هشام النجار يكتب: أردوغان فاتح سوريا والشرع والي دمشق وفتحي يحلم بالقاهرة
مرحلة جديدة ومختلفة تمامًا في سوريا بعد إسقاط نظام بشار الأسد، لا بثورة شعبية (كانت محتدمة ومتصاعدة منذ العام الماضي من الجنوب خاصة من درعا والسويداء) يحميها ويحرسها الجيش ليحافظ على كيان الدولة واستقلالها ويمنع الوصاية والتدخلات الخارجية مع تحقيق المتاح من المطالب الشعبية المشروعة كما حصل في النموذج المصري.
حصل التغيير الكبير في سوريا بالاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة من خلال مجاميع إسلامية مدعومة من تركيا، بالتوازي مع تفكيك كيان الدولة وجيشها ومؤسساتها بجهود مشتركة مع إسرائيل، وإن فرح السوريون ومحبو الحرية وكرامة الشعوب في كل مكان في العالم بسقوط الحكم الديكتاتوري المستبد القمعي، فقد توجس الكثيرون خيفة من تمدد مشاريع إقليمية طامعة في الفضاء السوري الإستراتيجي.
تحقق تركيا في سوريا الذي لم تقدر على تحقيقه في مصر وهو التمكين لمجموعات موالية لها تمامًا تنفذ ما تريده حرفيًا أي (فتح سوريا على الطريقة العثمانية ) ثم حكم سوريا بشكل غير مباشر واستدعاء نظام السلطنة العثمانية القديمة في شكل ولايات تُدار من المركز؛ ما يعني أن أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع سيكون رجل المرحلة التركية المقبلة في سوريا، والذي سيمكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تحقيق سيطرة عامة على سوريا لكن من وراء ستار.
كان هذا النموذج مؤملًا تركيًا في محمد مرسي في مصر وراشد الغنوشي في تونس وفايز السراج في ليبيا.. الخوتحقق الإنجاز أخيرًا للرئيس التركي الذي سيزور دمشق بعد أيام وسيظهر أمام الإسلاميين والعالم وحاضنته الفكرية داخل تركيا والموالين له في أوساط الجهاديين في صورة الفاتح العثماني الجديد.
احتفلت مؤسسة الشباب التركية (توغفا) وهي منظمة ممولة من الحكومة في منشور حديث على منصة التواصل الاجتماعي اكس بانهيار النظام السوري، ونشرت صورة للاجئين سوريين يحملون ملصقات أردوغان أثناء مظاهرة، وجاء في المنشور: (عندما يتذكرك التاريخ سيعترف الجميع بعظمتك أيها القائد العظيم، فاتح سوريا، رجب طيب أردوغان).
الشرع وهيئته وفصائله ليسو أكثر من تفصيل صغير في المشهد يؤدي أدوارًا مُسندة إليه، وهو رجل بالكاد يدير تشكيل مسلح معارض أو منطقة في الشمال السوري، وليس لديه القدرات ولا الخبرات التي تمكنه من إدارة دولة في موقع ومكانة سوريا كحال كل تياره وهذا يعلمه الأتراك جيدًاوالأميركان أيضًا.
من خلال حاجة أحمد الشرع إلى قوة خارجية تسنده وتوجهه وتدعمه أمام تحديات بدون حصر وحاجة تركيا أنها تسيطر وتتحكم في مختلف التفاصيل في سوريا، ستتدخل أنقرة في كل صغيرة وكبيرة في عمل القيادة الجديدة و(ستهندس) مستقبل سوريا ودستورها وحكمها واقتصادها وتحالفاتها وقراراتها وقوانينها، وستحدد من يشارك في السلطة ومن لا يشارك ومن يحمل سلاح ومن لا يحمل وكيف تُدار الثروة ومن يشارك في إعمار البلد ومن لا يشارك على مقاس مصالحها الخاصة.
يعني ذلك باختصار شديد أن تركيا ستعيد إنتاج نظام الإنتداب البريطاني- الفرنسي على المنطقة من خلال الطيع المطيع الطائع (لأستاذه وملهمه أردوغان) ذلك المتحورالمغامر خواض الغمرات خالع المبادئ ورداء الجماعات ومرتدي القمصان والبنطلونات والبزات، الذي أعطى البيعة للخليفة أردوغان بعد ما نقض بيعة أبو بكر البغدادي وأيمن الظواهري، فلتة الجهاديين وبعبع الروس والإيرانيين وأيقونة الأتراك والأميركيين (أبو محمد الجولاني- أحمد الشرع)، الذي سيكون بمثابة المندوب السامي الذي ستقتصر مهمته أن ينفذ القرارات التي ستنزل إليه وتُرسل إليه من الباب العالي، وهذا معناه أن المشروع الذي شرحنا تفاصيله وخلفياته وأبعاده التاريخية وأهدافه على مدار سنوات(مشروع العثمانيين الجدد) صار أخيرًا واقعًا ويتحقق على الأرض.
