محمد حماد يكتب: الحب في المنفى والمحبة من أول لقاء

ذات مصر

في مساء يوم الخميس السابع والعشرين من عام 2022 رحل عنا الأديب والمثقف الكبير الأستاذ بهاء طاهر.

مر عام على رحيل ذلك البهاء الذي أومض في حياتنا الثقافية والإبداعية طاقة نور، تركت بصمتها في أرواحنا، لا تغادرها مع مرور الأيام وكرِّها الذي لا يتوقف.

كان لي حظ وشرف الاقتراب من مفكرين ومثقفين وكتاب وأدباء كثيرين، كان بهاء طاهر واحد من أقربهم إلى قلبي، شدني إليه أنه يقبل عليك كأنكما أصدقاء من زمن، ولو كنت أول مرة تراه.

كل من اقتربوا منه لاحظوا من الوهلة الأولى هدوءه الأخاذ من دون تصنع، وتواضعه الجم بدون تكلف، ولن تنسى أبدًا ضحكته البريئة كأنها ضحكة طفلٍ لم تكسر براءته الحياة بعد. 

**

روايته «الحب في المنفى» هي الباب الذي ولجت منه إلى عالم بهاء طاهر الروائي، حين انتهيت منها، لم تستغرق غير بضعة ليال حتى التهمتها دفعة واحدة، وأسعدني أن اقرأ عنها كل هذا الكم الهائل من كتابات كبار النقاد والكتاب احتفاءً بها وبمؤلفها، واستقر في وجداني ما كتبه أستاذنا الدكتور علي الراعي في الأهرام يصفها بأنها «رواية كاملة الأوصاف».

«الحب في المنفى»بالنسبة لي كانت ـ ولا تزال ـ تحمل هذا الوصف البليغ الموجز والمعبر بصدق عن رؤية ناقد بحجم وقيمة علي الراعي ككاتب وناقد كبير.

حين التقيته، ومن المرة الأولى استقر في نفسي المعنى الدقيق الذي رآه الكاتب الكبير علاء الديب «حيث الصدق هو النبرة الأولى التي تصافحك في سطوره»، وقد عاينت بنفسي أن الصدق هو أيضًا الصفة الأولى التي تصلك منه حين تجلس إليه.

**

ظللت أتابع الانتاج الأدبي لبهاء طاهر فور صدوره، أذهب إلى مكتبة دار الهلال وكانت قريبة من جريدة العربي التي أعمل بها، وأسأل عن جديد بهاء طاهر، سواء من إصدار الدار أو من غيرها، حتى وقعت على ترجمته المميزة لرواية باولو كويليو الشهيرة تحت عنوان «السيميائي ـ ساحر الصحراء»، والتي صدرت أول ما صدرت عن «دار الهلال» ضمن روايات مترجمة متميزة.

كان من حظ هذه الرواية أن تحصل على أكثر من ترجمة إلى العربية، وبدون الدخول في المقارنات بين تلك الترجمات، إلا أنك ستلمس منذ انكبابك على قراءة ترجمة بهاء طاهر لها ذلك الألق الذ ي تبدى بين سطورها.

وقعت أيضًا في حب السيميائي كما أحببت قبلها «الحب في المنفى»، ولعل هذا الحب أوقعني في شرك أن الأستاذ بهاء ظل يشك طويلًا أنني لم أقرا له غير روايته الأروع الحب في المنفى وترجمته الرائقة لساحر الصحراء.

**

كان اللقاء الأول معه مساء يوم في بيت أستاذنا محمد عودة، ذلك المساء لم يكن أحدًا مدعوًا غير الأستاذ بهاء، وحين اتصل بي الأستاذ عوده قال: بهاء يسافر غدًا إلى جنيف، وسوف يمر عليّ، هو عادةً يحب أن نختلي معًا، وقد أفردت له هذا المساء، لكن فكرت أن تحضر اللقاء، أريد أن تتعرف عليه و«أعرفكم على بعض".

