عمار علي حسن يكتب: نظرية المقاومة.. من النفس والجسد إلى رفض الاحتلال
يدفع ما يجري على أرض غزة في أيامنا تلك إلى التفكير في مسار المقاومة، وجبهاتها المتعددة التي تبدأ من مغالبة شرور النفس، وتنتهي برفض احتلال الأرض، وسرقة القوت، مرورا بالتصدي للأفكار التي تشد إلى الوراء، ومناهضة الاستبداد والفساد، وصولا إلى النزوع العام بالانتصار للحضارة الإنسانية، لاسيما في أيامنا تلك التي وضعها موقف الغرب من القضية الفلسطينية في حرج بالغ، إن لم يكن أمام ريح عاتية فاسدة، للأسف الشديد.
إن الناس لا يسمعون كثيرا عن المقاومة إلا بعيد الحروب وأثنائها وأيام الاحتلال وكذلك في معرض الرد العملي على التسلط والاستبداد، مع أنهم لو أمعنوا النظر في حياتهم، وفي مفردات الطبيعة، وكل شيء يجري ويتم حولهم، بأيديهم أومن بصنع غيرهم، لاكتشفوا أن الحياة نفسها خيار ناصع جلي للمقاومة. فنحن نحيا لنقاوم الفناء، ونتوالد ونتكاثر لنقاوم الانقراض، ونتكلم لنقاوم الصمت، ونتعلم لنقاوم الجهل، ونتداوى لنقاوم المرض، ونكدح ونكسب لنقاوم الفقر والعوز، ونفرح لنقاوم الحزن، ونعمر لنقاوم الخراب، ونبني لنقاوم الهدم، ونجمل أنفسنا وما حولنا لنقاوم القبح، ونقبض على الحق لنقاوم الباطل فيزهق أو يتقهقر، ونفعل الخير لنقاوم الشر الطافح في كل مكان وفي أي لحظة.
وجسدنا نفسه يقاوم بعضه بعضا، فالمخ يكبح جماح الغرائز والعواطف إن تعدت حدودها الطبيعية، والعاطفة تناضل ضد التبلد والتحجر الذي يجعل الإنسان يشبه الجماد، وضد التجرد الذي ينزع عن الإنسان مشاعره الفياضة ويحوله إلى آلة، وجهاز المناعة يقاوم المرض، فتدخل كرات الدم البيضاء في معارك حامية ضد الميكروبات والجراثيم حتى تتغلب عليها أو تهلك دونها، والكبد يكافح ضد السموم التي تتسرب إلى الجسم مع المأكولات والمشروبات والتنفس، والإرادة التي هي طاقة تمتزج في صناعتها كل قوى الجسد، المحسوسة واللامحسوسة تقاوم أسباب القعود والرضوخ والتراخي والتفلت كافة.
وكل تقدم حققه الإنسان في هذه الحياة قام على أكتاف المقاومة، التي تبدأ بكلمة "لا" الرافضة لقبول الأمر الواقع إن كان متخلفا أو مهينا أو كريها. وكل ما يجري حولنا نبت من رحم المقاومة، فالإنسان قاوم التصاقه الدائم بالأرض وجاذبيتها القوية فحاول أن يطير، وراح يجرب الطيران من دون كلل ولا ملل، ابتداء من عباس بن فرناس الذي ثبت أجنحة في جسده وانتهاء بالمركبات الفضائية التي تجول على الكواكب مرورا بالأخوين رايت اللذين اخترعا طائرة بدائية بسيطة، ها هي تتطور حتى تصل إلى الحال التي هي عليه الآن، في مقاومة لسلطان المكان على الناس. وقاوم الناس المسافات الطويلة بين القارات الست بثورة عارمة في مجال الاتصال، حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة.
وبالطريقة نفسها تقاوم كل الكائنات، فالنمل يقاوم البرد بتخزين قوته أيام الصيف، والأرانب البرية تقاوم أعداءها من الحيوانات المفترسة بحفر الجحور الطويلة في الأرض، والقنفذ يقاوم بشوكه الأفواه المتأهبة لالتهامه، والسلحفاة تقاوم بجلدها السميك، ويقاوم الجمل نعومة الرمل بخفيه الطريين المفرطحين القويين في الوقت نفسه، وفي المياه الدافقة تقاوم بعض الأسماك الصغيرة والرخوة بضخ شحنات كهربائية تبعد عنها الأسماك الكبيرة، أو تحتمي بالصخور البحرية المستقرة في الأعماق.
والأمر نفسه ينطبق إلى حد بعيد على الجماد، فالشادوف يمتلئ بالماء ويقاوم كتلة الحجر المثبتة في الطرف الآخر، وهذه الحال متكررة في كل الروافع، فهناك ذراع القوة وذراع المقاومة، وكلما كان الأول أقصر من الثاني سهلت المهمة على الإنسان، والعكس صحيح تماما، وتتعدد أنواع هذه الروافع، فتتوزع عليها الأدوات والآلات التي نستخدمها في حياتنا اليومية، وتقع عليها أعيننا في كل مكان، وفيها جميعا تتجلى كل معاني المقاومة.
والحياة كلها يترتب بعضها على بعض أو يقاوم كل منها الآخر، فيدفع الله الناس بعضهم ببعض حتى لا تتهدم صوامع وبيع، وتتغذى الحيوانات في الغابات على بعضها البعض، وكذلك الحشرات والطيور والزواحف، حتى لا يختل التوازن البيئي، ويتدخل الإنسان ليحمي الأرض الخصبة من التصحر، ويمنع الأطعمة من التعفن بالتبريد والتمليح والتسكير والتجفيف والتدخين والتخليل. وهناك قول مأثور منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يجيب فيه عن سؤال حول أشد جند الله فيقول: الجبال، والجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، فالنار أقوى، والماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى، والإنسان يتكفؤ الريح بيديه وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان، فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم، فأقوى جند الله الهم يسلطه الله على من يشاء.
وهذا الترتيب العجيب الذي يتداخل فيه المادي مع المعنوي يتأسس على المقاومة، فكل شيء يدفع ما قبله، في سلسلة قد تستدير في حياتنا الدنيا ولا تنتهي، إذ يمكن مقاومة الهموم بالاستغراق في عمل مضن وشاق، ينجذب إليه كل كيان الإنسان تماما، وقد يكون هذا العمل هو تفتيت الصخر، وتكسير الأحجار، كما يفعل السجناء، فنعود إلى النقطة الأولى، ونبدأ منها دائرة دنيوية جديدة، تنطوي على أشكال وصنوف ودرجات لا تنتهي من المقاومة.
إن مفهوم المقاومة على اتساعه، يجب أن يناقش الكثير الأشكال الأخرى لها، والمهملة في حياتنا الفكرية والعملية على حد سواء، بدءا من المقاومة بالمنهج، أو إيجاد طرق تفكير تلائم واقعنا، وحتى المقاومة الحضارية، التي تبحث عن مقاربة لبناء حوار حضاري فاعل وخلاق، مرورا بالمقاومة الحذرة أو التحايلية، والمقاومة المدنية التي تبدأ من الغمغمة وتنتهي عند العصيان.
ولعل الفلسطينيين في كفاحهم الذي يربو على قرن من الزمن، قد مارسوا كل هذه الأشكال، ابتداء من الآداب والفنون التي تحمل همومهم، والاعتصام بالفكرة الوطنية، وإنعاش الذاكرة بالوقائع والأحداث التاريخية، والتمسك بالأرض ورفض الاقتلاع منها، وصولا إلى حمل السلاح دفاعا عن النفس والأرض.