أشرف راضي يكتب: هل ستكون سوريا خطوة أولى في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط؟

ذات مصر

بعد نكبة جيوش مصر والعراق وسوريا والأردن في حرب فلسطين عام 1948، شهدت ثلاثة من الدول الأربع التي شاركت في الحرب، انقلابات أو تحركات للجيوش. فسوريا شهدت سلسلة من الانقلابات عسكرية، بدأت بانقلاب حسني الزعيم في 14 مارس 1949، الذي أصبح أول رئيس للجمهورية السورية الأولى قبل أن يطيح به انقلاب آخر في أغسطس من العام نفسه، ليفتح الباب لسلسلة من الانقلابات المتعاقبة التي بلغ عددها 20 انقلاباً، انتهت بانقلاب البعث في نوفمبر عام 1970، الذي عُرف باسم الحركة التصحيحية والذي أوصل بشار الأسد إلى منصب الرئيس لتحكم عائلة الأسد والطائفة العلوية قبضتها على سوريا.

تلا الانقلابات الأولى في سوريا الانقلاب العسكري في مصر والذي قاده تنظيم الضباط الأحرار في يوليو 1952، والذي أطاح بالنظام الملكي الذي أسسته أسرة محمد علي، وأقام نظاماً جمهورياً في مصر، وأخيراً انقلاب عبد الكريم قاسم على العرش الهاشمي في العراق في عام 1958، والذي حول العراق أيضاً من ملكية شبه دستورية إلى نظام جمهوري.

السمة المشتركة بين النظم الجمهورية التي تأسست بعد انقلابات عسكرية لم تقتصر على سوريا ومصر والعراق وإنما امتدت إلى اليمن التي تحولت محاولتها الانقلابية إلى حرب أهلية أدت إلى تقسيم اليمن إلى دولتين، ثم الجزائر والسودان وليبيا، هي تأسيس نظام يخضع لهيمنة الجيش على الشأن السياسي وتأميم العمل السياسي بإلغاء التعددية الحزبية واستبدالها بنظام الحزب الواحد قبل الانتقال إلى أشكال من التعددية الحزبية المقيدة في السبعينات، وكان الحكم الاستبدادي الذي يركز السلطة في يد رئيس الجمهورية ويهمش السلطتين التشريعية والقضائية لصالح السلطة التنفيذية ويعطي صلاحيات واسعة لأجهزة الأمن، وجعلت هذه الأجهزة من قضية تحرير فلسطين شعاراً وأحد مصادر شرعيتها.  

مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة رداً على الهجوم الذي شنته فصائل للمقاومة الفلسطينية في القطاع بقيادة حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، أشارت توقعات إلى أن الهجوم والحرب التي أعقبته، واللذين وصفا بالزلزال، من المحتمل أن تؤدي إلى تغيير لأنظمة في المنطقة العربية، على غرار ما حدث في حرب 1948، وعززت الإطاحة بنظام الأسد في سوريا تلك التوقعات، إذ تشير تقديرات إلى أن التغيير في سوريا قد تتبعه تغييرات أخرى في الأنظمة السياسية الحاكمة في المنطقة، وأن هذا التغيير قد يكون مقدمة لإعادة رسم الخريطة السياسية في منطقة المشرق العربي التي تضم سوريا والأردن ولبنان والعراق، وربما في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، وأن هذه التغييرات تحدث أيضاً على خلفية المواجهة العسكرية بين إسرائيل وخصومها الإقليميين، والهزيمة التي مني بها الخصوم الإقليميين المتمثلين في محور المقاومة الذي ترعاه إيران.

لكن ثمة فروق جوهرية بين التغيير في أعقاب حرب 1948 وبين التغييرات المحتملة في أعقاب الحرب الأخيرة التي لم ينخرط فيها أي من دول الجوار لإسرائيل وفلسطين المحتلة، وإنما شاركت فيها دولة من خارج النظام العربي، هي إيران وجماعات أخرى تحظى بنفوذ قوي في دولتين عربيتين، هما اليمن الخاضع لسيطرة جماعة الحوثي، ولبنان الذي تسيطر جماعة حزب الله سيطرة عسكرية على جنوبه وعلى مناطق في شماله الشرقي في سهل البقاع على الحدود السورية، وتستند الجماعتان إلى الطائفة الشيعية وتدينان بالولاء لإيران الخاضعة لحكم مرجعيات شيعية.