محبة الأستاذ عوده لشخص كانت ـ غالبًا ـ هي مفتاح محبتي لهذا الشخص، وأقول غالبًا لكي أحتفظ لنفسي بمساحة اختلاف في حالة بعض الأشخاص ـ وهم قلة القلة ـ وكان السبب دائمًا خلافات في التقدير، كان الأستاذ قادرًا على رؤية الإيجابي في الأشخاص، وكنا شبابًا يبعدنا عنهم ما نراه من سلبيات فيهم.

**

كانت سعادتي بالغة، أولًا بأن يختصني عمنا عودة بهذا الشرف، ثم لقاء الرجل الذي عشت معه وقائع وسطور ومشاعر وتقلبات الحب في المنفى، كنت مبهورًا بالرواية، وربما هي من الروايات القليلة التي كنت أمسك بقلمي الرصاص لأكتب خواطري على هوامشها.

على عكس عادتي تعمدت أن أتأخر بعض الوقت عن الموعد، قلت لنفسي أترك لهما فرصة أن يتناجيا معًا، وبينهما ذكريات طويلة، ومحبة عميقة متبادلة، وحين مددت يدي إلى شراعة الباب الخارجي لبيت عمنا عودة لأفتحه من الداخل، بعد أن خبطت عليه خبطتين وألقيت التحية، رأيت وجه بهاء طاهر وهو يبدو منزعجًا، متسائلً عمَن هذا الذي جاء يقطع مناجاته مع صديقه الكبير؟ ثم مَن هذا الذي يتجرأ على فتح الباب بهذه الصورة؟

**

وقف يسلم عليَّ وعمنا عودة يُقدمني إليه، وأنا أتفرس وجهه كأني أعرفه من قبل، يصافحني بكل ود واستغراب، وجلست استمع إليهما وقد عاودا الحديث من حيث انتهى قبل مجيئي.

رن هاتف المنزل، ليقوم الأستاذ عوده إليه واسـتأذن بهاء لمدة لن تطول، ولكنها طالت، وتركت لي فرصة الحديث مع هذا البهاء الذي ترك أثره داخلي مع كل فكرة نطق بها، أو تعليق علقه.

وكان هو من بادر إلى سؤالي عن نوعية الكتابة التي أكتبها، وأي فروع الكتابة أفضل، وتبادلنا الحديث العادي إلى أن قررت أن ألج إلى الكلام عن الحب في المنفى، وفاضت أساريره بالفرح كطفل، وابتهج وجهه كعذراء باغتها المحب بالثناء.

وكما كانت «الحب في المنفى» هي واصلة المحبة، فقد جاء الحب من أول لقاء في بيت العم عودة.

**

ما من مرة رأيت فيها الاستاذ بهاء إلا وأقول له هي روايتي المفضلة حتى ظننت أنه شك أنني لم أقرأ له غيرها من كثرة ذكري لها، سألني مرة طيب «خالتي صفية» أقول له: رائعة ولكن، ومرة يقول لي «قالت ضحى»، أقول له أكثر من رائعة، ولكن «الحب في المنفى» مَستني أكثر من غيرها، حتى جاءت «واحة الغروب»، وكان ينظر إليّ منتظرًا رأيي، فقلت له الآن يمكن أن أسوي بينهما.

وحتى أقطع الشك باليقين أسررت إليه مرةً بأن «الحب في المنفى» لها معي سر يخصني، فضحك وهو يقول حزرت ذلك، وبدا وجهه أكثر نورًا وضياءً.

أخر مرة رأيته فيها على المقهى الذي كان يحبه بالقرب من منزله بالزمالك، يلتقي فيه مع الأصدقاء الذين يحبهم، سألني وهو يضحك ضحكته الودودة الطفولية:

ـ إيه أخبار الحب الذي نفاك.