د. عمرو عبدالرازق تعلب يكتب: صورية الدستور والقانون
مثل لوحة من لوحات ليوناردو داﭬنشي جذابة مبهرة غاية في المعنى تسافر بك إلى أبعد الحدود لتستنشق من ملامحها هواء الحرية وتتذوق معنى العدالة الحقيقية وكأنك تعيش في المدينة الفاضلة ( utopia) تلك المدينة الخيالية التي تحدث عنها أفلاطون في كتاباته وحلُم بها ،هكذا تكون بعض نصوص الدستور والقانون رائعة في صياغتها راقية في معانيها جميلة الرسم والاسم ذائعة الصيت كادت أن تنطق عدلاً لكنها ليست إلا تحفة فنية صورية ليست حقيقية .
فصورية النصوص الدستورية أو القانونية ليست من الأمراض التشريعية الظاهرة في ملامح النص أو في ألفاظه وعباراته أو في صياغته وإنما الصورية مرض تشريعي خفي عن ظاهر النص يلمسه القاصي والداني و المخاطبون به على وجه التحديد حال افتقادهم للغاية التي من أجلها سُن الدستور أو القانون في واقعهم وبخاصة النصوص الماسة بحرياتهم وحرمة حياتهم الخاصة والمعنية كذلك بمباشرة حقوقهم السياسية. وهي مخالفة الواقع العملي للنص لظاهره ، ومن ثم فهي أشبه ما يكون بحالة فصام بين الوجود الشكلي للنص ووجوده المادي في الواقع.
وإذا لم ترعَ الدولة ممثلة في هيئاتها وجهاتهاومؤسساتها المعنية تنفيذ فحوى نصوص الدستور والقانون وتقوم على تجسيده في حياة المخاطبين به وواقعهم كانت الصورية مرضاً حتمياً ونتيجة منطقية لازمة للتجاهل المُمنهج والمقصود لذاته والالتفاف حول النص والتَغَوُّل عليه والافتئات من ثم على مقصوده وغاياته.
ولم تلق صورية الدستور والقانون حظاً وفيراً من اجتهادات الفقه والقضاء ويُعْزَى ذلك إلى كون الصورية مرضاً تشريعياً وقاتلاً خفيا يصيب النصوص أيا كانت درجتها التشريعية وهذا ما يخلع عليها وصف الأكثر خطورة من بين عيوب التشريع ،وذلك على عكس العيوب التشريعية الشائعة والظاهرة لرجال القانون من قصور وغموض وعمومية وجهالة وتناقض أو تعارض والتي من شأنها أن تحدث اضطراباً في فهم النص والعمل به وما يتمخض عن ذلك من إثارة لعديد من المشكلات العملية والتطبيقية ؛وهو ما يجعل منها حقلاً خصباً للدراسات النقدية في إطار البحث العلمي القانوني.
وصورية الدستور والقانون تكون مدعاةً وسبباً منطقياً وجديراً لعدم احترامهما ونشوز المخاطبونبهما عن إطاعتهما إذا لزم الأمر ذلك ،ومهما كلفهم في سبيل التخلص مما وجدوه وعايشوه من تدليس حاصل بالنظر إلى ملامح النص الظاهرةوالهوة السحيقة بينه وبين واقعهم الفعلي البائس حال الوجود الصوري للتشريع.
فمن أجل هدم الصورية التشريعية تقوم الثورات وتنتفض الحركات الوطنية لإزاحتها بغية تفعيل وإنعاش ما عطلت في شؤونهم من نصوص مهما بلغت دقة صياغتها وحسن بيانها وبلاغة ألفاظها وعمق معانيها ونبل مراميها ،وإعادتها من ثم للحياة كَرّةً أخرى بعدما أن ماتت إكلينيكياً.
تسعة دساتير وعشرات الآلاف من نصوص القوانين ولا زال مجتمعنا يعاني الفقر في العدالة ويفتقر إليها !!!
أليست مصر أحق بخير أبنائها من غيرها؟ تزرع ليحصد غيرها؟ تسقي ليرتوي غيرها؟ فحريٌ بمصر أن تستشير لتستنير بعقول أبنائها من النابغين النابهين في علوم القانون ؛فالتشريع ليس لُعبة للتسلي ولا حقل تجارب للهواة ولا عملاً سينمائياً لمشاهير الفن ولا سُلّما يتسلق عليه المنتفعين المنافقين المداهنين للسلطة المرائين لها إنما هو فن صياغة معاني العدل و العدالة في نصوص تشريعية بأيدي المتخصصين في علوم القانون وفنونه دون سواهم. وليس هذا فحسب حتى يلقى الرعاية والإرادة الجادة لتفعيله وتنفيذه على أرض الواقع.
نحن لسنا بأزمة في صياغة التشريع بقدر ما نحن في أزمة إعمال مقتضى غايات نصوص الدستور والقانون فمصر وَلاَّدة ،وكم صدَّرت فقه القانون وفلسفته ومبادئ القضاء وأحكامه للكثير من الدول العربية والأجنبية ،ووطننا زاخر بفقهاء القانون وشيوخه وبرجال القانون والقضاء الشرفاء من المحامين والقضاة من الذين سطروا بأقلامهم أبهى معاني العدل والعدالة.…. وللحديث بقية دمتم سالمين.