عمار علي حسن يكتب: خطاب الاستبداد والتطرف.. فارق بين الفصاحة والرطانة
هناك فارق بين خطاب سياسي فصيح يوظّف بوعي الأساليب البلاغية من استعارات وكنايات وتوريات، ويعرّف بدقة وقت الإظهار والإضمار، وبين خطاب آخر غارق في الرطانة، التي تبني تلّاً من الكلمات ذات الإيقاع الصاخب، يظن معه صاحبه أنّه قد ملك الآذان والأفهام، ثم لا تلبث أن تتهاوى صريعة؛ لأنّها تبدو لدى السامعين مجرد مبالغة، تزعم ما يخالف الحقيقة بغية المخاتلة والخداع أو مداراة عيب لدى منتج الخطاب، الذي يظنّ، أو يتوهم، أنّ الصوت الزاعق بوسعه أن يداري على أوجه القصور.
لهذا من الضروري أن نفرق بين أمرين:
1 ـ الفصاحة: وهي كلام مرتب ومنسق ومنمق ومنظم، ينطقه صاحبه بلسان لا اعوجاج فيه، ولا تلعثم، أو تباطؤ أو شرود، وهو واثق من قدراته على التحدث بطلاقة، ومن امتلاكه الظهور إلى جانب الإبانة، مدركاً الفرق بين البيان، الذي ينصرف إلى توضيح المعنى، والبديع الذي يرصع الكلام بالمحسنات، لكنّه لا يعنيه قول الحقيقة؛ بل قد يغرق في توجيه الاتهامات الباطلة، والأوصاف السلبية المبالغ فيها.
2 ـ البلاغة: وتنطوي على كلام ذي بيان، لكنّه يركز على الإقناع، ويتوسّل بالحِجاج؛ فالبلاغة اسم مشتق من فعل بلغ، الذي يحمل إدراك الغاية أو الوصول إلى المقصد النهائي، فإذا كان الهدف الرئيس من اللغة هو نقل معلومة، فإنّ الهدف الرئيس من المعلومة هو الإقناع.
من هنا، يجب أن تمتلك البلاغة قدرة على التأثير والتغيير، وهذا لن يتم إلّا بإقناع الناس واستمالتهم، وهو ما لا يمكن أن يتم بالتركيز على دغدغة المشاعر، وإلهاب العواطف، وإشعال الحماس فحسب؛ بل أيضاً أخذ العقول في الاعتبار؛ أي مخاطبة الوعي والفهم والإدراك، واحترام قدرة الناس على التمييز والنقد، بقياس كلام المخاطب على ما في رؤوسهم من خبرات وتجارب.
الخطابة ليست مجرد رطانة أو فصاحة إنما هي فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته، فلا بدّ من الإقناع
لهذا، فإنّ الخطابة ليست مجرد رطانة أو فصاحة، إنما هي "فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته، فلا بدّ من الإقناع؛ حيث يوضح رأيه للسامعين، ويؤيده بالأدلة والبراهين، ليعتقدوه كما اعتقده، ولا بدّ من الاستمالة، والمقصود بها أن يهيّج الخطيب نفوس سامعيه، أو يهدئها، ويقبض على زمام عواطفهم، يتصرف فيها كيفما شاء، مفرحاً أو محزناً، مضحكاً أو مبكياً، داعياً إلى الثورة، أو إلى السكينة"، كما يقول أحمد الحوفي في كتابه "فنّ الخطابة".
وقد وصف أرسطو الخطابة بأنّها "القدرة على الإقناع"، رابطاً بينها وبين الكلام المبين، فيما رأى الرومان، وأشهرهم في هذا القديس سانت أغسطين، الذي فسّر الإنجيل، بأنّ له خمسة أركان: هي الإبداع، والترتيب، والتصوير، والحفظ، والإلقاء، والركنان الأخيران إن كانا ينصرفان إلى الرطانة أكثر من الاستمالة الطوعية النابعة من مخاطبة العقل، فإنّ الركن الأول والثاني ينصرفان إلى الإقناع؛ إذ إنّ الإبداع، كعملية إرادية متوهجة ناقدة متجددة، يضمّ في باطنه تفهّم ضرورة الإقناع، الذي أيضاً يحتاج إلى ترتيب للأفكار والصور التي تترجمها الكلمات.
لكنّ خطاب الرومان لم يخلُ من مبالغة تجلّت في تلك الإشادات الزاعقة بالجنرال تيوس، الذي ما إن دخل روما فاتحاً حتى انهال على رأسه المديح، واصفاً إياه بأنّه "أشرف الأشراف وأنبل النبلاء، لنتبرك كلنا، ولنتشرف كلنا بمقدمه. أبو الفضيلة، وبطل روما، من مثله يتمتع بالشجاعة والوطنية؟! من مثله يستحق عرش روما؟!"، وعلى النقيض من ذلك؛ أتت المبالغة في هجاء العبد الأفريقي الأسود، آرون، خادم وعشيق الأميرة تامورا، التي سعت إلى الجلوس على عرش روما أيضاً، حين قال عنه الرومان، بعد أن شعروا بأنّ العار قد لحق بهم حين أنجبت الأميرة منه طفلاً نصفه أبيض ونصفه أسود: "لتطبق العدالة على آرون، ذلك العبد الموري الملعون"، في حين وصفوا الأميرة نفسها بأنّها "خائنة روما، وأميرة العار، المقهورة، المنحطة، المحتقرة"، وربما تكون هذه المضاهاة الحادة هي التي أثرت على شكسبير فغالى، في وصف شرف الأسياد، ونزق العبيد، مثلما تجلى في مسرحيته "عطيل".