وفي حين كانت حرب 1948 بين جيوش نظامية في مواجهات عصابات صهيونية والهاجاناه، نواة الجيش الإسرائيلي، كانت الحرب الأخيرة بين جيش نظامي، هو الجيش الإسرائيلي وجماعات مسلحة لا تمثل رسميا الدول التي تنطلق منها في لبنان وفي اليمن وفي العراق، في حين أن المواجهات المتبادلة بين إيران وإسرائيل لم تصل إلى حد حرب شاملة بين جيشين، كذلك قامت إسرائيل بتدمير القوات العسكرية للجيش السوري دون حرب. وفي حين أطاحت الجيوش النظامية في كل من سوريا والعراق ومصر بالنظام الملكية وأسست شرعيتها على قضية تحرير فلسطين، أطاحت فصائل المعارضة الإسلامية المسلحة بنظام الأسد البعثي المستند إلى تأييد الطائفة العلوية فيما تم حل الجيش السوري بعد تهميشه من قبل نظام الأسد على مدى عقود، وتسعى لتأسيس شرعيتها على أساس معارضتها لاستبداد النظام الذي أطيح به، فلم تستخدم الفصائل المعارضة في سوريا قضية فلسطين أو الحرب في غزة لتبرير تحركها الذي أطاح بحكم أل الأسد.

تغير وجه الشرق الأوسط

في المقال السابق، أشرت إلى أن التغيير في سوريا جرى على خلفية نتائج المواجهة العسكرية بين إسرائيل وكل من جماعة حزب الله اللبنانية وإيران على الساحتين اللبنانية والسورية، نتيجة لتأثر قوة حزب الله العسكرية وقوة إيران نتيجة للحرب، وذكرت أن حدود هذا التغيير ستظل محصورة في سوريا لبعض الوقت، على الرغم من تحريض دوائر في اليمين الإسرائيلي الحاكم ضد العرش الهاشمي في الأردن، الذي نجا من الانقلابات في أعقاب حرب 1948، نتيجة لتوازنات إقليمية ودولية ومناورات القصر الملكي للحفاظ على النظام على الرغم من كل التناقضات الداخلية والخارجية، وصمدت الأسرة الحاكمة في الأردن الذي تحمل العبء الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، رغم هزيمته دون حرب في عام 1967، واحتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية اللتين كانتا تحت  إشرافه، وصمد في المواجهة العسكرية مع منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المختلفة، وفي مواجهة ضغوط حكومتي البعث في العراق وفي سوريا، وفي وجه التحولات المتلاحقة في المنطقة وأزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأهم أنه صمد، إلى الآن في مواجهة مشروع الوطن الفلسطيني البديل الذي ترعاه فصائل اليمين الصهيوني. ومن المبكر الحكم على تداعيات التغيير في سوريا وما إذا كانت القوى الدولية والإقليمية ستسمح بأن تمتد رياح التغيير للإطاحة بالنظام الملكي في الأردن، الذي يمتلك مهارة سياسية مكنته من احتواء الضغوط الداخلية والخارجية والصمود رغم انحيازه للعراق في حرب عام 1991.

في 23 نوفمبر عام 2012، كتبت كوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأمريكي وزيرة الخارجية، في إدارتي الرئيس الجمهوري جورج بوش، مقالاً بعنوان "سوريا عنصر أساسي في الحفاظ على تماسك الشرق الأوسط"، قالت فيه إن الحرب الأهلية في سوريا "قد تكون الفصل الأخير في قصة تفكك الشرق الأوسط كما نعرفه"، محذرة من أن الفرصة التي يمكن من خلالها الحفاظ على تماسك المنطقة وإعادة بنائها على أسس أكثر رسوخاً من التسامح والحرية والاستقرار الديمقراطي، تفلت من بين أيدينا. وأشارت إلى أنه باستثناء مصر وإيران وتركيا التي تتمتع بتاريخ طويل ومتواصل وهوية وطنية قوية، بعيداً عن مسألة الأكراد الذين لم تتمكن تركيا من دمجهم إلى حد كبير، والذين يغريهم الأمل في إقامة دولة مستقلة خاصة بهم، فإن معظم الدول المهمة في المشرق العربي، سوريا والعراق ولبنان، والأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، تُعد تكوينات حديثة رسمت حدودها السياسية وفق المصالح الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا، دون مراعاة للاختلافات العرقية والطائفية بين مكوناتها، والتي كان لها دور في تعديل الخرائط الاستعمارية وظهور الدول على النحو الذي باتت عليه عشية الاستقلال الرسمي عن الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع الخمسينات.

