إبراهيم عبد المجيد يكتب: فلسفة السينما – بيلا تار

ذات مصر

هذا كتاب رائع البحث والمعرفة للكاتب محمود الغيطاني. محمود الغيطاني روائي وناقد وباحث في السينما المصرية والعالمية قدم كتبا رائعة مثل " صناعة الصخب" في أكثر من جزء، و" سينما المشاعر المنتهية الصلاحية" و"الهوس بالسينما" وكتب أخرى في النقد السينمائي والسيرة والنقد الأدبي والرواية والقصة القصيرة وصلت إلى خمسة عشر عملا مهما جدا. فضلا عن الإسهامات في الأنشطة الثقافية التي شملت مصر وخارجها، وتأسيسه وتحريره لموقع "نقد 21 " الشهري الهام جدا. لا أعرف كيف يغيب عن الترشيح لجوائز الدولة الكبرى. ربما لأن كثيرا منأعماله طبع خارج مصر، لكن هل صار الآن هناك فارق بين مصر والعالم. أتمني أن تقوم إحدى الجهات بترشيحه لإحدىجوائز الدولة الكبرى في العام القادم.

هذا الكتاب الذي سأتحدث عنه صادر هذا العام 2025 عن دار نشر فضاءات الأردنية مثل الأعمال التي أشرت إليها عن السينما. الكتاب يقع في حوالي أربعمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير. وهو عن المخرج والمنتج المجري "بيلا تار" الذي أغرم بالسينما فقدم فيلما تسجيليا وهو في السادسة عشر من عمره عام 1971 بعنوان" العمال الضيوف" عن حياة العمال المؤقتين وما يعانونه من إهدار حقوقهم في المجر الشيوعية. هو الفيلم المفقود الآن. رغم ذلك كان الفيلم نقطة تحول في حياته،فقد غضب منه النظام الحاكم الشيوعي وبصفة خاصة رئيس الوزراء المجري يانوس كادار، فأدي ذلك إلى منعه من دراسة الفلسفة التي يحبها، بل وحرمانه من دراسة السينما بشكلها الأكاديمي في بداية حياته، رغم أن بيلا تار كان يتحلى بالمبادئ اليسارية الديموقراطية. رحلة تار وكيف حاول دراسة السينما متخليا عن حلمه في دراسة الفلسفة، فتوجه إلى ستوديوهات بيلا بالاز التي كانت تتبني التجارب السينمائية الشابة الجديدة. صنع لهم فيلمه الروائي في خمسة أيام فقط بممثلين غير محترفين، وهو فيلم "عش العائلة" عام 1979.

