هشام النجار يكتب: البوطي والقرضاوي.. علاقة العلماء بالرؤساء

ذات مصر

لم يتمكن أصحاب (القوة) في أعظم جيل بمفردهم وكذلك لم يتمكن أصحاب (الأمانة) بمفردهم، لذلك اشتكى الفاروق عمر رضى الله عنه من (جلد الفاجر وعجز التقي).

وضعها ابن تيمية رحمه الله بمثابة القانون، أنه من النادر جدًا أن تجتمع في شخص واحد الميزتان اللازمتان للحكم والقيادة وهما القوة والأمانة، يقول –في كتابه الخلافة والملك- عن الفاروق: (كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة في عمله ثم يزيل فجوره بقوته وعدله).

وبمراجعة نموذجي خالد بن الوليد وأبي ذر نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار خالدًا نظرًا لقوته رغم عدم رضائه عن كثير من أفعاله وإتيانه بأمور ينكرها، وأبو ذر أفضل منه صدقًا وورعًا وأمانة ومع هذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم (يا أبا ذر انى أراك ضعيفًا).

عثمان رضى الله عنه كان أمينًا ورعًا لكنه لم يكن قويًا، وبتعبير ابن تيمية (فآنس فيه بعض الطامعين ضعفًا فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا وضعف خوفهم من الله ومن ضعفه هو وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلومًا شهيدًا)، نعم هو مظلوم وشهيد لكن ضعفه خلق فتنة.

لذلك حرص الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي منذ البداية على تحقيق التوازن المنشود والتكاملية المأمولة بين الدعاة والعلماء من جهة والسياسيين والقادة من جهة وبين الدعوة والدولة لتقوى الأوطان بالقوة والأمانة معًا وتتماسك في مواجهة تحدياتها الخارجية.

في العام 1980م ألقى البوطي كلمة جامعة دمشق في مهرجان خطابي دعت إليه وزارة الأوقاف السورية بمناسبة دخول القرن الخامس عشر الهجري برعاية وحضور الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكانت حوادث الفتنة والاشتباك بين الإخوان والسلطة آنذاك على أشدها، حيث امتثل البوطي لأوامر والده الذى كان يرى ضرورة نصيحة الحاكم ما أمكنه، فكانت النصيحة هي الغالبة على كلمته التي نالت إعجاب كبار المسئولين في الدولة، بينما سخطت عليها جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ومؤيدوها وعمدوا للانتقاص من قدره ومكانته، واعتبروا – كعادتهم – ما قام به تملقًا للحاكم ليحظى بمنصب أو هبة مالية!
خيار البوطي هو خيار الدولة والمصلحة العامة ومصلحة أوطان الإسلام بصرف النظر عن اسم هذا الحاكم أو ذاك، أو مكانة هذا الرئيس أو ذاك، وهو خيار الصبر على بعض المظالم والتجاوزات تقديمًا لمصلحة الاستقرار والأمن مع بذل النصح والقيام بواجب المشورة، وهو خيار(الصبر الاستراتيجي) المثمر الذى التزمه مالك بن أنس وقبله عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، الذي سُئل عن ظلم الحجاج بن يوسف الثقفي، فقال فيما رواه البخاري عن أنس: (اصبروا فانه لا يأتي زمان إلا والذى بعده شر منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم).

منهج الشيخ يوسف القرضاوي هو استنساخ لخيار الحسين رضى الله عنه بدون وعي بدروس التاريخ، واستيعاب لتجارب الأمة وعلى رأسها تجربة الحسين ذاتها، والحسين هو الذي أقر لاحقًا بأن خياره في الخروج مبني على خيال ومجرد أمنيات بأن ينصره أهل الكوفة الذين وصفهم والده رضى الله عنه بـ(السهم الأخيب)، وليس مبنيًا على حقائق ملموسة واقعية على الأرض.

حاول نفر من المسلمين منع الحسين من الخروج بالقوة حتى وقع بينهم ضرب بالعصا والسياط فضلًا عن محاولات كبار الصحابة لمنعه وإلزامه بالمكوث والاشتغال بالدعوة والعلم والتربية والهداية – وهو الطريق الذي اختاره علماء الأمة العظام- ، كدليل أنه كان تصرفا فرديًا أو اختيارًا لأقلية داخل مجموع الأمة.

