إبراهيم عبد المجيد يكتب: الفن والرسالة وسلوى محمد على
أعادني ما حدث من ردود أفعال متسرعة، أو غير متفهمة للفن والإبداع، على ما نُسب إلى الفنانة القديرة سلوى محمد علي،إلى حقائق ضائعة في فهم الفن والإبداع . قيل وانتشر أنها أدلت بأقوال أعلنت فيها أن ما قدمه الزعيم عادل أمام، كان خاليا من الرسالة التي يجب أن يقدمها الفن. وبدا مما نشر مقتطعا من مجمل حديثها أنها تقلل من شأن عادل إمام. الموقع الذي نشر الحديث مقتطعا لم ينشر بقية حديثها من أن أعمال عادل إمام عظيمة رغم خلوها من الرسالة، وأن الرسالة يمكن أن تجعل العمل ثقيل الدم. بدا الأمر أنها تنتقد عادل إمام، بينما هي تحتفي بأعماله كل احتفاء. الذين يعرفون سلوى محمد علي يعرفون أنها فنانة مثقفة وقارئة جيدة، أما حياتها الفنية فهي تمضي في جمال حقيقي.
كانت بدايتها على المسرح وبعد ذلك في مجال الإذاعة والدبلجة ، ثم عالم الدراما فقدمت أكثر من خمسين عملا في السينما والتليفزيون. نجحت في تقديم ألوان عديدة من الأدوار، وحققت مكانة فنية رائعة بموهبتها المميزة وبصمتها الخاصة التي أضافتها إلى كل دور تقوم به. من أدوارها دور "الخالة خيرية" في برنامج الأطفال "عالم سمسم" و من أفلامها ، اﻷبواب المغلقة- جاءنا البيان التالي- أسرار عائلية - فتاة المصنع. من المسلسلات التي شاركت فيها (بنت اسمها ذات - سيرة حب -لأعلى سعر - بـ100 وش - حارة اليهود- الخواجة عبد القادر)
قدمت دوبلاج شخصيات متعددة في أفلام ديزني خاصة بالأطفال. أما المسرح الذي فيه كانت بدايتها فشاركت في مسرحيات عدة منها.
"ع الرصيف" و "مدرسة العساكر"و "رحلة حنظلة"و"دقة زار"و"الغرفة" و"الملك لير" وغيرها."
حصلت على جوائز منها جائزة عن دورها فى مسرحية "أحلام شقية" وجائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم "علي معزة وإبراهيم"، في الدورة الرابعة والأربعين من مهرجان جمعية الفيلم،
كما حصلت على تقديرات عديدة على أدوارها المميزة في السينما أو المسرح والسينما والتليفزيون.
حين قرأت ما نشر عنها، وقبل أن اقرأ تعليق سلوي محمد عليعليه، وكيف أن ما نشر تم اقتطاعه من سياقه، توقعت ما قالته فهي أكثر ثقافة واستغناء عن مهاجمة أحد، خاصة في قيمة وقامة عادل أمام. إنها لم تبحث قط عن ضجة زائفة، ولا ترند زائف، فهي مخلصة لأعمالها فقط ولا شيئ آخر.
سأحاول هنا الحديث عن جملة الفن والرسالة التي صرنا نسمعها عبر السنين، بينما الأمر بحق كما قالت سلوي، فالفن لا يقدم رسالة بقدر ما يقدم من متعة. ولإدراك ذلك من المهم أن نفهم ماهو معنى الرسالة الحقيقي في الفن. كثيرون يتصورون أن معني الرسالة هو كلمات مباشرة يقولها شخص من شخصيات العمل الفني للجمهور المشاهد كأنه ينتظر أن يقول له أحد ذلك،بينما هو منذ ولادته في عالم يعلمه الخطأ الصواب. بدءا من الأهل حتى المدرسة حتى الأديان والعادات والتقاليد. لسنا مجبرين علي رؤية عمل فني لنعرف الخطأ والصواب، وما علينا أن نقوم به في الحياة. المتعة كما قالت سلوي محمد علي هي أبرز ما يقدمه الفن، وسأتوسع في معنى المتعة.
