هشام النجار يكتب: هل يبيح توحش إسرائيل التطرف الإسلامي؟
في البداية لنا أن نعرف أن التطرف هو عينه ما تريده إسرائيل ليس فقط لتبرير وحشيتها وعنصريتها إنما لتبرير وجودها ككيان ديني متطرف.
إسرائيل تريد أن تكون محاطة بكيانات متطرفة دينيًا لتشرعن مشروع يهودية الدولة أمام العالم، زاعمة أنها تطبق سياسات التهويد والتهجير لأنها مستهدفة من منطلق يهوديتها وليس من منطلق عدوانها على الأرض والبشر.
وهي في حاجة دائمة للتطرف المضاد (التطرف الإسلاموي) ليشق الصف الوطني الفلسطيني ويجعله دائمًا منقسمًا مشتتًا يستعصي دومًا على الوحدة والتماسك وبالتبعية يفتقر للانجاز الحقيقي على الأرض، كما أن هذا التطرف هو القادر دومًا على تفجير الدول وتقسيمها مذهبيًا ودينيًا وتحويل دول عربية إلى فاشلة، ما يصب في مصلحة إسرائيل.
المقاومة الحقيقية المنجزة هي المتسلحة بالقيم والمبادئ مهما توحش الخصم ومهما ارتكب العدو المحتل من مخازي ومذابح، فلا يبيح توحشه توحش المقاومين، وليس معنى أنه تورط وارتكب مذابح ضد المدنيين أن ينتقم المقاوم بالمثل، إنما يظل محافظًا على سمعة دينه ونقاء مقاومته وشرف سلاحه.
من يقاوم على الحقيقة، وأعني المقاومة الشاملة ذات الفعالية التي تمكن الأمة من استخلاص حقوقها وتحقيق ذاتها بشتى الوسائل المتاحة، بعيدًا عن الشعارات الفارغة والعنتريات البائسة هو من يعمل جاهدًا على تنظيف الفوضى التي نشرتها ميليشيات تكفيرية مسلحة بالعمق العربي، ليعود العرب بدولهم ومجتمعاتهم أقوياء مترابطين.
المقاومون الحقيقيون من العرب هم من يتخذون كل ما يلزم من تكتيكات ومناورات ومبادرات، لا فقط لصد وكبح مشاريع جماعات الإرهاب والتكفير، بل لإقصاء تلك المشاريع المَرَضية التي أصابت منطقتنا ومحيطنا بالتخلف والتقزم والتشرذم، بعد أن ثبت بالتجربة أنها فقط تدمر وتخرب ولا يمكنها البناء.
المقاومون الحقيقيون من العرب هم من يعممون نموذج للتطور في منطقتنا يشمل للبعد الحضاري من خلال تطبيق قيم الإسلام المعتدل من تسامح وتعددية عقائدية ومذهبية تحت مظلة المواطنة، وهو التمهيد الطبيعي للتفاعل مع العالم المتقدم وتبادل الخبرات الإنمائية وتقنيات القوة البشرية، علاوة على امتلاك القوة التكنولوجية والعسكرية التي تمتلكها القوى الفاعلة والكبرى بالنظام الدولي الحالي وهو ما يجري الآن عبر الاختراق العربي لتلك المنظومة، ذلك لأن المرحلة القادمة لن يكون فيها مكانًا للضعفاء في ظل سيادة تحالفات وتحكم قوى جديدة، فإما أن ننافس ونفرض وجودنا في مستقبل مختلف، أو نبقى تحت رحمة قوى تنهش الضعفاء.
أما جماعات التطرف والإرهاب فقد أعادت بلادًا بأكملها سنوات للوراء وأحرقت مدننا العظيمة ولم تحرر سنتيمترًا واحدًا من فلسطين.
وفرت جماعات التطرف (الإسلاموية) مثل الإخوان والقاعدة وداعش لإسرائيل والغرب ما يحتاجونه تمامًا ووظف الإرهاب قديًما وحديثًا كأساس ومنطلق لسياسة إرهاب الدولة التي تنتهجها أميركا وإسرائيل على الحلبة الدولية، ووُصفت الدول العربية بكونها بؤر الإرهاب والتخلف والهمجية لتختفي مشاعر التعاطف والتضامن مع القضايا العربية وفي مقدمتها قضية الفلسطينيين في نضالهم لتأسيس دولتهم المستقلة، وصار العالم ينظر للغزوات الخارجية والهجمات على المدن العربية وصولًا لما يحدث بسوريا وحتى بغزة ك(ضربات مشروعة وكتدخل مشروع).
التاريخ مترابط وما فعلته إسرائيل في لبنان بهدف تفكيكه وتحطيمه وشحنه بالصراعات الطائفية بتسليح جميع المجموعات المسلحة رعته بمناطق أخرى، والهدف واحد: إكمال الشكل الطائفي بالداخل العربي لترفض إسرائيل مطالب إنشاء دولة جامعة في فلسطين يتعايش فيها المسلم والمسيحي واليهودي، بديلًا عن مشروع دولة اليهود وحدهم، وقد عملت إسرائيل على ترسيخ واقع على الأرض العربية يثبت للعالم نظريتها حول عدم إمكانية وجود مجموعات تنتمي إلى عدة قوميات وطوائف ضمن ديمقراطية واحدة.
