، إنما (وهذا يعرفه المختصون في اللغة والمدققون في فهم النصوص) بمعنى أزيلوا عفو اللحية وخذوا الزيادة منها وليس أتركوها وأطيلوها؛ لأن النبي أمر بإعفائها مخالفة لليهود وهؤلاء كانوا يطولون لحاهم، فالمخالفة لا تحصل هنا بالترك والإطالة إنما بإزالة العفو يعني أخذ الزيادة.

أيضًا فإن إعفاء اللحية (بمعني أزيلوا عفوها) من سنن الفطرة ليكون الإنسان نظيفًا وحسن المظهر ولو تركها وأهملها يصبح شكله منفرًا ومقززًا،والمعروف أن كل سنن الفطرة (إزالة) (لا ترك وإطالة)؛ إزالة كلية أو جزئية مثل تقليم الأظافر وقص الشارب وحلق الإبط والعانة.

والقصد في المظهر في الإسلام هو السمت الحسنكما ما قال الرسول عليه السلام، بمعنى أنه يختلف من شخص لآخر فمن رأى نفسه جميلًا وسمته حسنًا بحلقها فليحلقها والذي تليق عليه لا مانع منها لكن ليعتني بها ويهذبها غير معتقد أنها من أركان الإسلام وأنها هي من ستهزم الحضارة الغربية وستذل الأميركان والإنجليز، وفي كل الأحوال لا يتركها تتمدد طولا وعرضًا، ودا قال عنه ابن الجوزي في كتاب له اسمه (أخبار الحمقى والمغفلين) إن (طول اللحية من علامات الحمق والغباء).

إذن ليس من الإسلام أن تتحكم مجموعة أو سلطة في تدين الإنسان أو في طريقة تعبيره عن هذا التدين، فهذا يربي النفاق الاجتماعي أما الإيمان فليس في حاجة لحماية ولا سلطة تطبقه كونه شأنًامن شؤون الضمير، والحل هو توظيف المفاهيم مثلالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كآلية للتربية والإصلاح الاجتماعي ومحو أمية الشعوب والقضاء على الفقر وتحقيق الكرامة الإنسانية وتعزيز قيم التسامح والعطاء والبر والتكافل والإحسان.

أخيرًا توسع هذه التطبيقات الغريبة عن العصر وعن الإسلام من أفغانستان إلى سوريا إلى ليبيا إلى أفريقيا، يجعلنا نسأل عن المعادلة والبرنامج الذيتوصل إليه عقلاء وحكماء الأمة مثل طه حسين ولطفي السيد بعد نضال علمي وفكري مشهود، للعودة بالمسلمين والعرب والشرق عمومًا إلى الريادة والمنافسة والندية الحقيقية مع أوروبا، وهي التي تخرجنا فعلًا من التقوقع على الذات وعصر التخلف والظلمات إلى الانفتاح على فتوحات الحضارة والتقدم والثقافة الأوروبية التي أثرنا فيها وتأثرنا بها بدون التنازل عن ثوابت ديننا الصحيح.

إما تفعيل هذه المعادلة أو سنظل في الحضيض وف ذيل الأمم ويحق فينا الذي قيل ويُقال للتندر والتمسخر مثل ما قاله المتنبي (أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم) أو الذيقاله الشاعر الحِمْيرِي (ألا ليت اللحى كانت حشيشًا فنعلفها خيول المسلمينا