شبّه الباحث الأمريكي، سام لايث، الكلمات بالمسدسات المحملة بالرصاص، في معرض حديثه عنها كقوة ذات تأثير
ولم يكن الباحث الأمريكي، سام لايث، مبالغاً حين شبّه الكلمات بالمسدسات المحملة بالرصاص، في معرض حديثه عنها كقوة ذات تأثير، لكنّ رصاصها لا يجبر ويقهر، بل يقنع من ينصت إلى صوته المدوّي، وربما تكون هذه الصورة المجازية هي خلاصة تتبعه لفنّ الإقناع؛ من سيراكيوز القديمة في بلاد الإغريق، وصولاً إلى تجربة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مروراً بإنجلترا الإليزابيثية، وعالم ميلتون الشيطاني، وخطب الزعيم الأمريكي إبراهام لينكولن حول الحرية، وأخيار البلاغة الآخرين مثل: شيشرون، ومارتن لوثر كينج، وأشرارها مثل: أودلف هتلر، وريتشارد نيكسون.
وتبدو أطروحة كتلك معززة لتصور ينظر إلى الكلمات على أنها أساس تقنيات البلاغة الرئيسة الثلاث، التي شرحها أرسطو طاليس، وهي: منطقية الخطاب "اللوجوس"، وأخلاق المتكلم "الإيتوس"، وأهواء السامع أو حالته العاطفية "الباتوس"، وهي تقنيات توظف في عملية الإقناع، التي إن كان من الممكن أن تتم دون اعتماد على البلاغة، أو بالنزر اليسير منها، أو بالاتكاء على إثارة العواطف والحالات النفسية المتقلبة بين إقدام وإحجام، وحبّ ومقت، وانتقام وصفح، فإنّ المستوى الأكثر نضوجاً وديمومة وفائدة منها يعتمد على المنطق الذي يقنع الذهن.
وهناك عوامل مساعدة أو مصاحبة للبلاغة اللغوية والحجاج في جلب الإقناع منها مسافة الاتصال، فالمباشر منه أكثر إقناعاً من غير المباشر، وما يجري في مجتمعات القرابة، وعلاقات الوجه للوجه في القرية مثلاً، يختلف عن ذلك الذي يتم في مجتمعات الاغتراب بالمدن المتوحشة، وفي العالم المفتوح بفعل ثورة الاتصالات الرقمية الرهيبة، كما أنّ الإقناع أكثر حضوراً في المجتمعات الحرة عنه في غير الحرة، إلى جانب نصيب الحقيقة من الخطاب، فذلك الذي يتكئ على الحقائق أكثر إقناعاً، بالطبع، من الذي يخلو منها، أو لا يحفل إلا بالنذر اليسير منها.
السجال والمنافسة السياسية لا تخلو من المتطرفين الدينيين الذين يعتقدون أنّ مزيداً من الحدة مفيد لإخضاع الناس
وبحسب محمد علي صالح، الذي يقول في مقاله المهم: "الفصاحة من أرسطو إلى باراك أوباما"، فقد ازداد الميل إلى البلاغة التي تعتمد على الإقناع، لا الرطانة الضاجة بالمبالغات، مع تقدم العالم نحو احترام حقّ الشعوب في الفهم والمشاركة، الأمر الذي عكسته بعض خطب رؤساء أمريكا، التي حوت مبادرات مثلت علامات في التاريخ السياسي الأمريكي، مثل: خطاب الرئيس وودرو ويلسون مع نهاية الحرب العالمية الأولى، عام 1918، الذي طرح فيه نقاط ويلسون الــ 12 عن تقرير مصير الشعوب المستعمرة والمضطهدة.
وخطاب الرئيس فرانكلين روزفلت، عام 1932، عن المذهب الجديد حول حماية الشعب الأمريكي من جع الرأسمالية عام 1932. وخطاب الرئيس دوايت أيزنهاور، عام 1962، الذي ودّع به البيت الأبيض، وحذّره فيه من خطر المركب الصناعي العسكري على السياسة الأمريكية. وخطاب الرئيس جون كنيدي يوم تنصيبه، عن الآفاق الجديدة لجيل الشباب. لتأتي بلاغة أوباما، وتلعب دوراً مهماً في فوزه برئاسة أمريكا فترتين متتاليتين.
ومع هذا، فإنّ السجال والمنافسة والمماحكة السياسية لا تخلو أبداً من أولئك المتطرفين الدينيين، الذين يعتقدون أنّ مزيداً من الرطانة والحدة والجلبة، مفيد لإخضاع الناس لما يُقال، أو على الأقل، جذب انتباههم إليه، وهناك من السلطات المستبدة ما لا يعنيها إقناع سامعيها بما تتفوه به، بقدر ما تنشغل بالحصول على أطول فترة صمت ممكنة منهم، فمع غياب الخطابات البديلة، والمغالاة في النزعة الوطنية، والتجييش الدائم للجمهور أوقات الصراعات والحروب، تحفل خطب المستبدين بالمبالغات الشديدة، التي يضمنون ألّا يعقب الناس عليها، جهراً على الأقل.