هشام الحمامي يكتب: من غزة ودمشق إليه (ها قد عدنا يا صلاح الدين)
لصلاح الدين الأيوبى مع الغرب (موقفين شهيرين) .. على الأقل فيما يتصل بما يجرى الأن في الشام وفلسطين..الموقف الأول رسالته إلى الملك الإنجليزي ريتشارد ، بعد تحرير القدس والأقصى وعقد (صلح الرملة) 9/1192م ، والتي قال في مقطع منها إن لم يكن أهم مقطع في الحقيقة (لن يمكّنكم الله من أن تشيدوا حجرا واحدا في هذه الأرض، طالما استمر الجهاد).
كما قال لنا القاضي والمؤرخ بهاء الدين بن شداد كاتب سيرة صلاح الدين وصديقه القريب والذي كان واحدا من أكبر كتاب زمنه..
***
والموقف الثاني، حين تمكن الجيش الفرنسي سنة 1920م من هزيمة قوات الثورة بقيادة (يوسف العظمة) رحمه الله في (معركة ميسلون) الشهيرة، فبعدها بيوم واحد فقط دخل قائد الجيش (الجنرال هنري جورو) دمشق، واتجه إلى المسجد الأموي الكبير، حيث يوجد قبر صلاح الدين الأيوبي بالقرب منه، ولمس القبر بحذائه، وقال: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)..
هذا ما رواه الناس وقتها وتوارثوه وتسلمته الأجيال تباعا، ممكن يطلع (شمبانزى) في قناة فضائية ويردد بلا وعى، فقط ببجاحة وتنمر، ويقول أن هذا لم يحدث.. وأن الفرنسيين جاءوا إلى سوريا ليأكلوا كبد الأوز ..
لكن صحيفة (اللوموند) الفرنسية الشهيرة نشرت في 7/8/1970م، بمناسبة مرور خمسين سنة على استيلاء فرنسا على سوريا، مقالا قالت فيه أن الجنرال جورو دخل الجامع الأموي قائلاً:(صلاح الدين!..ها نحن).
***
جملة (طالما استمر الجهاد) التي قالها صلاح الدين، رأيناها تظلل مشهد (الشهداء الثلاثة) الذي نشرته لنا وللعالم وللتاريخ (كتائب القسام)، رأيناهم وهم يتابعون تصنيع الصواريخ والسلاح.
ورأينا (الحاج يحيى) يكتب بيده على أحد الصواريخ الأية الكريمة في سورة النمل التي كان يرددها كثيرا أثناء الـ (23 سنة) سجن، والتي قالها نبي الله سليمان.
وهي في حقيقة الأمر (وعد الله) لعباده الذين: (عبدوه سبحانه /وعرفوه/ وفهموا عنه) ..
لن أسمح للحاج يحيى، وهو مع الأحياء عند الله مع أصحابه، أن يأخذني بعيدا عن فكرة المقال، وأذهب معه في الحديث اللانهائي عن (عز العبودية وإشراق العرفان ونور الفهم) الذى رأيناه ونراه: كل يوم في بقعة (النور والصبر) .. غزة.
***
جملة صلاح الدين هذه لا تصدر حقيقة، إلا عن قائد استراتيجي عارف بسنن التاريخ، عارف بحقائق الأشياء، وقبل كل شيء، عارف بدينه معرفة الفهم..
وهو هنا سيكون قد اقترب وقرّبنا معه إلى الحديث الشهير الذي رواه لنا سيدنا معاذ عن الرسول صلى الله عليه.. قال لي الرسول: إن شئت أنبأتك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه.
قلت: أجل يا رسول الله، قال: أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما (ذروة سنامه) فالجهاد.
وكلمة الأمر هنا بقدر ما هي جامعة، بقدر ما هي مفتوحة على ما لا يحصى من المفاهيم، وحين تصدر عن (رسول الله) بهذا الاختصار، فعلينا أن ندرك فورا أنها تمثل (عين الحقيقة) في المعرفة، المعرفة بالله وبالنفس وبالدنيا والناس ..
***
قديما قالوا لنا (أعرف نفسك).. لكنهم لم ينشغلوا كثيرا بإرشادنا إلى كيفية تطبيق هذه النصيحة !!
