د. عمرو عبدالرازق تغلب يكتب: الأزمة التشريعية لقانون المسؤولية الطبية

ذات مصر

التحلي بالذكاء التشريعي هو شرطا رئيسًالإحداث التوازن بين المصالح المعتبرة والمتقابلة المحمية والمقصودة مدفوع الحاجة إلى تشريعها في قوالب تشريعية دون إفراط أو تفريط.

فحماية المريض يجب أن تلقى من النصوص التشريعية ما يُكَرِس لها  ويحقق معانيها دون أن يكون في ذلك تكبيلا ووضع قيودًا غير مبررة على الطبيب تحرمه من حقه بالعمل في بيئة آمنة تكفل له ضمانات الدفاع عن نفسه ،وعدم الزج به خلف القضبان الحديدية لمجرد الادعاء عليه دون حقيقة فنية يرصدها تقرير فني صادر عن منظومة طبية تعتمد على خبراء من الأطباء المتخصصين بتقدير طبيعة أحوال وملابسات العمل الطبي.  

الطبيب مدان حتى تثبت براءته على هذا الأساس قامت فلسفة مشروع قانون المسؤولية الطبية فهي فلسفة ذات نزعة أمنية أكثر منها تشريعية في الوقت الذي يفترض فيه أن نجد أنفسنا أمام تشريع يستلهم روحه من روح مشرع واعٍ بطبيعة موضوعه  من مختلف مناظيره وزواياه.

هكذا صيغت نصوص مشروع قانون المسؤولية الطبية وحماية المريض الذي قدمته الحكومة لمجلس الشيوخ والذي قام بدوره بإحالته إلى مجلس النواب ،ففي خمسمواد منه تصدرتها عبارة :"يعاقب بالحبس…" تراوحت مدة عقوبة الحبس من ستة أشهر كحد أدنى إلى الحبس عشر سنوات كحد أقصى وبغرامة مالية وصلت لمليون جنيه. ثم أعقبتهم نص المادة ٢٩ بتنظيم الحبس الاحتياطي.

رغم أن الحبس الاحتياطي لم يرد في أي تشريع طبي  في العالم كما أن مبررات تقريره غير متصورة أو مستساغة بالنظر لمفردات العملية الطبية. 

تحت نصوص تهديدية لمشروع قانون المسؤولية الطبية وضعت رقاب الأطباء تحت مقصلة عقوبة الحبس  والحبس الاحتياطي في الوقت الذي انتفض فيه الكثير من رجال القانون والنخب والمنظمات الحقوقية لتقليص الحبس الاحتياطي بل وإلغائه.

فالنصوص الواردة بمشروع قانون المسؤولية الطبية هي نصوص ذات طبيعة تهديدية أكثر من كونها تنظيمية حيث إنها لم تنظم العلاقة التعاقدية بين الطبيب والمريض بقدر ما أفصحت ولوحت تهديدًا بعقوبة الحبس أو بالحبس الاحتياطي ،وهو ما يرجع بالسلب ليس على الطبيب فقط وإنما على المريض والمنظومة الطبية بأثرها ممايتسبب في عزوف الطبيب عن أداء رسالته حتى يصير المريض هو الخاسر الوحيد .

كما ظهر في جلاء وضيح الخلط البيّن بين مفاهيم عدة من بينها مفهوم المضاعفات والخطأ الطبي والخطأ الجسيم.

فالخلاف في البديهيات هو ضربا من ضروب الهذي ومضيعة للوقت و ‏من ثم لا يماري أحد في فداحة الخطأ الطبي الجسيم وعظم جرمه وما تتمخض عنه من آثار صحية جسيمة ذات نتائج وخيمة قد يصعب أو يستحيل تداركها أو جبر الضرر عنها مهما تقرر من تعويض مادي عنها.

ولا ينكر عاقل ما وصلت إليه الخدمة الطبية من تدنٍ فادح وجسيم وطوفانًا مستمرًا من الأخطاء الطبية بكل دقيقة يوميًا ،وتبقى "ولكن" وما بعدها… بيانًا لأسباب ما عمت به وفاضت تلك البلوى فقد تعزى تلك النكبة إلى أخطاء فردية غير محسوبة أو لتَجدُّب المنظومة الطبية من مقومات وموارد قيامها برسالتها كما يجب أن يكون. 

فقد يتخلف عن الخطأ الطبي الجسيم إصابة مريض بعاهة مستديمة أو إفقاده لأحد أعضائه أو سلب حياته ولا معقب !!! أو جابر لفقدان حياة مهما بلغ التعويض عنها فالأرض بمن فيها وما فيها لن تعوض حياة إنسان فقدت لرعونة طبيب أو إهماله الجسيم.