ولعب التدخل البريطاني في منطقة الخليج العربي دوراً في نشأة دول مستقلة عن نفوذ آل سعود على ساحل الخليج. وأشارت رايس إلى أنه على الرغم من بنية الدولة الهشة في الشرق الأوسط، ظلت هذه البلدان متماسكة على مدى عقود في ظل نظم ملكية أو جمهوريات دكتاتورية.

خلافاً للتصور الشائع عن السيدة رايس التي ارتبط اسمها لدى قطاعات كثيرة من النخب الحاكمة، وأيضا النخب المعارضة، في المنطقة بتعبيرات مثل الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، وتصورات بأنها تخطط لتفتيت المنطقة، كتبت في نهاية المقال المذكور محذرة من أن انهيار نظام الدولة في الشرق الأوسط يشكل خطراً أشد على المصالح الأمريكية لأن إيران ستخرج منتصرة، وأن خسارة حلفاء واشنطن في المنطقة ستستمر لعقود وتفتح الباب لمزيد من البؤس والعنف التي تجعل الفوضى المنتشرة في ذلك الوقت أمراً هيناً، محذرة من أن الحرب في الشرق الأوسط لا تتراجع وإنما تتجه نحو ذروتها، ولا بد من تحرك من قبل الولايات المتحدة وحلفائها.

والتصور المهيمن على رايس وكثير من صُنَّاع السياسة الغربيين المتأثرة بتحليلات المستشرقين والمستعربين تقوم على أساس فكرة مؤداها ضرورة التدخل المباشر وعدم ترك الأمر للقوى الإقليمية، لأن تركها لتلك القوي لا يؤدي إلا لتفاقم الطائفية التي تنتشر في المنطقة مدعومة بسياسة إيرانية نشطة تقوم على حشد الشيعة في دول المنطقة في تحالف بقيادتها. هذا التهديد الإيراني من منظور كبار الاستراتيجيين الأمريكيين، وفي مقدمتهم هنري كيسنجر الذي أوضح في كتاب النظام العالمي الذي نشره في عام 2014، أن الأصولية الإسلامية الإيرانية الشيعية أكثر خطراً على المصالح الأمريكية من الأصولية السنية، والتي ترى أنها أخطر على تلك المصالح من نظام الأسد الذي يعني انهياره وصول تلك الجماعات السنية المتشددة إلى السلطة.

الآن، وبعد مرور أكثر من 12 عاماً على ذلك المقال، جرت مياه كثيرة ودخلت تغيرات على عناصر كثيرة في المشهد الإقليمي، وكان تراجع المحور الإيراني شرطاً ضرورياً لتغيير النظام في سوريا، لكن سبق ذلك التراجع تدمير تنظيم القاعدة في العراق والشام (داعش) الذي سيطر على الموصل ومساحات كبيرة من الأراضي في شمال العراق وشمال شرق سوريا بين عامي 2014 و2017، على يد التحالف الدولي العربي، وبمشاركة قوات الحشد الشعبي التي شكلتها إيران من الشيعة العراقيين وميلشيات عشائرية سنية شكلها السنة في العراق بدعم من الولايات المتحدة، وإعادة تأهيل فصائل المعارضة المسلحة السورية الإسلامية لتصبح أقل تشدداً برعاية تركيا التي تروج لنموذج إسلامي أقل تشدداً ومتصالح مع القوى الغربية، وبقيت عوامل أخرى شائكة في المشهد، أهمها عدم توافق مصالح القوى الإقليمية والدولية الداعمة للمعارضة السورية التي بنظام بشار الأسد، والسؤال المطروح الآن مع اقتراب تنصيب الرئيس الجمهوري دونالد ترامب العائد إلى البيت الأبيض، في 20 يناير القادم، عن الحدود التي يمكن أن تصل إليها رؤيته للتغيير في المنطقة.

