عمار علي حسن يكتب: أدبيات حسن البنا السياسية (1/3)
لم يكن حسن البنا (1906 ـ 1949) مؤسس جماعة "الإخوان المسلمون" عام 1928 مفكرا سياسيا بأي حال من الأحوال، فالمعروف عنه، والمشهود له، بشكل عام، أن "التنظيم" لديه أولى وأهم من "التفكير"، وأن كثيرا من الآراء السياسية التي حملتها كتاباته كانت إما تصورات عامة، تفتقد إلى الرصانة والعمق والعمومية التي يتسم بها ما أنتجه وأبدعه من اصطلح على وصفهم بالمفكرين السياسيين في تاريخ المجتمعات الإنسانية، وإما تعليقات على مواقف ووقائع جارية، أو حديث قصد به تحقيق بعد أهداف الجماعة وتأدية دورها سواء لحسابها أو لصالح قوى ورموز سياسية وظفت الإخوان، وعولت عليهم، سواء خلال سنوات ما بعد النشأة في ثلاثينيات القرن العشرين، أو في سنوات استعادتهم خلال سبعينياته، أو رد فعل على انتقادات وجهت إلى آراء الجماعة وتصرفات أتباعها.
وفي أغلب ما ورد عنه، أو نسب إليه، يغلف البنا تصوراته السياسية بإنشائية وخطابية ظاهرة، تفتقد إلى ما يقتضيه العلم من نسبية وتحديد وقابلية للاختبار، الأمر الذي يجعلها تقترب من الدعاية السياسية وليس من الآراء الفقهية ولا النظريات والأفكار السياسية.
كما تتصف هذه الآراء بقدر ظاهر من العمومية بهدف جمع أكبر عدد من الناس حولها، وبالتالي فهي أشبه بأفخاخ تستعمل الدين قناعا أو غطاء ليقع فيها كثيرون.
ومع ذلك ظلت هذه الأفكار حول الدولة والسلطة والأحزاب والهوية والعالم والآخر ترفد الجماعة بإطار يحكم حركتها طيلة تاريخها، تعود إليه لتغرف منه ما تناسل من أفكارها، أو تقوم بتفسيره وتأويله، وتستشهد به، وتقتبس منه، الكثير من المقولات والعبارات التي تجند بها الأتباع، وتحافظ على تماسكهم، أو ترد به على من يقدحون فيها، أو تسوى به الخلافات التي تنشب بين حين وآخر في صفوفها، وتلتف عليها أو تتجاوزها أو تتفادى آثارها التي كان من الممكن أن تؤدي إلى تصدع الجماعة، ووقف تمددها، أو خفض منسوب وجودها وتأثيرها في المجال العام.
وقد صعدت هذه الآراء في خطاب الجماعة إلى درجة أنها صارت المعيار الأول للحكم على كل شيء، بل وصل الأمر بها إلى أنها تَجُبُ كل ما عداها سواء لفقهاء وفلاسفة وعلماء كلام ومفسرين ومتصوفة حفل بهم تاريخ المسلمين على مدار أربعة عشر قرنًا، أو نظرائهم ممن يعيشون بيننا، وبعضهم يرفض المشروع السياسي لجماعة الإخوان رفضا تاما، بل إن الجماعة طوعت تأويلات النصوص الأساسية للإسلام وهي "القرآن الكريم" و"الحديث الشريف" لخدمة تصورات البنا وآرائه طيلة الوقت.
وتتناول هذه الدراسة نقاطا محددة ركزت عليها الأدبيات السياسية للبنا، بوجه عام، وهي:
1 ـ معنى الدولة ووظيفتها: حيث التصورات التي تتحدث عن شكل الدولة، ووظائفها المادية والرمزية، والموقف من "الدولة الوطنية" الحديثة، وصورة ومسار الدولة البديلة التي رآها البنا وعمل إلى إقامتها والحفاظ عليها، ووافته المنية قبل تحقيق هدفه هذا.
2 ـ الموقف من السلطة وسبل حيازتها: وهنا يتم النظر في تصور البنا عن قضية الشرعية والمشروعية، ودور الدين في صناعة النظام القانوني والاجتماعي والتنظيم السياسي، وسعي البنا، من خلال تكوين جماعة الإخوان، في الوصول إلى السلطة السياسية.
3 ـ قضية الهوية والتمسك بها: وهي من القضايا التي كانت ولا تزال تحكم أفكار جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات والتنظيمات التي تسعى إلى تحصيل السلطة السياسية والثروة الاقتصادية، وتشكل، كذلك، جوهر انشغال العديد من التصورات والأيديولوجيات التي يتبناها كل من يشتغلون بالسياسة حتى بمن فيهم من ينتمون إلى التيار المدني.