وأنا بالقطع لم ولن أكون سعيدًا بأن قلت إن مصر صارت طاردة للكفاءات من الأطباء وغيرهم فأنا عاشق لتراب هذا الوطن وجينات شعب مصر الأصيل مهما زايد على ذلك المزايدون.

فقد أصبحت مصر تعاني من أزمة محققة ووضع أشبه بالكارثي إن لم يكن كذلك بسبب الهجرة المتصاعدة في أعدادها للأطباء المصريين والتي بلغت ما يربو على 4500 طبيب عن العام المنصرم وبهجرة 11000 طبيب مصري عن ثلاث أعوام بداية من ٢٠١٩م حتى ٢٠٢٢م ليتمخض عن ذلك عجزا في عدد الأطباء وتخلفًا واضحًا عن النسب العالمية حيث يتوفر عدد 8.6 من الأطباء لكل  10000 مواطن مصري خلافا لما هو مقرر بالمعدل العالمي بتخصيص عدد ٢٤ طبيب لكل 10000 مواطن وهو ما يدق ناقوس الخطر لنماء مشكلة قد تتجذر بالأمن القومي.

وكأن مشروع قانون المسؤولية الطبية أتى ليقضي على الحفنة المتبقية من الأطباء الذين لم تسعفهم ظروفهم على الهجرة أو الحالمين بها أو الرافضين لها.

‏لذا أهيب بالمشرع المصري بأن يذعن مجلس نوابه في جلساته القادمة إلى تلك الاقتراحات ،وما يُزاد عليها من اقتراحات نقابة الأطباء ممثلة في جمعيتها العمومية ومجلسها النقابي ؛ حتى نكون أما تشريعللمسؤولية الطبية يحمي به المريض ويخلق بيئة آمنة للأطباء لممارسة رسالتهم السامية في الوقت ذاته وأخذ المخطئ منهم بالعقاب بعد ثبوته في حقه ،وهي كالتالي:

١- إلغاء الحبس الاحتياطي من نصوص قانون المسؤولية الطبية و من قانون العقوبات في حالات الخطأ دون حالة الخطأ الجسيم. 

‏٢- الاعتراف التشريعي والقضائي باللجنة العليا للمسؤولية الطبية كخبير فني معترف به ومؤثرا وفاصلاً في الواقعة الطبية دون غيره أمام النيابة العامة والقضاء.

‏٣- الإحالة الإلزامية للجنة العليا للمسؤولية الطبية لكافة الشكاوى والبلاغات المقدمة من متلقي الخدمة الطبية ضد الطبيب مقدم الخدمة.

٤- تعليق اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق كالحبس الاحتياطي أو  المحاكمة على ما تقرره اللجنة العليا للمسؤولية الطبية بشأن ثبوت مسؤولية الطبيب ودرجة الخطأ وجسامته من عدمها.

٥- قصر تقرير عقوبة الحبس حال تحقق الخطأ الطبي الجسيم دون الخطأ البسيط.

‏٦- تخصيص عقوبة الغرامة دون غيرها من العقوبات حال تحقق الخطأ الطبي البسيطبما لا يخل الحق في المطالبة بالتعويض.

‏7- تقرير التعويض بالحق المدني حال تحققأيا من أنواع الخطأ الطبي.

‏8- تحقيق العدالة الناجزة بسرعة الفصل في قضايا الأخطاء الطبية.

‏9- سن التشريعات الجنائية الفاعلة لمواجهة جرائم الاعتداء على أفراد الأطقم الطبية وتغليظ العقوبات وفوريتها.

10- التأمين الأمني الكافي للمنشآت الطبية بما يحقق سلامتها وسلامة أفراد الأطقم الطبية والإدارية.

11- إلزام الصندوق بالدفع الناجز لكامل التعويض للمتضرر من الخدمة الطبية دون المساهمة فيه فقط.

لا يليق بمصر صدور قانون كهذا ولا يليق بأطباء مصر أن يصاغ تشريع ينظم علاقتهم بمتلقي الخدمة الطبية على نحو يحمل في طياته تهديداً حقيقياً للأطباء بعقوبة الحبس والغرامة التي قد تصل إلى مليون جنيه و بالحبس الاحتياطي لمجرد الادعاء بالخطأ الطبي والذي قد يثبت في نهاية المطاف وبعد طول تحقيقات وعناء محاكمات عدم صحته وكونه محض افتراء لمجرد حصول بعض من المضاعفات التي لا دخل لإرادة الطبيب فيها.

يضحى الوضع كارثيا إن صدر قانون المسؤولية الطبية على نحو ما صيغت به نصوص مشروع صياغته دون إصلاح ما اعوجت به تلك النصوص و حذف ما شذَّت به عن مشروعية القانون والدستور ... وللحديث بقية دمتم سالمين