هشام الحمامي يكتب: دمشق.. التخلّي والتحلّي وصبر جميل
صدق من قال أنه ما خٌلق في العالمين شيئا، إلا وله نموذج في الإنسان، كثير من العلماء عملوا على هذا المعنى دون قصد منهم، واقتربوا كثيرا من هذه الحقيقة، د/ عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) رحمها الله قالت لنا في كتابها الجميل (مقال في الإنسان_ دراسة قرآنية) أن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، وتمم هذا الخلق بخلق الإنسان.
وواضح طبعا أن خلق الإنسان كان مسألة كونية كبرى، ليس فقط لما نعلمه من القرآن عن ما كان من سجود الملائكة، ولكن أيضا لأن البرهان والدليل الذى يخاطب العقل يدل على ذلك؟
فيستحيل بالطبع أن تكون المسألة( كده.!)
ورحم الله الأستاذ العقاد الذي حدثنا بكل حكمة وعقل عن فكرة (الوجود الإرادي) الذى يقوم على غاية وقصد وإرادة ومعنى ..
وسنتذكر هنا طبعا البيت الذى ينسب للإمام على رضى الله عنه:
(وتحسب أنك جرم صغير**وفيك انطوى العالم الأكبر..
دواؤك فيك وما تبصر** وداؤك منك وما تشعر)..
***
ستأخذنا كلمة (الداء والدواء) التي جاءت في البيت السابق إلى إدراك من أهم إدراكات الحالة الإنسانية، وهو الإدراك الذى اختصره أهل الطريق في عبارتهم البديعة (التخلي والتحلي).
وهم قد أبدعوا الصراحة، في هذه الموضوعات ووضعوا لها (رياضة) يروّض بها المؤمن نفسه ليصل إلى غايته ومبتغاه.
كل الطرق تمتد وتتقاطع، وتتواصل لتصل، أو لتواصل سيرها، والطريق إلى الله بعدد خلقه كما يقولون ..هناك وهنا .. وهنا وهناك، وفى القلب منها (الإنسان) الذى يجمع هذا الكل في(فؤاده) في (روحه) في(صدره) ..
***
ما علاقة كل هذا بما يحدث الأن في (الإقليم الشمالي) كما كان يحلو لأوهام الخمسينيات والستينيات أن تسمى (سوريا) .. وعفوا هنا.
فلا يمكن لعاقل يدرك أبسط الحقائق، إلا ويرى تلك (الحقبة السوداء) متمددة تمددا مديدا ممدودا، طولا وعرضا وفى كل الأبعاد، فيما نراه الأن ونعيشه (الأرض والإنسان).
ليس فقط (تعملق إسرائيل) من خلال تلك الحقبة، ولكن هو الأهم توحش (النظام العربي الرسمي) على المواطن/الإنسان، الذي كان بالكاد خارج من احتلال أجنبي ! ليفاجئ ويٌصدم ! بما كان من هذا النظام العربى القومى العروبى الوحدوى الاشتراكى.
كان حاكم مصر في الخمسينيات والستينيات (إماما) لهم جميعا في هذا (التوحش) وما تطاول وتجرأ القذافي والأسد وصدام وبورقيبة على كرامة المواطن، وحريته، وتوسعوا هذا التوسع الباهظ في الأجهزة الأمنية وتجسس الناس على بعضهم البعض (التنظيم الطليعى)، إلا اقتداء به.
***
وعلى فكرة هذه الأنظمة كانت هي أيضا تمنح المواطن رغيفه، والحد الأدنى من معيشته (تعليم وصحة وتشغيل) أو كما يقول جورج اورويل على لسان بطله (ونستون سميث) في رواية (1984): (الطعام والأمن)..
ولا علاقة للمواطن بما يجرى ويحدث في بلاده، ولا تتحدث هنا عن أمة وتاريخ وشعب ووطن ومستقبل وكل هذه الأركان الكبرى للوجود الحق، هذه كلها فقط مفردات الحشو والحشد والتعبئة والهتاف والصياح والغناء ..
***
المدهش أن ونستون كتب في مذكراته أن الأمل الوحيد في التغيير يكمن في (بسطاء الناس) ليس بالطريق السهل في خروجهم للتظاهر والفوضى، ولكن بالطريق الأصعب الطويل الهادئ: بتعهدهم بـ(الإرشاد) والتعليم والتثقيف والتوعية والارتقاء بفهمهم وأفكارهم، من الاهتمام بأتفه الأشياء إلى الاهتمام بالقيمة والمعنى.