لكل فن من الفنون أدوات لتوصيل المتعة إلى القارئ أو المشاهد. في الأدب هناك اللغة وبناء الشخصيات. في السينما هناك الصورة بأشكالها المختلفة وتطور الأحداث وإيقاعها والتشويق في تطور الصراعات. في الفن التشكيلي هناك الألوان والموادالمستخدمه فيها، وتناسق أو تضاد الألوان، وكيف في مساحة صغيرة يطل عليك الجمال متعدد المعاني. تعدد المعاني هو من تعدد المشاعر لدي مستقبلي أى عمل فني، فلسنا جميعا على أرض واحدة أو ثقافة واحدة. وهكذا الأمر في بقية الفنون. للرسالة معاني عامة الأفضل أن تكون غائبة عن الحديث المباشر، لأنها حين تأتي في حديث مباشر تجعل العمل مملا ودمه تقيل كما قالت سلوي محمد علي. فكرة الرسالة في الفن جاءت من الحكم المركزي أو الديكتاتوري عبر التاريخ، وكلنا نعرف كم هي الكتب التي حرقها هتلر لأن مؤلفيها ليسوا مع النازية، وكم من الكتاب هجروا ألمانيا إلي أوربا وأمريكا. الأمر نفسه حدث في الإتحاد السوفييتي وظهور ما سُمي بالواقعية الاشتراكية في الكتابة ذات الأهداف المحددة في الكتابة سلفا،مما أدي لهجرة كثير من كتاب الإتحاد السوفييتي. الأمر حدث في الصين أيام ماوتسي تونج. أستطيع أن أعطيك عشرات الأمثلة، حتى في الدول التي حققت الديموقراطية لشعوبها، لم ينجو الإبداع المغامر في شكله ومضمونه من الهجوم عليه،وتحويل كثير من الكتاب إلى المحاكمات التي انتهت ولم تعد غير ذكرى تعيسة، بينما خلدت أعمال الكتاب. أميركا عانت من المكارثية في بداية الخمسينات من القرن الماضي حين تمت شيطنة الفكر المعارض والفن الذي رأوه معارضا بينما هو متعة خالصة. هي الحركة التي حملت أسمها ممن أطلقها وهو السيناتور جوزيف مكارثي رئيس إحدى لجان الكونجرس الأميركي. أرادوا كتابة وفنا محدد الرسالة مما جعل العديد من الكتاب والفنانين يهاجرون من أميركا، ولم يكن شارلي شابلن أولهم ولا آخرهم، وهو الذي امتع البشرية بفنه وأدائه.
حين أبدع الإنسان القديم في الفن والشعر الذي كتبت به الملاحم، لم يقل لنا رسالته بوضوح، لكن تركها للقارئ يفهم ما يستطيع فهمه. أعطيك مثلا من النحت والبناء القديم في مصر. لم يكتب أحد ممن بنوا الإهرامات عليها إنها تمثل رحلة الصعود إلى يوم الحساب، في شكلها المثلث الصاعد إلى السماء. عرفنا ذلك من طرق دفن أصحابها بها، ومعهم ما يحبون في الدنيا مثلا من طعام. ومن كتاباتهم على ورق البردي وليس الأهرامات.الأمر نفسه في المسلات التي ترتفع محدبة فيالنهاية إلى السماء، فلم يُكتب عليها أنها تمثل إشارة إلي الصعود إلى يوم الحساب. حين تنظر في لوحات قديمة مثل وجوه الفيوم لا تري رسالة منها محددة، إنما هي وجوه عابرة للزمن بملامحها ونظراتها، يمكن أن يتلقى من مشاهدتها من يريد ما يتماشي مع ثقافته من جمال. الأمر نفسه في لوحة عابرة للزمان والمكان مثل الموناليزا. وهكذا في كل مذاهب الفن فالرسالة ليست ما يتعلق بالأخلاق والعادات والقاليد كما هو شائع في معنى الرسالة الساذج. الجمال والمتعة البصرية هي بحق أهم ما يصل إلى المُشاهد. في الأعمال الدرامية كثيرا ما ينتصر الخير علي الشر، وهذه هي الرسالة دون أي كلمة عن ذلك. تدرك أنت ذلك بعد متعة رائعة مع الأشرار لا تقل عن متعتك مع الأخيار. هل كرهت يوما زكي رستم أو محمود المليجي أو عادل أدهم مثلا، أو حتي محمود مرسي بعد أن شاهدت فيلم شيئ من الخوف. رسالة الأفلام كما بقية الفنون، هي في المعاني الكامنة التي يمكن أن تصل إلى المشاهد أو لا تصل. صحيح لدينا