يدخل القارئ بعد التقديم المشوِّق للكتاب إلى تفاصيل حياة وأفلام بيلا تار بتوسع. بدءا من سيطرة الفكر الفلسفي عليه إلىمميزات أفلامه في الصورة والكادرات والزمن وغير ذلك. ولد تار في مدينة "بيكش" عام 1955 لكنه نشأ في العاصمة المجرية بودابست. كان والداه يعملان في مجال المسرح والسينما. في سن العاشرة اصطحبته والدته إلي جلسة اختيار للممثلين للتليفزيون الوطني المجري، فاختاروه في دور ابن البطل في دراما تليفزيونية مقتبسة عن رواية تولستوي "موت إيفان إيليتش". أهداه والده في عيد ميلاده الرابع عشر كاميرا مقاس 8 ملم، فكانت أفلامه المبكرة ذات الميزانيات المنخفضة مثل "عش العائلة" عام 1979 و"اللامنتمي" عام 1981 و"ناس سابقوا التجهيز" عام 1982 . هكذا مبكرا جدا بدأ في التعبير عن آلام الناس حوله، وهذه الأفلام الثلاثة تمثل ثلاثية البروليتاريا فضلا عن فيلمه المفقود. تار لم تكن لديه النية لصناعة الأفلام. كان يريد أن يكون فيلسوفا. لكن الصدفة وحدها وانخراطه في اليسار السياسي وكاميرا أبيه وفيلمه المفقود كانت السبب. يأخذنا الحديث قبل التفاصيل عن أفلام تار إلىالسينماالمجرية وقتها، والسينما عبر التاريخ في البلاد الديكتاتورية، وكيف هي أهم طريق الحكم لتغيير أفكار الناس وجذبهم للنظام الحاكم. حدث ذلك مع الثورة البلشفية في روسيا.رأى البلاشفة أنهم لن يستطيعوا السيطرة على الجمهوريات السوفييتية الشاسعة والدعاية لأنفسهم إلا عن طريق السينما،فهي الفن الأكثر قبولا وشعبوية. حديث عن لينين وكيف كان أول زعيم سياسي في القرن العشرين يدرك أهمية الفيلم كدعاية،ومن ثم سيطرت الدولة الجديدة على صناعة السينما كلها. ينتقل الي انقلاب يوليو العسكري في مصر، وكيف كانت رؤية محمد نجيب للسينما، لا تختلف عن تلك الرؤية للنظم الشمولية، ففي بيانه الذي جاء في أغسطس عام 1952 أي بعد يوليو بشهر قال" إن السينما وسيلة من وسائل التثقيف والترفيه، وعلينا أن ندرك ذلك لأنه إذا ما أسيئ استخدامها، سنهوي بأنفسنا إلىالحضيض، وسندفع بالشباب إلي الهاوية. وبعد الثورة البلشفية والمصرية جاءت كوبا. وهكذا لنعود إلى بيلا تار الذي توقف عن إخراج الأفلام الروائية الطويلة بعد فيلمه "حصان تورينو" عام 2011 . ليس بسبب اليأس فلقد قام بإنتاج بعضهاوسنعرف ذلك فيما سيأتي. يناقش الغيطاني كيف كانت الفلسفة خلفية أفلام بيلا تار، فأزمة الإنسان أكبر من كونها سياسية أو اجتماعية، بل هي وجودية في الأساس. هي أزمة تواجد الإنسان على ظهر هذا الكوكب. هذا الإدراك للأزمة كان وراء الفيلم الرابع " روزنامة السقوط"  عام 1984. يرفض تار تقسيم حياته الفنية إلي مجموعة من المراحل، كما يشير بعض النقاد الذين قالوا أنها مراحل واقعية اجتماعية، ثم وجودية ثم كونية،ويراها تار واحدة متكاملة. إسلوبيته تار التي منحته مكانته في عالم السينما، أكتسبها عبر تأمله في الوجود والبشر والزمن. فلقطاته السينمائية طويلة لأنه لا يتجاهل الوقت ويريد أن يفهمه. فيلمه "تانجو الشيطان" مثلا يستمر لأكثر من سبع ساعات،ويتكون من مائة وخمسين لقطة فقط. كان يود لو طالت أكثر لكنه طول الفيلم كوداك الذي يمتد لثلاثمائة متر فقط. كان يود لو طال الزمن ليصل إلى الأبدية. ما الذي يدفعه إلى هذا البطئ والتطويل في الزمن؟ يفعل ذلك في مقابل القصة. فكل القصص معروفة مكررة. لكنه يدرك أن ثبات الزمن يؤثر على القصة التي يقدمها، فهي لا تتحرك، ورؤيته أنه لا شيئ جديد يحدث في هذا العالم، ونحن نكرره في متتالية زمنية لا تنتهي، وهذا مالاحظناه في فيلمه " حصان تورينو" عام 2011. هكذا يصنفه البعض مثل جابرييل موري باعتباره متشائم يجمِّل لغته فيصفها بأنها" تتميز بلقطات طويلة جدا وتصوير سينمائي بالأبيض والأسود ونغمات مروعة. لغة فيلمية متطرفة بقدر ماهي شاقة، وتتطلب نهجا مختلفا من كل الجمهور والنقاد مقارنة بالأفلام التقليدية.لقد التفت الكثيرون إلى أسلوبية تار الجمالية لسحرها الخاص ووقعها على المشاهد، مما يضعه في الصف الأول من التصويرية الأوربية" 