نهاية الاستشراق

في عام 1978، نشر عالم الاجتماع البريطاني بريان تيرنر كتابه "ماركس ونهاية الاستشراق"، ونشرت طبعته العربية التي ترجمها يزيد صايغ في عام 1981، ويرى الأستاذ الجامعي والكاتب والمفكر اللبناني، خالد زيادة، أن نقد تيرنر للاستشراق قد يكون أعمق الانتقادات التي يوجهها أوروبي للمنظورات الاستشراقية، ذلك أن تيرنر ينبه إلى خطورة النظرة الاستشراقية، وبشكل خاص الدراسات التي تركز على المجتمع الإسلامي والشرق أوسطي، والتي تنظر إلى ذلك المجتمع بوصفه "فسيفساء من المجموعات الاجتماعية المعزولة والمكتفية ذاتياً" في أنها تمد علماء الاجتماع وعلماء السياسة بالمواد الأولية لبحوثهم ودراساتهم التي تبني نموذجاً مثالياً للمجتمع الغربي يتجلى جوهره الداخلي في تقدم ديناميكي باتجاه التصنيع والديمقراطية، بينما تنظر إلى المجتمعات الإسلامية والعربية على أنها راكدة إلى الأبد ومتراجعة منذ نشأتها.

إن بحوث ودراسات خالد زيادة وكذلك المفكر المغربي عبد الله العروي وغيرهما من مفكرين ينطلقون من النظرة النقدية للاستشراق ولمشروع الحداثة الأوروبي، وما يمكن أن يقدمه هذا المشروع للشعوب العربية جديرة بالدراسة والاهتمام والمناقشة، لكن لا بد من وضع التاريخ الخاص للشعوب العربية في سياق النظرة العامة للتاريخ، كي لا تتحول الخصوصية إلى استثناء عربي يدعم الاستبداد السياسي ويبرر استمرارية الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي لا تعمل لصالح القطاعات الواسعة من الشعوب العربية.

إن النظرة النقدية لمشروع الحداثة الأوروبي لا تجب أن تحول دون الاستفادة من خبرة هذه الشعوب في التقدم وبناء نظم سياسية واجتماعية مستقرة وتستند إلى مصادر للشرعية قابلة للقياس والتقييم على أساس ما تحققه من تقدم ورفاهية لشعوبها والدفاع عنها وعن مصالحها، وهو ما لم نشهده في ممارسات السلطة في الخبرة العربية الإسلامية، التي تميل إلى لإغلاق العقل وانغلاق المجتمعات الإسلامية ومنعها من الانفتاح على العالم.

إن صدمة الحداثة التي تعرضت لها هذه المجتمعات منذ مطلع القرن التاسع عشر ونتيجة للحملة الفرنسية على مصر والتي وصلت إلى جنوب الشام أحدثت توتراً داخل هذه المجتمعات لم تنجح النخب المثقفة في معالجته. فهذه النخب وقعت أسيرة الدراسات الغربية، لاسيما الدراسات الاجتماعية والسياسية والفكرية لباحثين أوروبيين وغربيين تناولت المجتمعات العربية والإسلامية وتلتقي مع الفكرة الأساسية للاستشراق الأوروبي الذي يشمل دراسات باحثين معاصرين والتي ترى أن الفكرة القومية في الشرق الأوسط ناقصة وجزئية لأنها فشلت في تحدي التدين التقليدي للجماهير، وهذه النظرة مسؤولة إلى حد كبير عن الفشل في عمليات بناء الدولة بعد التحرر من الاستعمار، والقدرة على استيعاب المكونات الأساسية لتلك الدولة التي ظلت مرفوضة ولا تحظى بشرعية في نظر التيارين الأساسيين في السياسة في الدول العربية، وهما التيار القومي العربي والتيار الإسلامي، اللذين يرفضان فكرة إمكانية بناء دول وطنية قادرة على التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سياق الحدود الموروثة عن الاستعمار والتي رسمت في أعقاب الحرب العالمية الأولى واللذين عجزا، في الوقت نفسه، عن تحدي النخب صاحبة المصلحة في الحفاظ على الدول ضمن حدودها الراهنة ولم تستطع تحدي الجماهير التي جرى حشدها لصالح الهويات الوطنية الناشئة، على النحو الذي يظهر في تجليات كثيرة متعلقة برفض تدخل أي قوة في الشؤون الداخلية في الدول الأخرى على الرغم من التضامن الأممي أو العقائدي بين تلك الجماعات، والتي تدافع بشراسة عن الوحدة الإقليمية للدول في مواجهة أقليات حرمت من حقها في تقرير المصير.