كيف أعرف نفسي، في كل أفكاري ومشاعري ومفاهيمي، التي أكونها عن الأشياء؟
***
سننتبه إلى أن كل هذه الأمور (الأفكار والمشاعر والمفاهيم) غير محسوسة ولا ملموسة ..غير مادية ..
كلها تتعلق بـ(الروح) التي تسرى فينا وتجعلنا أحياء، وستغادرنا وتجعلنا موتى.. وهى من الله والى الله.
فليس من الخيال إذن ولا من التعسف في القول، أن نقر ونشهد بأنه لا معرفة للنفس إلا بمعرفة الله، الملك الخلاق العليم .. وسنتذكر هنا فورا الأية الكريمة (يهدى الله لنوره من يشاء)..
وسندعوا مع الصالحين:
(اللهم اهدنى بنورك إليك) ..
(اللهم أحيينني على معرفتك) ..
(اللهم طهر قلبي من شكى وشركي) ..
كما يفعل الأبطال وأصحاب السكينة في غزة ..
كل أصحاب الطريق الذين فطنوا إلى حقيقة (وجودهم)، عاشوا الدنيا كما هي الدنيا، في الدنيا، لكنهم لم يغفلوا عن هذا المراد وهذا المقصود من هذا (الوجود).
***
سيقوم (أحمد الشرع) بما قام به (الجنرال جورو) حين دخل دمشق ..وسيذهب فورا إلى المسجد الأموي ويصلى ويخطب في الناس ، لكنه لن يذهب إلى قبر صلاح الدين المجاور للمسجد، ليلتقط الصور ويدغدغ مشاعر الجماهير و يرجع بهم إلى (العصور الهجهج) الرجعية إياها، إبان الخمسينيات والستينيات التي كانت تجيد الغناء والصياح والهزائم ..
ورغم عدم ذهابه إلى القبر ،أو على الأقل لم يظهر فى الإعلام ، فقد قال للناس في المسجد كل شيء قاله صلاح الدين للناس، في عهده وزمنه.
وهو هنا يثبت لنا، ولبلاده، وللجميع ، أنه رجل يعرف الطريق إلى أهدافه جيدا، ويعرف كيف يخطوا اليها بخطوات هادئة ثابته واثقة ..
أن تضع قدمك على الطريق معناه أن الوصول قد بات قريبا .. فكل ما هو آت قريب ..حتى وإن لم يأت بعد ..
***
ذلك أن صلاح الدين كما رأينا في (الموقفين السابقين) يرتبط في الذهن الغربي، بأهم وقائع تاريخ علاقته بنا و بهم ، وهى (استعادة القدس) بعد احتلالها ثمانون سنة ..
ولو كان فعل هذه الخطوة، لكان حرق كل المراحل التالية، التي هي إن شاء الله آتيه آتيه ..
هذا تاريخ لا تمليه الضرورة فقط، ولكن تمليه قوة الانبعاث في الحاضر باتجاه المستقبل..
هي فقط مسألة إعداد وترتيب للبيت قبل أي شيء ..
***
رحل الحاج يحيى بعد أن وضع العلامات على الطريق، وأشار بعصاه، وفى الحقيقة كان قد سبق وقال كل شيء ممكن أن يقال باللفظ الوجيز في خطاباته.
وأراد الله له، أن يتمم كل ما قال، وبما يفوق القول واللفظ !! بالرمز والأيقونة والعلامة والصورة، فأصبح كل ذلك.
***
وسيرحل أحمد الشرع يوما ما كذلك ، وهو الأن يفعل مثل ما فعل الحاج يحيى، يمهد الطريق ويضع العلامات وسواء عاش أم مات .. لن يضيع من القدم الطريق ولن تغيب العلامات..
كل تصريحاته ولقاءاته، سواء السياسى منها أو الفكري أو التاريخي، تشير إلى أنه يعرف الطريق، ويعرف الغاية التي سيأخذه إليها الطريق.
***
ألم أقل لكم أن التاريخ له ممراته ودهاليزه و(أنفاقه) أيضا .. لكنه لا يخلوا من دهاء ومكر، وها هي الجملة التي قالها (الجنرال جورو) قديما، تقولها غزة وتقولها دمشق: (ها قد عدنا يا صلاح الدين) ..
نعم، لم نصل بعد .. لكننا على طريق الوصول.