اعتبره البعض متأثرا بالمخرج الأمريكي جون كاسافيتس، لكن تأثره الحقيقي كان من الحركة الطليعية المجرية من خلال استوديوهات بيلا بالاز في أوائل السبعينيات. لقد مال تار كثيرا إلى استخدام الممثلين غير المحترفين. أناس عاديون ممن عرفهم خلال عمله في الحياة وبؤسهم، وكان هذا قرارا أخلاقيا له يريد به إظهار الحياة الحقيقية. دفعته رغبته مثلا أن يكون حقيقيا فيما يقدمه إلى تأجيل مشروع فيلم "تناغمات فيركمستر" لعدة سنوات، لأنه لم يكن يرى في من حوله من المثلين المقدرة على القيام بدور البطل فالوسكا. وحين تم الفيلم كان به ستمائة عاطل حقيقي عن العمل بملابسهم الحقيقية والقبح الحقيقي. كان أيضا اكتشافه لطفلة في أحد الملاجئ  للأيتام، صارت الممثلة المجرية الشهيرة إريكا بوك. صنع تار فيلمه التليفزيوني الوحيد للتليفزيون المجري بعد ثلاثيته الشهيرة، وهو الفيلم المأخوذ عن مسرحية "ماكبث" لويليام شكسبير. يقارنه البعض بسيما تاركوفسكي لكن لا علاقة فعلية إلا التشابه الشكلي فقط، فبينهما اختلافات إيديولوجية في المقام الأول. كتب تار سيناريوهات أفلامه الروائية الأربعة الأولى بنفسه، ثم بدأ تعاونه مع الروائي المجري لازلو كرازناهوركاي الذي استغرق حوالي سبع سنوات لكتابة سيناريو فيلم "تانجو الشيطان" عام 1994. حديث عن تعاونهما في فيلمهما الثاني " اللعنة " عام 1988 الذي صدر قبل الفليم الأول السابق الذي تأخر ظهوره. كان تعاونهما دافعا بالسينما إلى الأمام، وإكسابها مزيدا من الثراء والعمق. كان التعاون الثاني المهم مع الموسيقار المجري ميهايل فيج الذي تصبح أفلام تار ناقصة إذا ماغابت موسيقاه عنها. توقف تار عن الإخراج ثم الانتاج بسبب مشاكل التمويل والصدام مع السلطات. والسؤال هل اختفي تار من الحياة السينمائية مفضلا الانزواء عن الآخرين بعد توقفه عن صناعة الأفلام؟ لقد انشأفيما بعد مدرسة للسينما في سراييفو هي "فيلم فاكتوري" أو مصنع الأفلام، فهو يري أن العالم لن يتغير إلا بالنضال من أجل تقديم الأفلام. رغم أهمية المدرسة تم إغلاقها وغادر هو سراييفو بعد تخرج دفعتين منها، وكان السبب ضعف المال اللازم وليس اليأس.

ينتهي الباب الأول بملحق بأفلام قام بيلا تار بانتاجها أو شارك في انتاجها، وتبلغ ثمانية وعشرين فيلما، ثم أفلام تم انتاجها من خلال شركته للإنتاج السينمائي وتبلغ ستة أفلام، ثم أفلام قام بالتمثيل فيها وتبلغ ثلاثة أفلام، ثم أفلام قام بكتابة السيناريو لهاوأخرجها هو أو غيره وتبلغ خمسة عشر فيلما. بعد ذلك يدخل محمود الغيطاني إلى أفلامه الروائية الطويلة وهي تسعة أفلام وفيلم تليفزيوني واحد، فضلا عن أفلامه الروائية القصيرة وأفلامه لتسجيلية، ويكرس النقد التحليلي لها.