كشاهد على أن التيار الغالب قد رأى أن المصلحة تقتضي عدم الخروج وتصعيد النزاع على السلطة إلى المستويات التي وصل إليها لاحقًا مع بذل الجهد في التصحيح والإصلاح والتغيير بالأدوات المتاحة التي تسد منافذ الفتن والفوضى وتدعم تطوير المجتمعات الإسلامية ثقافيًا وحضاريًا وعلميًا.

يستحضر البوطي ويتقمص نماذج المؤرخ بهاء أبو المحاسن يوسف بن شداد ( 539- 632 هجرية / 1445 – 1234م ) والفقيه ضياء الدين عيسى بن محمد الهكاري ( توفى 585 هجرية ) والمؤرخ المعروف عبدالله بن محمد الأصفهاني المعروف بالعماد الكاتب ( 519 – 579 هجرية / 1125 – 1200 م ) من ضمن العلماء الذين تكاملوا ودعموا جهود صلاح الدين الأيوبي الذى سار على درب عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، في فتوحاته وانتصاراته وتوحيده للأمة ورده لاعتداءات الصليبيين وتحرير أراضي ومقدسات المسلمين، فما كانت هذه الإنجازات لتتحقق إلا بوقوف العلماء والدعاة بجانبه، وبالتكامل بين العلماء والحكام والقادة.

ولو كانت الأمة متصارعة متناحرة يقتل بعضها بعضًا ويحشد هذا أعوانه وذاك داعميه للقتال والتنافس على السلطة والحكم لما تحققت انتصارات ولما صمد العرب والمسلمون أمام التحديات.
أيضًا تقمص البوطي وانتهج نهج العلماء الكبار في العصر المملوكي، حيث كان سلاطين المماليك الذين نشأوا نشأة عسكرية لا يعرفون بأحكام الشريعة الإسلامية ولا وسائل تطبيق تلك الأحكام ولم يعرفوا من مبادئ الدين سوى ما تلقوه من مبادئه الأولى في شبابهم الأول.

وعلى رأس هؤلاء العلماء عز الدين بن عبد السلام (سنة 660 هجرية) وأحمد بن عبد الحليم بن تيمية (728 هجرية)، فكان نتاج هذا التكامل والتعاون تماسكًا للأمة وانتصارًا لها على أعدائها والمعتدين عليها.

ونجح بنفس المنهج المرابطون الصنهاجيون في المغرب العربي الإسلامي (430 – 540 هجرية) في إقامة دولة المرابطين، من خلال تجربة رائعة للتكامل بين السياسة والدعوة، بتعاون عبد الله بن ياسين - داعية وعالم ذلك الزمان والملقب بمحيي السنة وقامع البدع - ، مع رجال الدولة والحكم أمثال يحيى بن إبراهيم ويحيى بن عمر وأبو بكر بن عمر اللمتونى ويوسف بن تاشفين، ونتج عن هذا التكامل إسلام شعوب التكرور بغرب أفريقيا وهم أول من دخل الإسلام من الزنوج ومن خلالهم انتشر الإسلام بين قبائل أفريقيا.

وكذلك تجربة التكامل التي دشنها العالم النيجيري الشهير عثمان بن فودى (1166- 1233 هجرية) (1752م – 1817 م)، واستجابة حركته الدعوية للتعاون مع حكام وقادة الدولة مما أثمر رخاءً في الدعوة والتنوير ومشروع الهداية وأيضًا قوة للدولة والأمن والاستقرار معًا.

وفى الهند كانت عوامل القوة والنهضة متمثلة في التجربة التكاملية بين الدعوة والدولة والتي كان بطلها الشيخ أحمد السرهندي (971 – 1034 هجرية) الذي كافح تيار الإلحاد بوسائل سلمية وبتدشين تجربة تكاملية جمعت جهود الدعوة والدولة معًا لنصرة قضايا الأمة والمجتمع مع السلطان نور الدين جهانكيز، وقد لخص الشيخ السرهندي عوامل نجاح رجل الدعوة في عاملين أساسين؛ أحدهما: تملك الفكرة وسيطرتها على نفسه، والثاني: التجرد عن المطامع الدنيوية والزهد في المناصب والملك. 
منهج التكاملية المثمر الإيجابي الذى انتهجه العلامة البوطي هو منهج غالبية أئمة المسلمين وعلمائهم على طول التاريخ؛ بأن يباشر أهل السياسة والحكم والقيادة مسؤولياتهم في إقامة العدل وحماية الحقوق والحريات وحفظ الأمن والدفاع عن الأوطان والمقدسات والثروات والمصالح العامة والخاصة، وأن يباشر العلماء والدعاة مهامهم في التربية والدعوة وتوعية الجماهير وتثقيفهم وإنارة عقولهم وحشد طاقاتهم المعطلة للإنتاج في أوجه الخير والإصلاح والمعروف والتكافل، وأن يقوموا بواجب إسداء النصح للحكام دون منازعة أو تحريض على عنف أو تجاوز للحدود.

