أحمد أمين يكتب: غزة والصراع الدولي
بعد تعرض الكيان الصهيوني - الذي يتمسح باليهودية تارة، وبالغرب تارة، وبالحضارة مرات أخرى – لفضائح استراتيجية واستخباراتية وعسكرية منذ السابع من أكتوبر حتى اللحظة، أصبح الوجود الإسرائيلي كله محل علامات استفهام كبيرة في منطقة الشرق الأوسط. ولا يبدو أن المعسكر الغربي الذي تمثله إسرائيل على ذات القدر من إدراك سياقات الصراع الآنية في منطقة الشرق الأوسط والتي أصبحت تتجاوز التخطيط الغربي – والأمريكي تحديداً – وتؤشر لتخبط استراتيجي يعكس تراجعاً للهيمنة الغربية في السياق الدولي.
المسألة الفلسطينية تقع تحت تأثير ثلاث قوىً دولية، وهي المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي والذي يضم الصين وروسيا وحلفاؤهما، وأخيرا المعسكر العربي ودول العالم الإسلامي كما يطلق عليه. ومع أن المعني الأساسي بهذه القضية المعقدة هو المعسكر العربي ودول العالم الإسلامي، إلا أنه الطرف الوحيد الحاضر شهوداً والمفتقد للتأثير الدولي فيما يخص هذه الأزمة. وعلى الرغم من المعارك والحروب المتعاقبة منذ نشأة إسرائيل وانخراط دول المنطقة المحيطة بها - وتحديداً مصر وسوريا والعراق ولبنان – تبدو دول الطوق العربية غير مكترثة بأمنها الجيوسياسي والإستراتيجي، ولا تتخذ خطوات جادة في حل هذه القضية المعقدة.
ربما يكون هذا صحيحاً على مستوى الدول بصورة نسبية، إلا أن لشعوب المنطقة رأي آخر لا يتخيل المعسكر الغربي في أسوأ كوابيسه أن يكون لها صوت أو تأثير في صنع القرار فيما يخص المسألة الفلسطينية بعدما استطاعت الولايات المتحدة تدجين جل الدول العربية لصالح ملف السلام والتطبيع خلال عقود متوالية. وهكذا يبدو المشهد في مخيلة صانع القرار في المعسكر الغربي وامتدادها العضوي في الأراضي المحتلة، أن هذه المنطقة بلا شعوب مؤثرة، تسعى للترفيه وعدم الاكتراث في أحسن حالاتها، أو تفر هاربة أمام استبداد أنظمتها السياسية والتي أوقعت الشعوب العربية في حلقات مفرغة من الحروب الأهلية والإستبداد السياسي والتخلف الإجتماعي. وتنفق الدول الغربية ثروات المنطقة ذاتها لتحقيق هذا المشهد المأزوم حتى لا تصل شعوب المنطقة ولا دولها حتى لمرحلة الصفر لتبصر من أين تنطلق نحو وجهتها التي لا تبدو واضحة لها. وربما يشارك المعسكر الشرقي المعسكر الغربي في هذه الرؤية الأخيرة تحديداً تجاه منطقة الشرق الأوسط. ولا يتسع المقام لذكر التنافس الروسي الغربي في سوريا منذ أكثر من عقد منذ ما عرف بالربيع العربي، ولا بالتنافس الشرس والمحموم بين الولايات المتحدة والصين في العراق وفي تأمين منابع النفط.
كل ما تم ذكره يفصل بإيجاز موقف المعسكرين الغربي والشرقي تجاه المنطقة. أما المعسكر الأساسي والمعني بقضاياه فلا يكترث لقضايا الأمن الجيوسياسي والإستراتيجي والعسكري لكل دولة أو دويلة، وتسعى كل منها للحصول على رعاية أمريكية وغربية في أكثر النماذج، وبرعاية روسية في نماذج أخرى، وهو ما يعني أن المنطقة برمتها بدولها وشعوبها تدور في فلك أحد المعسكرين ولاعبيه الرئيسيين بالوكالة على أرض دول هذه المنطقة محل النزاع والتنافس الدولي السياسي والعسكري والإقتصادي، مع استثناءات بسيطة خاصة في الحالة المصرية. وفي وسط كل هذه المعطيات يتحرك اللاعب الفلسطيني ليس حتى ككتلة واحدة، بل كشظايا، كل منها يهرول نحو تحقيق أهداف داعميه، ويدفع الشعب الفلسطيني، كما الشعوب العربية، ضريبة هذا التشظي والتردي وحده.