--------------

الفيلم الأول هنا هو "عش العائلة" الذي بدأ العمل به عام 1977 لكنه كان الفيلم الثاني للجمهور عام 1979 بعد أن قدم الفيلم الوثائقي القصير "فندق ماجانزيت" عام 1978. بدأ تار الفيلم وهو في الثانية والعشرين من عمره قبل أن ينجح في دراسةالسينما بشكلها الأكاديمي الذي منع منه في بداية حياته، فهو لم يلتحق بمعهد السينما إلا بعد انتهائه من صناعة هذا الفيلم. الفيلم هو التجربة الأبكر له حيث اقتربت السينما كثيرا من مجال الفلسفة، رغم أنه يتأمل قضية اجتماعية مباشرة يعاني منها المجتمع المجري في الحقبة الشيوعية. لا يقدم تار في الفيلم مجرد حكاية بقدر ما حرص على توثيق أسلوب حياة المجريين في هذه الفترة الخانقة. الفيلم يحمل من جيناته الفنية والإسلوبية العديد من المميزات. منها عدم الاهتمام بالشكل الكلاسيكي للحكاية، والتركيز على الأفعال اليومية العادية والتافهة، ومن ثم إكسابها معناها الفني. لقد حرص تار فيه علىاستخدام الكاميرا المحمولة على الكتف بما تحمله من دلالات القلق والتوتر وعدم الارتياح، وهي المشاعر التي يشعر بها المتفرج. أي أننا كمشاهدين نشعر معها بأنها كائن حي يتحرك ويتحمس ويشعر بالسعادة ويغضب ويراقب ألخ. أي أنها كائن مضاف إلى شخصيات الفيلم. ميزة ثالثة في الفيلم هي السخرية التي تبدأ من العنوان " عش العائلة " الذي بمتابعة الفيلم تجد أنه عنوان مخاتل مضاد. فعش العائلة يعني الدفء والألفة والحب والمشاعر والتماسك والقيم الأسرية، وهو ما لن تراه في الفيلم. تفاصيل الفيلم التي تعكس الحياة في المجر الشيوعية بكل فسادها. التأمل في هذا الفيلم بعيد عن التأمل الفلسفي الذي سيظهر في أفلامه التالية. رحلة مع السيناريووالمونتاج وغير ذلك من أدوات صناعة الفيلم ليؤكد ما يقول. التأمل الاجتماعي الذي يدفعه إلى الفلسفة يأتي في فيلمه الثاني " اللامنتمي" عام 1981 وفيه بطل الفيلم يعيش الحياة بأكملها من خلال حبه للموسيقى. لا يهتم بما حوله فله رؤيته الذاتية. يعمل في مستشفي للأمراض النفسية والعقلية كممرض لكنه يعزف للمرضى ويتعاطي معهم الكحول والسجائر، ويتنقل بينهم وبين البار، وتشعر أن المجتمع لا يختلف عن المستشفى. البطل منفصل كليا عن المجتمع. مجتمع متفسخ تماما في العاصمة المجرية بودابست. يعتمد تار هنا على الحواراتالطويلة التي تقترب من المونولوج، من أجل الدفع بفيلمه إلىالأمام وإكمال الصورة الفنية، فيميل بفيلمه الي التسجيلية. نأتي إلي فيلمه الثالث في هذه الثلاثية البروليتارية وهو فيلم " أناس سابقوا التجهيز"  وواضح من العنوان محاولة الشيوعية قولبة الناس. تفاصيل الفيلم كالعادة وكيف تنتهي الفكرة إلىذلك. مجتمع ذكوري وتفسخ الأسرة وسياسات خاطئة للحكم الشيوعي. نأتي إلى فيلم "روزنامة السقوط" . تستمر رؤيته المتشائمة المنتظرة لنهاية العالم ونهاية الوقت والإنسان. في هذا الفيلم يبدو لنا راغبا في تصوير الجحيم الوجودي بمفهومه الفلسفي، وهنا حديث ضافي عن تأثره برؤية جان بول سارتر الوجودية حيث الجحيم هم الآخرون. هنا مجموعة من البشر المحطمين المعزولين في بيئة شديدة البرود تكاد أن تحتضر بدورها، لذلك حشرهم معا غير قادرين على فراق بعضهم والابتعاد عن الشقة التي يملكونها. هنا أزمة الإسكان الخانقة في المجر الشيوعية وهو ما ظهر في فيلمه الأول "عش العائلة"لكنها هنا محاولة شكلانية لاكتساب الإسلوبية التي سيستمر عليها تار فيما بعد. شكلانية تذكرنا بمخرجين آخرين مثل الدانماركي لارس فون ترايير. نجد تأثره باللون وتأثيره،فيستخدم تار ألوانا ساد فيها الأزرق الباهت بدلالته الموحية بالموت والثلجية والجفاف والظلام، وغير ذلك مع ألوان أخرى،حتي أننا نري أحيانا شخصية يغلب عليها اللون الأزرق الباهت في الكادر، بينما الشخصية المقابلة يغلب عليها في نفس الكادر اللون البرتقالي أو الأخضر المصفر. الفيلم من الأفلام المهمة في مسيرة بيلا تار فيه ترك تار مرحلته الشكلانية الواقعية الأقرب إلى السينما التسجيلية، وبدأ في امتلاك أسلوبية خاصة فريدة، والعمل على فلسفة السينما التي يقدمها بشكل عميق، والإدانة للفعل والوجود الإنساني الذي لا بد أن يسير حثيثا إلى الكارثة التي يستحقها. 