ويكفي فكرة (السجود والتلاوة) لتعرف ماهي القيمة وما هو المعنى ..هذا لدينا طبعا وليس لدى ونستون ولا خطيبته جوليا ولا حتى جورج اورويل !
***
لكن للأسف الإنسان بطبعه (عجول).. وهو يعلم أن عمره قصير، ويريد أن يرى ثمرة جهده وجهاده ونضاله ..
هذا في أحسن الفروض ظنا بهذا الإنسان، ولا نقول أنه يريد العلو والشهرة والجاه والنفوذ، قبل أن يلتف حول جسده الرائع (الكفن) ويلقون به في حفرة ويردموها بالتراب ..
أما (إنسان الفكرة) فيعلم أن (الوجود الحق) أكبر كثيرا كثيرا من كل ذلك ..
فقط لحظة تأمل هادئة عميقة في أوقات الهدوء والسكون.. شفق.. غسق.. سحر.. فجر.. غدوة.. روحة.. و(الفهم يأتي على مهل) كما يقولون .. فقط الدأب والاستمرار والتراكم ..
تعمل فينا الأيام والليالى.. لنقترب من الموت، ونعمل فيها نحن.. لنقترب من الخلود..
***
يقولون إن بعض الحقائق تكون زائفة، بقدر ما تدعى واقعيتها، وهذا واضح ومفهوم فيما نراه الأن في تعامل الغرب مع سوريا الجديدة، و(الحقيقة) التي يدعيها الغرب ويجاهر بالحديث عنها في تعامله، بعد نصف قرن !! وأكثر من الانتهاك المنظم لكل حقوق البشر: صغارا وكبارا نساء ورجالا، مؤمنين وغير مؤمنين.
هذه الحقيقة تبدو زائفة تماما، بقدر ما يكذبون ويدعون أنها واقعيه..
في كل وقت يثبت لنا الغرب، أن لديه عقدة معقودة بأواصر مغلقة، مع (الإسلام)، البعض يقول أن عقدة هذا الصراع ليست مع الإسلام ذاته، ولكن مع (فكر النهضة) الذى تحمله تيارات النهضة والإصلاح، في حركة المجتمعات بالإسلام.
أيا ما كان الأمر.
***
ففكر النهضة يحمله إنسان النهضة، وإنسان النهضة تكونت أفكاره وتصوراته، عن نفسه وعن الوجود من حوله عبر(الإسلام).
فإما أن يكون هذا الإنسان بلا أفكار، ولا تصورات، ينطلق منها في خطواته نحو النهضة والإصلاح، وعليه أن يستعير أفكار الأخرين، أو أن تلك الأفكار تتعارض مع رؤية الغرب لنفسه، ولنا في الشرق ..
وهنا سيكون المحك .. وسيكون التصادم أو التلاقي.
***
ما نراه في سوريا اليوم هو أقرب ما يكون لفكرة (التخلّي والتحلّي) كما سبق.. وواضح بالطبع أن الموضوع جاد لا هزل فيه ..
والغرب هناك وأمناء الغرب هنا، لا يريدون هذا(التخلي) عن الأفكار المضطربة البعيدة عن ذاتنا التاريخية، كما نعرفها وتعرفنا ونأملها وتأملنا ..
هم يريدونك، كما يريدون لك أن تكون، لا كما تريد أنت أن تكون، واذا ذهبت في المدى إلى (التحلي) بفضائل الإنسان، وعصر الإنسان، وزمن الإنسان الذى تعيشه .. سيهجم عليك الضباع من كل مكان ..
ويتهمونك بكل إفك و باطل ..ليسلبوا منك هذا(التحلى) الذى يحرق قلوبهم ..
إذ لابد أن تكون مثالا (للصورة) التي يعمل عليها الغرب وأمناؤه لدينا من زمان.. أن تكون: (الخارج من كهف التاريخ).
***
طريقة الاستخفاف بعقول الناس، لم تعد مقبولة، وأصبحت مكشوفة وعارية.. ورحم الله (صاحب العصا) وأصحابه الذين قرروا أن يدخلوا عليهم الباب .. وها هى الأبواب إن شاء الله تفتح، باب يليه باب ..يليه باب.
فقط (صبر جميل)..
أنا من رأى في ساعةِ الميلاد، صحراء..
فأمسك حفنة العشب الأخيرة..
سأكون ما وسعت يداي من الأفق..
سأُعيد ترتيب الدروب على خطاي ..
سأكون ما كانتْ رؤاي...( محمود درويش رحمه الله).