تمثل حركة حماس الجناح العسكري والسياسي لأحد أكثر الجماعات الدينية والسياسية تأثيراً في المنطقة وفي دول العالم الإسلامي حتى وقت قريب. فجماعة الإخوان المسلمين والتي قضت أكثر من ثمانين عاماً منذ نشأتها وحتى أفولها تروج لدعمها للقضية الفلسطينية ولقضايا العالم الإسلامي باعتبارها لنفسها إفرازاً لصوت الشعوب المسلمة والمقهورة والمستباحة منذ الحقبة الكولينالية. إلا أن ما جرى منذ ثورات الربيع العربي أعاد تشكيل الرأي العام لهذه المجتمعات تجاه جماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية في مجملها. أما على المستوى الفلسطيني فقد كان أبرز منتجات جماعة الإخوان المسلمين هي حركة حماس والتي أصبحت اللاعب الرئيسي في قطاع غزة بعد الإنقلاب على السلطة في قطاع غزة لتتمترس فيه كلاعب سياسي ومناوئ عسكري لإسرائيل تتسبب في إحداث تقلبات عميقة وكبيرة في سلوكه الداخلي والخارجي.
وبعد القضاء على جماعة الإخوان المسلمين في أكبر معاقلها في مصر، ثم انفلات الأوضاع في سوريا واليمن والعراق ولبنان والسودان وليبيا خلال العقد الماضي، أصبحت حماس معزولة عن دعم وتأييد محيطها على المستوى السياسي والعسكري تحديداً وهو ما دفعها نحو المعسكر الشرقي - ولاعبيه الرئيسيين - المناوئ للغرب في المشهد الدولي وفي الصورة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. ولهذا تظل حماس في مخيلة المعسكر الغربي والمعسكر العربي امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، وهي الكيان الوحيد صاحب التأثير الأهم والأبرز المتبقي بعد القضاء على جماعة الإخوان المسلمين. وكما استطاعت الأنظمة العربية في إقناع المعسكر الغربي في القضاء على جماعة الإخوان المسلمين، فإن المعسكر الغربي يدفع بذات الأسباب والذرائع نحو تجييش اللاعبين الدوليين لدعم القضاء على حركة حماس باعتبارها تمثل تهديداً للدول العربية نفسها قبل إسرائيل.
غير أن تبني وجهات النظر هذه لم تتمكن من توجيه الرأي العام العربي للمجتمعات العربية - وحتى في المجتمعات الغربية – لتبنيها؛ والتي ترى أن حماس في هذا السياق القائم هي حركة مقاومة للإحتلال الإسرائيلي المدعوم غربياً، والذي بمجرد تعرضه لهذه الصفعات القوية والفاضحة سارع لنجدته بكل الوسائل والأدوات التي تمكنه من القضاء على حماس في قطاع غزة. هذا الدعم أصبح الآن عبئاً على الولايات المتحدة وعلى المعسكر الغربي بعد وقوعه في مستقنع أوكرانيا مع الروس، الأمر الذي استغلته روسيا ثم الصين في إعادة رسم القواعد الدولية خلال الفترة الماضية لتحجيم النفوذ الأمريكي العالمي، والذي تبدو الفرصة التاريخية والسياسية في اللحظة الحالية مواتية تماماً لمزيد من تعاظم النفوذ الروسي والصيني ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في محيط كل منهما الإقليمي الذي تضرر كثيراً بهيمنة الولايات المتحدة عليه لتحقيق مصالحها في كبح نفوذ وتأثير وقدرات كل منهما على المستوى الدولي. وبهذا تصبح غزة الآن أحد أهم المفاتيح الدولية في صياغة مشهد دولي يختلف عن سابقه، خاصة مع احتماليات متزايدة لتعميق وتأزيم الصراع ليتحول لحرب إقليمية أكبر تنخرط فيها روسيا والصين بشكل غير مباشر في المدى المنظور، وبشكل مباشر في السياقات الدولية.