لقد أظهرت الكثير من الحوادث التي شهدتها المنطقة منذ حصول الدول على استقلالها الرسمي عن الاستعمار البريطاني والفرنسي، مدى هشاشة دعاوى تيارات القومية العربية والبعثية وكذلك ادعاءات القوى الإسلامية عن عدم شرعية الكيانات الوطنية وضرورة تغيير الحدود، وتجاهلها أن التغيير الوحيد الممكن لتلك الحدود هو مزيد من التفتيت والتجزئة للكيانات الوطنية التي فشلت في تقديم نماذج سياسية قادرة على استيعاب المكونات المختلفة للمجتمع وتأسيس النظام السياسي على قاعدة المواطنة والحقوق المتساوية للمواطنين وأليات ديمقراطية لتمثيل القوى السياسية والاجتماعية المختلفة.

وقد تقدم تجربة العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في أعقاب الغزو الأمريكي نموذجا يسترعي الانتباه ويستدعي الدراسة والتأمل. هنا، تكمن مشكلة أخرى تتمثل في رفض هذا النموذج من منطلقات أيديولوجية لأن هذه التجربة تمت في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وهو الرفض الذي يحول دون التقييم الموضوعي والعقلاني للنجاح الذي أحرزته الولايات المتحدة في تمكين الشعب العراقي بمكوناته المختلفة من بناء نموذج سياسي قادر على استيعاب المكونات المختلفة للمجتمع العراقي، وأثبت هذا النموذج نجاحه عدة مرات في مواجهة تحديات داخلية تهدد بتقسيم العراق، أخرها الاستفتاء الكردي على انفصال كردستان العراق واستقلالها، والذي أجري في 25 سبتمبر 2017، والذي أشارت نتائجه إلى أن الغالبية العظمى من الناخبين الذين شاركوا في التصويت بنسبة مشاركة بلغت 72 بالمئة، صوتوا لصالح الاستقلال بنسبة 92 بالمئة.

بالتأكيد، هناك تحديات كثيرة داخلية وخارجية تواجه النموذج العراقي، لكن من الخطورة التركيز عليها وإغفال الجوانب الإيجابية والتقدم الذي أحرزه العراقيون وكفاحهم من أجل تطوير هذا النموذج، ليثبتوا عن استحقاق أنهم جديرون بأن يقدموا نموذجاً مغايراً للنموذج الاستبدادي الذي كان سمة ملازمة لأنظمة الحكم التي تعاقبت على العراق منذ استقلاله، والتي دفع العراقيون بطوائفهم المختلفة ثمناً باهظا له. أمام الشعب السوري فرصة تاريخية لتقديم نموذجهم الخاص لوضع أسس لنظام قادر على استيعاب المكونات المختلفة للشعب السوري على أساس قاعدة الحقوق المتساوية للمواطنين ودولة القانون، وربما تكون سوريا في حاجة للاستفادة من آليات العدالة الانتقالية للانتقال إلى الوضع الجديد، لكن نجاح هذه التجربة مرهون على مدى التوافق التركي الإيراني بخصوص إدارة المرحلة المقبلة في سوريا، وهل ستسمح الدولتان بمنح السوريين حقهم في تقرير مصيرهم وترتيب أولوياتهم والشروع في بناء الوطن السوري لجميع السوريين، أم أنهما سيغلبان مصالحهما الخاصة.

قد تكون مشاركة الرئيسين الإيراني مسعود بزشكيان والتركي رجب طيب أردوغان في قمة مجموعة الدول الثماني النامية، في العاصمة المصرية يوم الخميس مناسبة لبناء تفاهم بين الدولتين بخصوص الوضع في سوريا، ومناسبة لأن تلقي القيادة المصرية بثقلها لتأمين عملية للانتقال السلمي في سوريا.

على هذا النحو، يمكن أن تكون سوريا خطوة أولى في عملية لوضع أسس لشرق أوسط جديد قائم على التفاهمات بين القوى الإقليمية الرئيسية، على ضرورة احترام السيادة والسلامة الإقليمية للدول وعدم التدخل في إرادة الشعوب وحقها في اختيار حكوماتها عبر انتخابات حرة وبناء الديمقراطية التي تضمن التداول السلمي للسلطة بما يعكس الإرادة الشعبية للناخبين، ويتيح للنخب البدء في مشاريعها الخاصة لبناء الدولة الوطنية على أسس الحقوق المتساوية للمواطنين ودولة القانون، هذه الخبرة التي يمكن تعلمها من المسار العام لتاريخ الأمم والشعوب التي تمكنت من بناء دول مستقرة تعمل لصالح السواد الأعظم لمواطنيها، هذا التحرك هو الذي من شأنه قطع الطريق على أي خطط أخرى لإعادة رسم الخريطة على نحو لا يحرز تقدما للشعوب.