عمار علي حسن يكتب: الباب الخلفي للسياسة
ينشغل دارسوا السياسة والفروع العلمية الملتصقة معها أو التي تربطها بها جسور عريضة، بالممارسات والسلوكيات السياسية ذات الطابع الظاهر والمباشر، ابتداء بما يجري في المجتمع المحلي وانتهاء بما يحدث على مستوى النظام الدولي. وهذا الاهتمام المكثف بالمألوف من أفكار السياسة وممارساتها مرده عدة أمور أساسية هي:
- تعتبر دراسة "السياسة الظاهرة" أيسر بكثير من التعرض لنظيرتها "المستترة" نظرا لأن المعلومات المتوافرة حول الأولى أغزر بكثير من الثانية، كما أن التراكم العلمي الذي حققه حقل السياسة، في سعيه إلى ضبط أدواته المنهاجية واقتراباته ومداخله العلمية، ارتبط غالبا بالسياسة الظاهرة، ومن ثم عبّد الطريق أمام كل من يتصدى لدراسة وقائع السياسة وأحداثها ومواقفها وقضاياها ومقولاتها الرئيسة والفرعية.
- يعد الطلب على السياسة في صيغتها الظاهرة والمباشرة أكبر إلى حد كاسح من الطلب على السياسة التحتية، حيث تكون هناك حاجة ماسة إليها في الأكاديميات ومراكز البحث وبيوت الخبرة، ولدى جماعات المستشارين الذين يضعون خبرتهم في خدمة رجال السياسة من حكام ووزراء وبرلمانيين ودبلوماسيين. 3- يحتاج تناول السياسات المستترة إلى باحثين لديهم قدرة على إجراء الدراسات «عبر النوعية» التي تتم من خلال الاستفادة من عدة حقول معرفية في تفسير الظاهرة محل البحث، انطلاقا من اعتقاد في أننا إما أمام علم إنساني واحد له فروع متعددة، وإما ثقة في أن النظرة التكاملية لشتى العلوم الإنسانية هي الأفضل في معالجة الظواهر الحياتية والاجتماعية المعقدة في أسبابها ومساراتها وحتى نتائجها المنتظرة، التي تشكل تغذية مرتدة Feed Back تدخل كعنصر جديد في دراسة الظواهر وفهمها.
ولهذا لم تلق "السياسة التحتية" نصيبا وافرا من الاهتمام يوازي حيوية الدور الذي تلعبه في إدارة الصراعات الاجتماعية والسياسية، ما يجعل من دراستها أو مجرد إلقاء الضوء عليها أمرا ضروريا، رغم أن التحايل السياسي قد اتخذ أشكالا أكثر إحكاما وديمومة، حملتها الثقافة الشعبية أو الجماعية، مثل الأغاني والرقصات والأمثال والطقوس والنكات والنوادر والحكايات الشعبية، التي تنطوي على قيم تنطوي على الصبر، وتنتصر للحق في وجه الباطل، والعدل في وجه الظلم، وتسخر من المتغطرسين والمتجبرين، وأصحاب الثروات الحرام، والمناصب غير المستحقة. ويصل الأمر عند بعض الشعوب إلى استخدام «المفارقات الرمزية» التي تناقض طبيعة الأشياء ومجريات الحياة، مثل القصص التي تروي مغامرات الفئران التي تأكل القطط، والأرانب التي تخيف الصيادين، والثور الذي يذبح الجزار، والإوزة التي تضع الطاهي في القدر، والسمكة التي تطير في الهواء، والفقير حين يحسن إلى الغني.
إن الظواهر والسلوكيات الخفية والمستترة وغير المباشرة تنطوي على العديد من المعارف والقيم والاتجاهات ذات الطابع المرتبط بالمجال العام، والتي تفرض دوما ضرورة الالتفات إليها لتساعد في تفسير وإجلاء العديد من الأمور والقضايا السياسية المتصلة بواقعنا المعيش، والتي تُبنى على قاعدة مفادها أن أساليب المواجهة العادية متفاونة ومتدرجة، مهما كانت نوع هذه المواجهة، عفوية أم مدبرة. ولهذا فمن الضروري أن يلتفت دارسو العلوم السياسية في العالم العربي إلى هذا النوع من الممارسة السياسية، فيتتبعون تمثلها في التاريخ الاجتماعي-السياسي العربي القديم، ثم وجودها القوي والمعبر في التصرفات السياسية الحديثة والمعاصرة، لدى الناس، مهما كانت اختلافاتهم في المكانة والثقافة والطبقة والعرق والخبرة والعمر والنوع... إلخ.
وفي هذا الشأن لا بد لهذا النوع من الدراسات أن يسعى إلى الإجابة عن عدة أسئلة من قبيل: ماذا تعني المواجهة الحذرة؟ وما الوظيفة التي تؤديها؟ وما الأهمية التي تشكلها؟ والأساليب المرتبطة بها؟ والأسس التي تقوم عليها؟ وما التمثلات الرئيسة للمواجهة الحذرة في الأطر الاجتماعية والسياسية، سواء كانت أيديولوجيات أو نظريات أو قيم ترشح عن عملية التنشئة وأساليب الضبط الاجتماعي، وكل العوامل التي تؤدي إلى امتثال الفرد؟ وأي صور أخذها التحايل في الثقافة العربية القديمة؟ وما مظاهره في المجال السياسي الحديث والمعاصر؟ وهل المواجهات الحذرة تنطوي على سلبية دائمة؟ أم يمكن توظيفها في أفعال خيرية وعظيمة تفيد الشعوب والدول؟ وهل اللجوء إلى المواجهة الحذرة مقتصر فقط على الضعفاء؟ أم أن الأقوياء أو المتمكنين أيضا يستخدمون التحايل أحيانا؟
لكن ما يجب التأكيد عليه في هذا المقام أنه على الرغم من أهمية المواجهة الحذرة وتأديتها وظيفة لا غنى عنها في مجالات حياتية عدة، فإنها تبقى فعلا ملتصقا بالضعف والهوان، إن استثنينا الحيل الضرورية كما هي الحال في الحروب، كما تبقى الحيلة فعلا مرتبطة بالأفعال الشريرة حين تستخدم على نطاق واسع في تضليل الشعوب وتدجينها وإخضاعها للاستبداد، وإسكاتها عن مقاومة الظلم والفساد.
من هنا فإن حصاد هذا النوع من المواجهة يبدو ضئيلا إن قيس بما تثمره أنواع المقاومة الأخرى، سواء المدنية أم المسلحة، وحتى لو أثمرت الحيل نجاحا وتمكنا فإن نتائجها تلك تتحقق بعد زمن طويل، وجهد بالغ، وهي إن كان من الممكن أن تشكل تمهيدا لأشكال المواجهة الصريحة والمباشرة، فإنها قد تعيق ميلاد مثل هذه الأشكال، حين لا يدرك الذين يستخدمون المواجهة الحذرة أنها مجرد مرحلة، تلتقط فيها الأنفاس وتعد فيها الخطط لخوض مواجهة سافرة للحصول على الحقوق المهضومة أو رفع الظلم المتراكم. علاوة على هذا فإن الإفراط في إطلاق الحيلة وتوظيفها في أشكال التفاعل الاجتماعي كافة، بما في ذلك العلاقات الأسرية وروابط الأصدقاء والزملاء، يبدو أمرا غير مستساغ، لأنه يفترض مبدئيا أن الحياة لا تعرف سوى الصراع المستمر بين الجميع وفي كل الأزمنة والأمكنة، ومهما كانت صلات القربى بين الناس أو مستوى الاحترام المتبادل والمشاعر المتناغمة بينهم.