النصح والنقد من قبل العالم للحاكم لابد وأن يكون إيجابيًا موجهًا نحو الإصلاح، لا الإفساد والتخريب والقتل والاغتيالات وإثارة الشغب والقلاقل وتحريض العامة على التمرد والعصيان.

لابد وأن يعي من تأثروا سابقًا بنهج وطريقة الشيخ القرضاوي بأن لرفع المظالم أصولًا وضوابط، وأن للإصلاح والتغيير مسالك منضبطة بالشرع ومراعية للواقع ومصالح الأمة ودولها وأوطانها.

يجب أن يعلموا أن الأمة بحاجة لطاقات وجهود وإبداعات مصلحيها ومربيها ودعاتها ومفكريها وعلمائها وشبابها، وكذلك لجهود وإبداعات وطاقات قادتها ورموزها من سياسيين وعسكريين، وبحاجة لكل تياراتها وانتماءاتها الفكرية والعقائدية، لتبقى حية منتجة متعاونة ومتضافرة في سبيل نهضتها، لا أن نضرب هؤلاء بهؤلاء ونسوقهم جميعًا في مواجهة بعضهما البعض في ساحات الاقتتال والاحتراز.

يجب إعادة تقييم تجربة القرضاوي وتياره وتجربة مختلف حركات التمرد على الحكام وعلى الدول ومؤسساتها وما سببته من حصد لأرواح خيرة أبناء الوطن سواء من الدعاة والمتدينين والشباب الصغير المتحمس غير المدرك لأبعاد القضايا السياسية وخلفياتها بشكل كامل وشامل، أو من المنتسبين للدولة والمدافعين عن حدودها وأمنها ومؤسساتها ورموزها من سياسيين وعسكريين وقضاة.

إذا استعرضنا أسماء وسير من سقطوا في تمرد المدينة على يزيد ابن معاوية نجدهم صفوة الأمة وخيرة أبنائها.
وإذا استعرضنا أسماء وسير من سقطوا في سوريا فقط خلال هذا التمرد الذي أسهم فيه الشيخ القرضاوي بآرائه وفتاويه الحادة ضد الحكام، واستغل رغبة بعض المخلصين وسعيهم السلمى لبعض الإصلاحات السياسية والدستورية ليحقق رغبات ومطامح أكبر من حدود الإصلاحات المشروعة وأوسع من حدود سوريا حيث تتلاقى مع مصالح قوى إقليمية ودولية، فسنجدهم أطهر وأروع أبناء هذا الوطن وأنبغهم وأكثرهم وطنية وحباً لبلده وحرصًا على دينه وأمته.
إذا كان الإسلام الحنيف يرى أن ترك الصلاة خلف الفاسق بدعة ويؤدى إلى الفرقة والتشرذم، فما الظن بما يسبب فرقة الأمة بأكملها وتشرذمها من منطلق مزاعم الخروج على (الحكام الظالمين) وتحت دعاوى الإصلاحات ونيل الحقوق؟
فما حكم الإسلام الذى يقدم مصلحة الأمة ومصلحة تماسكها وترابطها ووحدتها على المصالح الحزبية ومصالح الجماعات والتيارات في نهج الشيخ الراحل القرضاوي الذى هيج الشعوب العربية على حكامها وأنظمتها ودولها، خاصة أن هذا النهج جر على الأمة الويلات والفتن والفوضى والانقسامات وبحور الدماء وسقوط الدول وتقسيمها، سعيًا لاستحواذ تيار بعينه على السلطة وسيطرته على الحكم بشكل متزامن في مختلف البلاد العربية؟

[email protected]