ننتقل إلى فيلمه الخامس "اللعنة" . ثمة رتابة وملل لا ينتهيان يشكلان الروافد الأساسية لفعل الوجود الإنساني، ويجردان الوجود من أيْ معنى حتى أنهما يحيلان الإنسان إلى محاولة دفع الوقت ولو قليلا بكل الوسائل للتقدم إلى الأمام، من خلال مجموعة من الأفعال التافهة أو الشريرة أو الخبيثة. هذه رؤية تار الوجودية الذي يرى العالم من خلال اللونين الأبيض والأسود الحياديين. تجليات ذلك في الحوارات للشخصيات مع نفسها كأنها مونولوجات. لا حبكة روائية هنا، وربما يشاركه في ذلك المخرج الصيني وونج كار واي الذي كتب عنه محمود الغيطاني كتابا رائعا من قبل. أبرز ملامح إسلوبية تار يمكن وصفها بالإسلوبية المنوّمة. أي أشبه بالتنويم المغناطيسي للمشاهد، من حركة الكاميرا البطيئة الانسيابية المتلصصة على كل شيئ.

موضوع الفيلم وكيف كان تعاونه الأول مع الروائي والسيناريست المجري لازلو كرازناهوركاي، وهو التعاون الذي سيستمر حتى نهاية أفلام تار. ننتقل إلى فيلم "تانجو الشيطان" حيث يتجلى ثبات الوقت أساسا في أسلوبيته السينمائية بقوة. فيلم "تانجو الشيطان" هو رؤية تار الكونية للانهيار الاجتماعي والروحي للبشرية. الفيلم طوله 439 دقيقة،أي سبع ساعات وتسع عشرة دقيقة متصلة، قسمها تار على اثنتي عشر حلقة أو فصلا. طول الفيلم تأكيد على سادية الزمن. اللقطة الأولى تستمر لتسع دقائق وتسعة من عشر دقيقة. تفاصيل الفيلم وكيف يوحي بثقل الزمن وقسوته. فيلم أسطوري ملحمي يقدم رؤية للوجود الإنساني وانهياره وتفسخه لا يمكن تكراره في السينما العالمية. كان فيه تار جريئا أكثر من أي مخرج، بالممثلين وأموال الإنتاج، من أجل فيلم شديد الاستغراق على ذاته، منفصل تماما عن العالم الواقعي حوله. يأتي فيلم "تناغمات فيركمستر" ويسميه الغيطاني التلاعب العقلي لتار. يستمر تار في محاولته لجذب السينما إلي الفلسفة، ويستخدم تقنيات إسلوبية تحقق له ذلك. الكاميرا هي أداته الأولى للسيطرة كما قلنا، وتنويم المشاهد مغناطيسيا.الأداة الثانية هي الموسيقى التصويرية، القادرة على القضاء على أيْ مقاومة للمتلقي، الذي يستسلم تماما للمخرج الذي يتلاعب به رغم قسوته وساديته. تار هو المتلاعب الأكبر في تاريخ السينما المجرية. من خلال تسعة وثلاثين مشهدا فقط في زمن يبلغ 145 دقيقة هي زمن عرض الفيلم " تناغمات فيركمستر"ليتلاعب بذهن المشاهد منذ اللحظات الأولى، فلا استقرار للمشاهد على معنى واحد. الفيلم أيضا من انتاج التعاون مع الروائي والسيناريست المجري لازلو كرازناهوركاي معتمدا علي رواية" حزن المقاومة"التي كتبها لازلو. موضوع الفيلم كالعادةومشاهده المعبرة. رؤية الفيلم الفلسفية عن العالم الذي يُعد التواجد الإنساني فيه خطأ كونيا لابد من انتهائه. لازلنا مع الفلسفة في السينما