هشام الحمامي يكتب: سأهديكم غيابى.. فهمى هويدي

ذات مصر

يقول لنا الدكتور محمد كامل حسين (ت/1977)رحمه الله أستاذ العظام المعروف والمفكر الكبير في رواية (قرية ظالمة): ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلًا من أصول نظامها في (ضمير) الإنسان، ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الإنسان تلك الحاسة الروحية، التي نسميها الضمير، ويرميها بالشلل؟ إنه ينحط درجة واحدة، ولكنها درجة (الضمير)، التي لو جازها الحيوان، لصار إنسانا ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيوانا. 

واذا جاز لنا أن نحيى الأستاذ الكبير(فهمى هويدي) في يوم ميلاده (الاثنين 28 أغسطس) بهذا المقطع من هذه الرواية لهذا العالم الكبير، لما جاوزنا الحقيقة في وصفه بضمير الصحافة العربية في النصف قرن الأخير .. 

كان خلالها ولازال (حفظه الله) واحد من أكبر كتاب زمنه، قال وكتب ونشر، وحوله هالة واسعة من الضوء .. ليس ضوء الشهرة والمجد فقط، ولكن ضوء (الأفكار الكبيرة) التي قدمها لنا صفاء زلالا خالصا من شوائب الغرض .. فقط ليس إلا .. التعبير بوضوح عن ذاته، وذات أمته .. وذات بلاده .. ذات مصر.

***

محطات قليلة سأتوقف فيها هنا مع هذا الرجل الكبير الذى أحببناه .. (اختلافا واتفاقا أحببناه) رغبة منا أو رغما عنا ..والذى غاب عنا رغما عنه! ، قائلا في هدوء الحكماء (سأهديكم غيابى) ..

طبيعى إذن أن نبدأ هنا بالحديث عن علاقته بالغة التميز بإثنين علامات الصحافة المصرية الأستاذ هيكل (ت/2016م) هيكل والأستاذ أحمد بهاء الدين(ت/1996م) .. 

علينا أن ننتبه اننا هنا في أكاديمية النفوس الكبيرة.. 

كلاهما على درجة عالية من النبل الإنساني، ومهنيا.. لهم ما لهم.. وعليهم ما عليهم، وقد تطرقت فى مذكراتي (التي لم تنشر بعد) إلى المقارنة بين هيكل وبهاء.. هكذا وصفهما الأستاذ فهمي في أحد حواراته الصحفية.

وأضاف: هيكل له إنجازاته العظيمة، وعليه مآخذ يجب الحديث عنها باحترام .. فهو لم يكن متسلطا لكنه كان قويا إلى الدرجة التي حجبت غيره.. والخلاف بيننا كان موجودا، وأن تختلف مع عاقل فهذا شيء لا يقلق .. فأنت عندما تختلف مع عاقل، تعرف حدودك، وتعرف متى تتكلم وعن ماذا تتكلم .. 

وهيكل كانت له أخلاق شخصية ومهنية وقيمة حرفية، وكان كبيرا في مهنيته وكبيرا في أخلاقه. 

ويضيف: كان-رحمه الله-يحسن الظن بي دائما .. ويدافع عني في بعض المجالات، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالسلطة. 

أما الأستاذ بهاء، فكان رجلا هادئا عميقا، ومحبا لتشجيع الآخرين لاسيما الشباب .. وعندما تجلس معه تشعر أنه قارئ لك، ويعرف عنك، ويشعرك بالونس. 

***

يقول أحدهم: كل نجم يريد وصلا بالشمس، يستكبر أن يكون ابنا شرعيا لأب، يريد أن يكون مولودا بذاته لذاته.. لكننا هنا أمام (رجل) ليس الضمير والموهبة فقط، أفضل مزاياه، بل الوفاء والنبل قبلهما .. 

***

سيكون هناك عداوات ظريفة للأستاذ فهمى .. وهى فعلا ظريفة لأن الطبيعة الشخصية التي يتمتع بها الأستاذ فهمى لا تميل أبدا إلى قصة الخصومات والعداوات. 