تلك هي الخطة التي وضعتها إسرائيل منذ البداية وتعمل من خلالها تلك التنظيمات بالعمل على زيادة التوترات والتناقضات الطائفية وتقويض النظام العربي بتوظيف التناقضات الدينية، وذكر في كثير من الدراسات والمؤلفات أن تنظيمات الإسلام السياسي سيكون لها دور لتحقيق الهدف، ليضعف الموقف العربي، وتتراجع قدرات النظام العربي في انتزاع حقوق يؤمن بها ويناضل من أجلها لكن يعوقه واقع وظروف خططت لها إسرائيل وأنضجتها ممارسات الإسلام السياسي.
منطق إسرائيل في استهداف المدنيين هم نفسه منطق جماعات التطرف والتكفير في البلاد العربية والعالم مثل تنظيم القاعدة غيره ولتلك التنظيمات كتاب مرجعي عنوانه (إدارة التوحش)، وكما لا تعبر إسرائيل عن روح اليهودية وجوهرها، لا يعبر هؤلاء عن الإسلام الذي يقرر أنه لا تزر وزارة وزر أخرى وينهى عن قتل نفس بشرية واحدة، ولذلك ظلت تلك التنظيمات تعبر عن أقلية تعتنق فكرة غريبة لا تتسق فقط مع الإسلام بل مع التفكير السوي.
السؤال الآن: هل هناك في الإسلام ما يجيز منطق الغدر حتى لو برره بعضهم بأنه رد على غدر الأعداء؟
الإجابة: هناك أساس منهجي بالغ الأهمية في ديننا وهو ضرورة التعامل مع الواقع بمرجعية قيمية وأخلاقية ثابتة إبتداء مهما كان ينبغي التمسك بها فلا خيانة للأمانات ولا نكوص بالعهود ولا إخلال بالكرامة الإنسانية وآدمية البشر ولا اعتداء على الحقوق والممتلكات والأرواح ولا استغلال لضعف الآخر بالإمعان في إذلاله وامتهانه أو السخرية منه، ولا سب ولا سخرية من معتقد الآخر أو رمزه الديني، وهي الفلسفة القرآنية السامية التي أجملها ربنا في قوله "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله".
المنهج الذي اتبعه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، في نفس الوقت الذي حافظ فيه على الثوابت والقيم العليا والمبادئ الأخلاقية العامة حتى لايرد الآخر الإساءة بإساءة وفق تعاليم القرآن، مع ذلك ضبط صلى الله عليه وسلم ردود أفعاله ولم يرد التجاوز بتجاوز مضاد حفاظًا على نصاعة المنهج وعلى نقائه وسمعته، ومع ذلك تحلى بالمناورة اللطيفة التي تقيه الهزائم والسقوط والوقوع في فخاخ الماكرين.
إذا خان العدو العهد فلا يخون المسلمون انتقامًا وثأرًا وذلك للحفاظ على ثوابت المنهج، وإذا تدنوا إلى الممارسات البغيضة التي تحط من قدر الإنسان وتنتقص من كرامته وتنتهك حرمته فلا يكون الرد بالمثل، انتصارًا لثوابت الإسلام وإبقاءً على نصاعة منهجه ونقائه وإعلاءً لأخلاقياته وقيمه.
لو كان الغدر جائزًا في الإسلام ردًا على غدر وخسة الخصوم لجاز للرسول صلى الله عليه وسلم ردًا على غدر الكفار به ومحاولتهم اغتياله وطرده من بلده، وقد كانت الدعوة الإسلامية والدولة الوليدة في بدايتهما وفى أمس الحاجة للدعم المادي، ورغم ذلك حرص الرسول على رد أمانات الخصوم التي كانت مودعة لديه قبل الهجرة الاضطرارية، ولو أراد لاحتفظ بها تأمينًا لدعوته ودولته الوليدة، لكنه تجاوز هذه الاعتبارات والمصالح المتوهمة تقديمًا للمصلحة العليا الثابتة، وهى مصلحة المنهج حتى لا يلوث بما ينتقصه ويشينه أو يخصم من قدره ومكانته، فليست هناك أي ظروف أو تحديات قاهرة تبرر التخلي عن تعاليم المنهج وأخلاقياته وثوابته؛ لأن هذه التعاليم والأخلاقيات والثوابت في ذاتها هي ضامن بقائه وصموده، فإذا سقطت سقط وتهاوى.
الشواهد كثيرة والرسول صلى الله عليه وسلم حرص على الوفاء بالعهد ولو للأعداء الذين تجاوزوا في حقه وسعوا للإيقاع به، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنى خرجت أنا وأبى حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا" -أي تريدون معاونته وتسعون للقتال في صفه-، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا.. نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم".
مهما كانت خطايا الأعداء وجرائمهم حتى في الحرب لا يتورط قائد كيان أو رب أسرة أو مدير مؤسسة أو قائد مقاومة في فعل أو رد فعل من شأنه الخصم من ثوابت المنهج الإسلامي النقي أو إعطاء الفرصة للآخر في الانتقاص منه وتشويهه والإساءة إليه، إنما الواجب هو الحفاظ على الثوابت والأصول والأخلاقيات والمبادئ، مع الاجتهاد في الدفاع والنضال بما شرع الله وبما أراد وبالتوكل عليه سبحانه، كما قال الرسول الكريم (نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم).