هلال عبدالحميد يكتب: سعر القمح وقهر الفلاح.. لماذا تعشق الحكومة استيراد القمح ؟!

ذات مصر

(القمح الليلة الليلة ليلة عيده 
يا رب تبارك تبارك وتزيده) لحسين السيد ومحمد عبدالوهاب. 
( ولولا القمح ما كانت حياتنا 
ولولا العزبة ما تعيش المدينة 
….
….
ولولا الفاس مع الفلاح ما ناكل 
ولا تنفع سوزان من غير أمينه 
يقول الراوي يوم الحصاد: 
يا دنيا حزمينا ورقصينا ) لفتحي قورة وشادية من فيلم ( عيد الحصاد).
 كيف تحول يوم الحصاد من عيد لكل أهل القرية، ليوم كئيب يخافه  الفلاح ويُنتهك بيته ويفتش بحثًا عن قمح لم يُرد للحكومة ، ويرسل للنيابة وللمحاكمة الجنائية؟!

 وكيف تحولت مصر من سلة  غذاء العالم، وهي التي علمت العالم زراعة القمح، واخذ اسمه من ( هيروغليفيتها ( قمحو أو كمحو)-كيف أصبحنا أكبر مستورد للقمح في العالم ؟!!!!

وجاء سعر توريد القمح  لموسم ٢٠٢٣/٢٠٢٤ مع قرار وزير التموين والتجارة الداخلية 
فقررت  الحكومة شراء القمح من الفلاحين بـ (٢٠٠٠جنيه للأردب نقاوة ٢٣،٥ وبـ 1950 جنيها للأردب درجة نقاوة 23 قيراط – 1900 جنيه للأردب درجة نقاوة 22.5 قيراط)  وفي نفس القرار 
( حظروزير التموين  نقل القمح المحلي  من أي مكان لآخر إلا بعد الحصول على تصريح نقل  من مديرية التموين بالمحافظة المنقول منها القمح) وفي كل موسم أقوم ومجموعة من الزملاء بعمل دراسات عن نتائج زراعة السلع الاستراتيجية ومدى جدواها للفلاحين، وكنا ننشر  سنويًا نتائج هذه الدراسات في عدد من الجرائد والمواقع.

وكنت في زيارة والصديق عبدالناصر الزيني- عضو المجلس الشعبي المحلي  السابق - لبعض قرى مركزي ساحل سليم بأسيوط، مع بداية شهر رمضان ،  وفي جولة  بسهراتهم الرمضانية (بمناضرهم)، أخدنا ندردش حول تكلفة فدان القمح من بداية تمهيد الأرض ومرورًا بشراء التقاوي والتطويش والتسميد والري  وخلافه وحتى الحصاد، وانتهاء ببيع القمح والتبن.

وفي كل موسم  تحدد الحكومة السعر الاسترشادي تقول: إنه لتشجيع الفلاح على زراعة القمح، ولكنها كالعادة لا تقول الحقيقة، وتأتي دائمًا متأخرة، وهذا السعر لا يشجع الفلاح على زراعة القمح، ولكنه ينفره، ولولا رغبة الفلاحين في تخزين حاجة بيوتهم من القمح ما زرعوه ليسلموه للحكومة بسعر بخس فهل سعر التوريد  عادل ومشجع للفلاحين  ؟!

وعندما كررت أسعار توريد القمح بمندرة آل الغول بقرية الرويجات بساحل سليم  وتسآلت: هيكون كويس السعر ده ومربح للفلاح ؟! 

أجاب عن السؤال الحاج احمد محمود الغول: تعالى نحسبها مع بعض يا عم هلال والمية تكدب الغطاس !
وبدأنا الحساب، قال الحاج أحمد محمود الغول: بص يا حاج هلال :


 وشد الحاج أحمد محمود الغول نفس عميق من البوري أمامه ومن بين الدخان الكثيف قال : يبقى يا عم هلال فدان القمح يتكلف لغاية ما نوديه لشونة الحكومة بالورقة والقلم  حوالي (٤١٣٠٠) ولو مزدوش ميقلوش
قلت: طيب الفدان يجيب كام أردب قمح يا أبو الغول  ؟!
قال : قول ١٣ أردب  ف المتوسط للفدان و١٠ حمل تبن
 