قبل أن نشرح المشروع وأدواته ونكشف كيف أنه مستوحى ومنقول بكل تفاصيله من المشروع القديم ينبغي أن نلفت إلى مغزى الصورة التي جمعت بين أبو محمد الجولاني ومحمود فتحي وهو إرهابي مصري ديناميكي ونشيط جدًا وتربطه علاقة وطيدة بالاستخبارات التركية، وظل يحاول طوال السنوات الماضية بعد إسقاط حكم الإخوان في مصر باستماتة أن يصنع حالة تمرد ضد السلطة في مصر.
تلك اللقطة الموحية لمحمود فتحي المعروف بتسلقه ووصوليته وبحثه عن أي خيط وحبل وقشة ترفعه للضوء حيث كان بجوار حازم أبو إسماعيل ثم بجوار مرسي ثم بجوار ياسين أقطاي وأخيرًا بجوار الجولاني، معناها أن فتحي يحلم بالفتح وأن يكون هو قريبًا جولاني مصر، أي المندوب السامي نيابة عن العثمانيين الجدد والسلطان أردوغان في القاهرة.
السؤال: في أي مشروع يخدم الشرع وفتحي؟ الإجابة يتولاها الخليفة نفسه وصاحب المشروع شخصيًا؛ عندما وقف الرئيس التركي أردوغان أمام ضريح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك ليقول له في فيديو شهير متداول ويحدثه عن مخططه المسبق للسيطرة على ثروات البحر المتوسط من سوريا وحتى ليبيا.. وقال ساعتها(أتاتورك العزيز، نحن أعضاء هذا المجلس نقف أمام ضريحك بمناسبة اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى لعام 2020م، حيث نواصل العمل من أجل تحقيق الأهداف المنشودة لعام 2023 للجمهورية التركية التي أسستموها وأوكلتموها لنا،إن الإنجازات التاريخية التي حققناها على جبهات مختلفة بدءًا من سوريا وليبيا ووصولًا إلى شرق البحر المتوسط ومكافحة الإرهاب تظهر بوضوح قوة بلدنا وقدرات جيشنا).
لا يتكلم السلطان العثماني الجديد الرئيس التركي أردوغانمن فراغ عندما قال (يسألوننا عن أسباب انشغالنا بسوريا، الجواب بسيط للغاية؛ لأننا بلد تأسس على بقية الدولة العلية العثمانية.. نحن أحفاد السلاجقة، نحن أحفاد العثمانيين، نحن على امتداد التاريخ أحفاد أجدادنا الذين ناضلوا ونحمل في جذورنا روح السلاجقة والعثمانيين، ولذا فالشعب السوري أمانة أجدادنا في أعناقنا، وسنصل إلى كل نقطة وصل إليها أجدادنا على ظهور الخيل وسنهتم بها)، وقد أثبتت الأيام أنه بالفعل حدث واهتم بها.
المشروع القديم (السلطنة العثمانية) يعود في ثوب جديد(العثمانية الجديدة) ببدل وجرافتات ولا يختلف كثيرًا في التكتيكات والنهج والأدوات؛ (شعارات دينية، مجاهدون في سبيل مجد الإسلام، غزو باسم الرب وفتح مبين، اعتماد على وكلاء يدينون بالولاء يحصلون على جزء من الغنيمة ويظهرون كما لو أنهم هم الحكام ورجال الدولة)، وهم ليسو أكثر من أداة في مشروع كبير عنوانه إحياء إمبراطورية مضى على تفككها قرن من الزمان.
ولذلك صعد رئيس الشؤون الدينية في تركيا علي أرباشمنبر أيا صوفيا بمدينة إسطنبول حاملًا سيفه بيده بعد يوم واحد من حديث الرئيس أردوغان أمام ضريح أتاتورك، وتلكعادة عثمانية ابتدعها السلطان محمد الفاتح في الجامع الكبير بأدرنة قبل فتح القسطنطينية (إسطنبول حاليًا) واتبعه فيها السلاطين، وهذا يعني إيذانًا منذ 2020 بإحياء الإمبراطورية العثمانية على يد العثمانيين الجدد.
بالفعل بايعت جماعة الإخوان الخليفة الجديد كزعيم للمسلمين في العالم في كلمة مذاعة ألقاها الشيخ الراحل يوسف القرضاوي في 23 ابريل 2016 في مهرجان (شكرًا تركيا)، وكما أن الجولاني وتنظيم القاعدة المحلي المتحورمنضو تحت خلافة أردوغان، فإن كلام الشيخ القرضاويالخطير كان معناه أن الإخوان أيضًا قد منحت البيعة العامة لأردوغان بمعنى التعهد بولاء السمع والطاعة كونه صار من وقتها خليفة وزعيم للإخوان وللأمة الإسلامية.
في المقابل وهنا لابد من المفاضلة والربط التاريخي وإن بإشارة خاطفة، تأملوا مبدأ ونهج وسلوك وموقف المصريين الوطنيين قديمًا وحديثًا، ونلخصه في موقف واحد وفي عبارة وجملة تاريخية واحدة بدون تفاصيل (رفض طومان باي – البطل الوطني الذي أعدمه العثمانيون) مبايعة السلطان العثماني سليم الأول قائلًا: لن أعطيك كلمتي والكلمة أمانة والأمانة لها أهلها).