ونحن ننتقل إلى فيلمه " الرجل من لندن". تار لا يعنيه إلا أن يأخذ مقطعا من الحياة، من خلاله يبدأ العمل بتؤدة وصبر نادرين في صناعة السينما. لا يرغب في البناء بشكل رأسي - تطور الحكاية - ولا يحاول التوسع فيه بشكل أفقي، بل يفضل التوقف أمامه وإيقاف الزمن معه. يرغب في تحويل الزمن إلي شيئ محسوس ذي طبقات كثيفة خانقة. يرغب في استقطار اللحظة الوجودية وكآبتها وبؤسها. كما قلنا أدواته هي الكاميرا السحرية والموسيقى التصويرية وإلى جوارهما فريق من الممثلين الذين نادرا ما يقوم بتغييرهم، وهم مجموعة بارعة الأداء. فضلا عن استخدامه كما قلنا للأبيض والأسود وبراعته في التركيز على التباين الشديد بينهما. في فيلمه "الرجل من لندن" وهو إنتاج فرنسي ألماني مشترك ومعه السيناريست لازلو كرازناهوركاي، عن رواية البلجيكي جورج سيمنون " الرجل من لندن"، يحول رواية الجريمة والإثارة إلى بحث جمالي وإسلوبي أنيق في النفس البشرية. مع الفيلم وحركة الكاميرا يأخذنا الغيطاني ومع الاغتراب القادم من مشاهد الفيلم. اغتراب ساهم فيه أيضا أن الرواية ليست في المجر. نأتي إلىالفيلم الروائي الأخير" حصان تورينو" ولا تفارقنا الفلسفة. هو الفيلم الأخير الذي أكد أنه سيعتزل بعده وفعل ذلك. شاركته في إخراجه المخرجة المجرية أجنيس هرانتيزكي. فيه يتلاشي العالم الواقعي تماما فليس ثمة عالم خارج ما يقدمه. يبدو تار كفيسلسوف هارب من الفلسفة إلى عالم السينما، ومن ثم يحاول المزج بين عالم الصورة وعالم الفكر. هكذا تنطلق أفلامه من نقطة عبثية كل شيئ. يقترب من عبثية يوجين يونيسكو ولويجي بيرانديللو والبير كامي وفرانز كافكا وصمويل بيكيت الذي تظهر أهميته هنا. مقارنة بينهما. حديث عن الفيلم الذي استمر لساعتين وخمس وثلاثين دقيقة من خلال 30 لقطة سينمائية فقط.كيف في هذا الفليم نلاحظ اقتصادا كبير في الحوار، حتى أن أول كلمة سمعناها في الفيلم كانت بعد مرور اثنتين وعشرين دقيقة ونصف، وهو ما استمر عليه الفيلم الذي اعتمد كليا علىالصورة. في الفيلم تظهر موسيقي ميهايل فيج المجري بطلا لايتوقف. مدة عرض الفيلم بجملة موسيقية واحدة دالة على البؤس الشديد، بشكل جنائزي يوحي بالكارثة التي على وشك الوقوع.

نصل إلى الأبواب الأخيرة للكتاب، وهي الثالث والرابع والخامس عن أفلامه الروائية للتليفزيون المجري، ثم أفلامه التسجيلية، ثم أفلامه الروائية القصيرة، في  صفحات ليست طويلة، تصل إلى حوالي سبعين صفحة، بينما شغل الباب الأول والثاني ثلاثمائة وخمسين صفحة. لن نبتعد عن الفلسفة وراء كل عمل. ثم تأتي قائمة المراجع الضخمة بالإنجليزية والعربية.وتكون قد انتهيت من رحلة رائعة كالعادة مع محمود الغيطاني وكتاباته الفارقة عن السينما في مصر والعالم التي تستحق كل احتفاء.