وبحسبة عمنا أحمد محمود الغول فدان القمح سيخسر فيه الفلاح عندما يُجبر على توريده للحكومة= ٤١٣٠٠ مصروفات  -٣٠٠٠٠ إيرادات = ١١٣٠٠ جنيه خسارة غير متابعته وتعبه وكالعادة سألت أكثر من مزارع ومن نفس المركز فتقاربت الأرقام بزيادة أو بنقص بسيط للغاية، ولسنوات طوال أقوم بهذا ولا تختلف النتائج، وقد يزيد الإنتاج اردبًا أو يقل، وقد تزيد المصروفات قليلًا أو تقل ، وما رصدناه عبر حوارات ومناقشات مع عدد كبير من المزارعين كان هذا متوسطه، وبالتالي : 

١- الزيادة التي حددتها الحكومة  في نوفمبر ٢٠٢٣ مع بداية موسم القمح وكانت بمبلغ ١٦٠٠ لا تتناسب مع نسب التضخم التي أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء والذي اعلن عبر موقعه الرسمي ان نسبة التضخم السنوي  في شهر نوفمبر ٢٠٢٣ بلغ ٣٦،٤ ٪؜ وهو نفس الشهر الذي أعلنت فيه الحكومة السعر الاسترشادي لتسلم القمح من الفلاحين بزيادة ٦،٦٪؜ عن سعر استلامها للموسم السابق (١٥٠٠) وحتى مع السعر الجديد ب ٢٠٠٠ جنيها فان الزيادة ستصل لـ ٣٣،٣ ٪؜ وفي الحالتين  فإن ما قررته الحكومة من زيادة لم يصل  لمعدلات التضخم الذي حددته أجهزتها الرسمية ( البنك  المركزي مؤشرات التضخم السنوي عنده أعلى من المركزي للإحصاء) ( سعر التضخم السنوي لشهر فبراير ٢٠٢٤ مقارنة بنفس الشهر لعام  سابق بلغت حسب البنك المركزي ( ٣٥،٧١٠٪؜ ).

٢- سعر الموسم الماضي الذي كانت تستلم به الحكومة -كان السعر ١٥٠٠ للأردب نقاوة ٢٣،٥ قيراط و١٤٧٥ لنقاوة ٢٤ و١٤٥٠ نقاوة ٢٢،٥ - كان أقل من سعر السوق، واضطرت  الحكومة لتحرير محاضر للمزارعين وارسالهم للنيابة العامة وتحويلهم للمحاكمة الجنائية لإجبارهم على التسليم، وكانت  هناك حملات تستهدف بيوت المزارعين وأية  سيارات تحمل قمحًا، وكانت للقمح سوقًا سوداء زادت أسعاره عن سعر التوريد الرسمي ! وكأن القمح تحول لمخدرات تستدعي حيازته المحاكمة الجنائية.

٣- كانت الحكومة تستهدف جمع ٦ مليون طن من الفلاحين في موسم ٢٠٢٤/٢٠٢٣ ولكنها لم تجمع سوى ٤،٢ مليون طن، وهذا ما سيتكرر هذا العام لأن سعر الحكومة الاسترشادي سيكون أقل من سعر السوق بكثير خاصة مع  التحرير النسبي لسعر الصرف الذي حدده البنك المركزي منذ أيام سيرفع أسعار كل السلع والخدمات ( شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية تطالب برفع سعر الادرية بما لا يقل عن ٥٠٪؜ وتبرر ذلك بقرار تحرير سعر الصرف ) والفلاحون طبعًا لا يجدون من يدافع عنهم ويواجهون بالتوريد بالسعر الظالم أو الحبس 
٤-خفض سعر الجنيه بنسبة وصلت لحوالي  ٦٢٪؜ مقابل العملات الأجنبية وهذا سيؤدي حتمًا لارتفاع تكلفة استيراد القمح عند تحويل السعر العالمي للدولار بالجنيه، فاذا كانت الحكومة قد حددت سعر القمح في منشورها لموازنة ٢٠٢٤/٢٠٢٥ ب ٣٢٠ دولار ( أنظر  منشور إعداد الموازنة العامة للدولة ٢٠٢٤/٢٠٢٥)
 