لكنها الحياة وناس الحياة.. وأتصورأن هذه العداوات بها من الحسد والغل والغيرة، أكثر مما بها من الاختلاف والاتفاق المهنى والفكرى والسياسى .. وهذا داء المجال العام لدينا .. ولدى الدنيا كلها في الحقيقة .. فمهما بلغ (الإنسان) في ارتقائه بالخلاف مع غيره .. لا تنسى أبدا أن تبحث عن (الغل) في الأعماق السحيقة.. ولهذا حديث أخر.

أقرأ مثلا لأحد الكتاب اليساريين وتأمل نفسنة سطوره فيقول: إنني أود أن أكتب عن(ثالوث) أراه متصلا ويشكل ظاهرة، تستحق التأمل والدراسة ويتكون من (أحمد كمال أبو المجد وإبراهيم المعلم وفهمي هويدي) وقد كان لى حظ التعرف إليهم منفردين ، والتعامل معهم ، وأراهم أضلعا لذلك(المثلث الخطير) في السياق السياسي والإعلامي والثقافي المصري والعربي وربما يأتي الوقت للحديث عن هذا الثالوث .. 

هذا الكاتب من دراويش دراويش الأستاذ هيكل.. و(المثلث الخطير) الذى يتحدث عنه كانوا من أقرب الناس للأستاذ هيكل .. لكن القصة لا مثلث ولا خطير .. القصة أتفه مما يتخيل أي أحد.. إنه (الغل) والملل من مضغ الفراغ.. 

فالثلاثة نجوما في الحياة العامة وقامات كبيرة في مجالهم ..عملوا كثيرا ونجحوا كثيرا ولازالوا.. ورحم الله الدكتور أبو المجد .. 

***

وقل مثل ذلك عن ما كتبه أحد الليبراليين الذى يقول: يمكن أن نقول إننا إزاء كاتب(زرب) اللسان قادر على صوغ خطاب سياسي يبدو محكما، ومعتمدا على حجاج منطقي يضع المقدمات ، ويرتب عليها النتائج ويوحى لقرائه بالرصانة والجدية ، بل بالعبوس والجهامة ، عبوس الجادين وجهامة المنافحين عن الحقيقة ، وهو لا يعدم أن يرصع خطابه بعلامات وألفاظ تؤكد صرامته ورصانته..!!! 

***

وواضح طبعا أن أسلوب الأستاذ فهمى الرشيق العميق هو مصدر النار المتصاعدة من كلمات الرجل ..

(والأسلوب هوالرجل) كما يقول الأديب والمؤرخ الفرنسي المعروف جورج بوفون(ت/1788م) والجملة معناها كما قال لنا بوفون أننا أمام كلام له معنى ..وتم تقديمه لنا بأسلوب معين.. 

وعلينا أن نفرق بين معنى الكلام وأسلوب الكلام ..المعنى موضوع عام .. والأسلوب موضوع خاص .. يخص شخصية قائل الكلام أو كاتبه ..هو روحه ودمه وعبقه الذى يفوح من السطور حتى ولو لم تر الاسم على رأس السطور..

وهذه هي (الموهبة)..أو(هكذا خلقني الله) كما كان يقول المفكر والروائي الألماني الكبير(يوهان جوته/ت1832م).. معتزا بموهبته التي وهبها الله له .. ولن نذهب بعيدا حين نتذكر العلامة الكبير جلال الدين السيوطى(ت/1505م) الذي كتب عن نفسه كتابا بعنوان (التحدث بنعمة الله). 

***

كل عام والأستاذ فهمى بكل خير وصحة وعافية .. والعمر الطويل زيادة في التجربة والعقل .. كما يقول عمنا (بيدبا)في كليلة ودمنه. 

وها هو أهم عقل في أوروبا كلها المفكر والفيلسوف الألماني (يورج هابرماس) 94 عاما .. ولازال يقول ويٌسمع له، ويكتب ويٌقرأ له على أوسع نطاق ومدى.. ولا ننسى بالطبع الفيلسوف الامريكى( تشومسكى) 95 عاما ، وهو من هو في دنيا الفكر والسياسة أيضا .. ولازال يكتب ويقول.. 

كلهم تجاوزوا التسعين ولازال عطائهم على وفرته الأولى وقوته الأولى.. بل وأنضج وأعمق وأوفى.. 

وكاتبنا الكبير الحبيب أحد كبار الناس، والذى إذا قال سٌمع له .. وإذا كتب قٌرئ له.