أفلاما قديمة تنتهي أحداثها بآية قرآنية تؤكد القصاص من المجرمين، لكن ما بقي هو المتعة في الصورة والأحداث، ولم يكن المشاهد في حاجة إلي آية قرانية أو تصريح يؤكد له ذلك، فقد رآه واستمتع به. لقد وصل الأمر في التضليل متعمدا أو غير متعمد في معنى الرسالة، إلى درجة أن هناك من يحاسب الكاتب على ألفاظ قالتها شخصيات روايته أو قصته،دون إدراك لمعني الصدق الفني في تصوير الشخصية، الذي من أول مظاهره أن تعبر لغتها عنها، فاللغة تعبر عن ثقافتها. لن تجد عاهرة في رواية جيدة تتحدث بلغة السيدة الفاضة، ولا لصا يتحدث بلغة القاضي، والأمر نفسه في السينما فتتم محاسبة أو انتقاد ممثلة لأنها قدمت مشهدا عاريا أو شبه عارى، بينما من فعلت ذلك هي الشخصية في الفيلم وليست الممثلة ذاتها، التي بعد أن ينتهي التصوير تعود إلي حياتها العادية. لكن للأسف هذا معنى وفهم الرسالة السائد. لا أحد يقف عند الحقيقة البارزة في الفن، وهي أنه يُعنى بما هو خارج عن المألوف. فإذا وُجد رجل صالح في فيلم أو رواية، فلابد أن يكون محاطا بالأشرار لتتحقق الدراما، ولأنه من غير هذا التقابل سينتهي الفيلم بعد أول مشهد. كذلك لا معني لقصة حب لا تقابلها كثير من العقبات، فقصة الحب التي يقدمها الفن تختلف عنها في الحياة العادية. في الحياة العادية يسعى الحبيبان من أجل الزواج، لكن في فيلم أو رواية تظهر العثرات سواء تسببا هما فيها أو غيرهما، وليس مهما أن تنتهي القصة بالزواج. لا يعني ذلك كراهية للحب نفسه، لكنها المتعة والإثارة في تطور الأحداث هي التي جذبت المشاهد ولم يغادر الفيلم. وعادة فإن أكثر قصص الحب المؤثرة هي التي تنتهي بالفراق، أو الانتصار بعد آلام كثيرة. لكن خلال الفيلم أو الرواية لن تجد المؤلف يقول لك بشكل مباشر أنا أقصد أن ينتصر الحب رغم الآلام . ستكون رأيت ذلك أو قرأته. هذا ما فهمته مما قصدته سلوي محمد على من معنى الرسالة، وأنا على يقين منه لأني أعرف ثقافتها، ولا يعني ما قالته أبدا تقليلا من شان أفلام عادل أمام ولا مسرحياته التي أسعدتنا غاية السعادة. فكرة الرسالة تجعلنا نحول الفن إلي مقالات في التربية الوطنية، وهي التي كانت وراء اضطهاد الكتاب والفنانين في البلاد التي قدمت مثالا عليها، لان حكامها كانوا ينتظرون رسالة تؤيدهم. لقد مشت في تاريخ الفن مقولات خاطئة مثل أن رواية" كوخ العم توم" للكاتبة هارييت بيتشر ستو كانت أحد أساب الحرب الأهلية الامريكية وانتهاء زمن العبودية، بينما سبب الحرب كان صراع الشمال الأميركي مع الجنوب على ثروات الجنوب، وبعد الحرب لم تنتهي العبودية إلا بعد أكثر من مائة سنة ولا تزل في بعض النفوس هناك. أو أن رواية " الأم" لماكسيم جوركي كانت سبب الثورة الشيوعية في روسيا عام 1917 بينما كان للشيوعيين هناك تاريخ في النضال كبير، وليتهم بعد النصر تذكروا هذا التاريخ وتركوا الحرية لغيرهم.
لم تكن الأفلام ولا الروايات أبدا سببا في القلاقل والثورات كما يفهم البعض الرسالة خطأ، لكن الأفلام والروايات وسائر الفنون تجعل من يشاهدها إنسانا سويا بقدر المتعة التي تأخذه عن هذا العالم الرديئ. وكما تساءلت سلوي محمد على ما هي الرسالة في فيلم الأب الروحي مثلا. هل هي محبة العصابات؟رغم المتعة الفائقة للفيلم لم يحب أحد العصابات إلا الأشرار،وهؤلاء هم نبت المجتمع نفسه كالأخيار، وليسوا نبتا لفيلم أو لوحة تشكيلية أو رواية. أرحمونا أيها الإحباء من اقتطاع الحديث من أصله، بحثا عن ترند لا معنى له.