وبالإضافة للقاعدة والإخوان كانت حماس قبل أن تذهب لمحور إيران لدرجة أن خالد مشعل وصفاحتلال تركيا وغزوها لمدن سورية مثل عفرين وغيرها بالفتوحات المباركة.
وأيضًا هناك الفاتح علي حسنين المنظر الإخوانيالسوداني المقرب من أردوغان الذي تكلم (ويا للعجب) عن دولة واحدة اسمها (تُركدان) لها عاصمتان؛ الأولى إسطنبول والثانية الخرطوم وحاكم واحد وهو أردوغان.
هؤلاء الأدوات والوكلاء هل لهم شبه في التاريخ؟
بالطبع لهم سلف، حيث ساعد الخونة قديمًا الغزو العثماني على احتلال البلاد والهدف هو الاستيلاء على الثروات العربية بعدما عانت أراضي الأتراك من القحط وعجز منطقة الأناضول أن تلبي أطماع العثمانيين.
في الشام وأيضًا في مصر رحب خونة بالسلطان سليم الأول عندما دخل القاهرة ورغم الجرائم البشعة التي ارتكبها وقتله الآلاف ونهبه البيوت والثروات ونشره الرعب، مكنه الخونة من احتلال البلد ليستفيدوا من المناصب (نفس المعادلة الجديدة)، وهو ذاته النموذج الحاصل حاليًا في سوريا بعد سقوط الأسد غير مأسوف عليه، فبماذا يمكن وصف من يساعد الغاصب العثمانلي على احتلال بلد عربي وتُسند إليه المناصب وبمساعدته تُسرق المحاصيل والموارد والثروة ويُحرم منها أصحاب البلد غير أنه (خائن).
جرى استدعاء حالة الاحتلال من الماضي قفزًا على حالة الثورة واستغلالًا للرغبة العارمة في التخلص من نظام وحشي مستبد، ليكون الحاضر صورة من الماضي؛ تبعية وقهر ومذلة ونهب ثروات وتسليم لسليم الأول ولحفيده مع تكرار نفس أدوار الخونة القدامى؛ مثل جان بردي الغزالي ويونس العادلي والسمرقندي والزيني بركات و(خاير بك الجركسي) الذي تولى منصب نائب السلطان قنصوه الغوري في حلب وأطلق عليه المصريين إسم (خاين بك)وكأنهم صورة طبق الأصل من جماعة الإخوان والقاعدة المتحورة بالمنطقة العربية اليوم وصورة من الجولاني ومحمود فتحي.
من هؤلاء من استعان بهم العثمانلي قديمًا على احتلال مصر بعدما كشفوا له أسرار البلاد وخططها العسكرية،ولولاهم ما كان قنصوه الغوري تلقى هزيمة غير مستحقة في مرج دابق وما كان أُعدم مغدورًا السلطان الشجاع طومانباي، ومنهم من روج للإحباط لكي يفقد الشعب ثقته بنفسه ويستسلم للعثمانيين وفي كل الأحوال تمت مكافأتهم من المحتلين بالمناصب وكانوا أداتهم في نهب الأقوات وكتم الأصوات وسفك الدماء و(كله بالقانون).
إذن لعب الخونة أدوارً مؤثرة جدًا في سياق مشروع تمكين العثمانيين الجدد من دولنا والفارق الآن بين مصر وسوريا وبين أبو محمد الجولاني ومحمود فتحي، أن مصر حرمت الطامعين من (خاير بك الجركسي) الذي سماه المصريون (خاين بك)فظهروا حيال مصر بدون طابور خامس، وهذا هو ما صنع الفارق بجانب قوة الدولة المصرية واحترافية قادتها بين طريقة تعامل أردوغان مع سوريا وطريقة تعامله مع مصر.
خصص الكاتب الكبير محمود السعدني في كتابه الرائع (مصر من تاني) فصلًا عنوانه (الخيانة يا مسلمين) وهيعبارة أطلقها السلطان المصري قنصوه الغوري عندما انسحب جنود الخائن خاير بك (خاين بك) من المواجهة مع الجيش العثماني ليسهل عليه الغزو ويقوده لاحتلال القاهرة، ومن يومئذ رسخ في الضمير المصري الوطني الواعي أن الصراع ليس فقط مع الغزاة والعثمانيين الطامعين وليس في المقاوم الأول مع المتربصين من خارج الحدود، إنما أيضًا وفي المقام الأول مع المسوخ والأدواتبالداخل الذين يظهرون بين الحين والآخر (كنبت الشيطان في الوادي الطيب) وفق تعبير الأديب جمال الغيطاني، ولذلك تعاملت مصر مع الخونة بالداخل أولًا فأثبتت للعالم وللجميع خاصة بعد سقوط سوريا في حجر أردوغان، بأن الأدوات والوكلاء هم مكمن الخلل ومصدر الوهَن.