4 ـ رؤية الآخر: وهي تتعلق بكل أصناف هذا "الآخر" سواء كان هو المسلم من غير المنتمين للجماعة أو من يعتنق دينا آخر غير الإسلام، وقد يكون فردا أو هيئة أو جمعية أو حزبا سياسيا، وسواء كان من أبناء الوطن أو من الأجانب المحتلين، نظرا لأن آراء البنا أُبديت وتمت في ظل احتلال مصر من قبل الإنجليز. وهنا يمكن التطرق أيضا إلى موقف البنا من العالم وعلاقات الدول، وذلك في ظل سعي الإخوان إلى ما تسمى "أستاذية العالم" وهو ما جعل الجماعة تعمل على التمدد في البلدان كافة، لتصنع شبكة موازية في العلاقات الدولية لتلك الرسمية التي تقيمها الدول.
وهناك إطار عام يحكم الرؤية السياسية للبنا، يمكن تحديده في النقاط التالية:
أ ـ الأصول العشرون: وهي عبارة عن بعض القواعد التي تضبط التفكير والحركة الدينية، وتنبني بالأساس على مزيج من التصوف، حيث كان البنا ينتمي في بداية حياته إلى الطريقة الحصافية، وبين السلفية التي رسخت كتابات رشيد رضا لها في المجال العام للحركة الإسلامية المسيسة.
وهذه الأصول تتسم بأنها عريضة وواسعة، إذ تبدأ بنقد ما يسرده البعض عن عالم الرؤى والأحلام ثم الهجوم على كل ما يأتيه الناس من التمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب.
وتنتهي باتباع الإمام، وتحديد من ينطبق عليه حكم الكفر، مرورا بالحديث عن "شمولية الإسلام".
وتعطي هذه الأصول لرأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه سلطة اختيار، وإقرار الأحكام وفق الظروف والعرف والعادات فيما لا نص فيه أيضا، وتذهب إلى أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وتطالب كل مسلم بأن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في التعرف على أدلته، وأن "الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا، ثم تتناول بعض الجوانب العقدية مثل الإيمان بالآيات المتشابهة من غير تعطيل ولا تأويل وموقفهم المناهض للبدع في الدين".
ويرى البنا أن "العرف الخاطئ" لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها، والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء.
وينظر إلى العقيدة على أنها أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعاّ وإن اختلفت مرتبتا الطلب.
ويرى أن الإسلام يحرر العقل ويحث على النظر في الكون ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح والنافع من كل شيء، ويرى أن النظر الشرعي والنظر العقلي لن يختلفا في القطعي، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.
وتنتهي الأصول بتحديد الموقف من مسألة التكفير حيث يقول البنا: "ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض ـ برأي أو بمعصية ـ إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة, أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر"، وبذا يكون البنا قد فتح الباب واسعا أمام التكفير، ولا يقلل من هذا قوله بأن الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب.
ويرى البنا أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو "دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء. ويجعل من القرآن والسنة هما مرجعية كل مسلم".
ورغم أن أغلب جوانب هذه الأصول لا تمس السياسة مسا مباشرا، فإنها تشكل في كليتها إطارا عاما ظل يحكم تصورات البنا، والجماعة من بعده.
وإن كان هو أو جماعته قد خرجا عن تلك الأصول لأسباب فرضتها الظروف، وكانت في جلها سياسية، فإنه، ومرشدو الإخوان من بعده، ظلت لديهم القدرة الدائمة إلى الإضافة والحذف والتأويل حسب مقتضى المصلحة السياسية، بل إن الجماعة أعادت كتابة تاريخ البنا وسيرته بما يتماشى مع ما يحقق مصالحها المتغيرة.
وقد حاول البنا أن يجعل شمولية الإسلام متجسدة في جماعته، فوزع انشغالها واهتماماتها على مختلف المسارات أو المجالات الحياتية التي يعتني الإسلام بها. بينما هناك تصورات أخرى، تقوم في أساسها على نقد الادعاءات الظاهرة في مشروع جماعة الإخوان، بينت بشكل جلي أن الشمولية يجب ألا تكون مركوزة في جماعة واحدة، إنما يراعي أصحاب كل تخصص أو مسار حياتي أو نشاط دنيوي قيم الدين وتصوراته في التفكير والتدبير، كل في مجاله.