فمن الطبيعي أن سعر طن القمح حسب تقدير الحكومة لسعره بالدولار بمنشور الموازنة سيكون ٣٢٠ دولارًا مضروبًا في ٤٦،٥  سعر الدولار عند تحديد سعر التوريد  =  ١٤٨٨٠ جنيهًا للطن  – لا نعرف كم سيكون سعر الدولار في موعد استلام القمح -يبدأ من منتصف شهر أبريل – بمعنى أن سعر أردب القمح المستورد بعد التعويم اصبح = ٢٢٣٢ جنيهًا للأردب ( سعر الطن  ٣٢٠ دولار مضروبًا *٤٦،٥  جنيها مقسوما على  ١٥٠ أردبًا = ٢٢٣٢ جنيهًا للأردب ) ، هذا بحساب سعر الطن تسليم أرض المينا بخلاف النقل.

فكيف تستورد الحكومة أردب القمح ب ٢٢٣٢ جنيها للاردب خلاف النقل ، بينما تستلمه من المزارع المصري الغلبان  بـ ٢٠٠٠ جنيها وتجبره على التسليم في شونها  ، علمًا بأن نسبة البروتين في القمح المصري من أعلى  نسب  البروتين في العالم ،ولا توجد به إصابات بفطر الإرجوت المنتشرة  بالقمح الروسي الذي نستورده بكميات ضخمة.

٥- أدت سياسات الحكومة الفاشلة خلال عام ٢٠٢٣ إلى زيادة وارداتها من القمح بنسبة ٣٠٪؜ عن عام ٢٠٢٢ فوصلت -حسب تصريحات إبراهيم عشماوي ، رئيس جهاز تنمية التجارة الداخلية بوزارة التموين لموقع آراب فينانس – إلى ١١ مليون طن مقارنة بـ ٩،٦ مليون طن استيراد قمح ٢٠٢٢ ما بين استيراد حكومي وخاص (.انظر موقع آراب فينانس ٨ يناير ٢٠٢٤).

٦- تصدر الحكومة قرارات السعر الاسترشادي عادة بعد بدء موسم الزراعة الفعلي والذي يبدأ ف الأسبوع الثاني من نوفمبر  والذي تسبقه إعدادات كثيرة،وبالتالي فحتى السعر لو كان عادلًا فلن يؤثر على تشجيع الفلاحين على زراعة القمح، لأنهم دائمًا ما يتشككون في قرارات الحكومة، ودائما ما تصدق الحكومة توقعاتهم الشاكة.

٧- تراجع المساحة المنزرعة قمحًا من ٣.٢ مليون فدان الموسم الماضي ٢٠٢٢:٢٠٢٣ لـ 
 ٣،٠٦٢ مليون فدان الموسم الحالي، مما دعا النائب محمد عبدالله زين الدين، عضو مجلس النواب للتقدم  بطلب إحاطة نهاية ديسمبر الماضي  إلى وزيري الزراعة واستصلاح الأراضي، والتموين والتجارة الداخلية، بشأن تراجع مساحات زراعة القمح في الموسم الجديد.

وترجع أسباب التراجع لتدني سعر توريد العام الماضي وكذا الموسم الجديد، وإلى تقديم الفلاحين للمحاكمات الجنائية بحجة عدم توريدهم للقمح، ومداهمة بيوتهم للتفتيش عن القمح.

٨- وحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فقيمة استيرادنا للقمح في الفترة من بداية يناير ٢٠٢٣ لنهاية سبتمبر ٢٠٢٣ وصل  استيراد مصر من القمح  =٢،٨٥٤ مليار دولار بينما كان استيرادنا من القمح في نفس الفترة  من العام ٢٠٢٢ = ٢،٧٠٩ مليار دولار بزيادة وصلت لـ ١٤٥  مليون دولار.

٩ - مع بداية موسم التوريد العام الماضي وفي الوقت الذي كلن يورد الفلاحون قمحهم اجباريًا للحكومة بواقع ١٠ جنيهات للكيلوا باعلى نسبة نقاوة كان طن علفالدواجن  زاد عن ٣٠٠٠٠ جنيها بواقع ٣٠ جنيهًا للكيلو ، بينما كانت الحكومة تجبر الفلاح على توريد كيلو القمح ب١٠ جنيهات ( تلت سعر العلف !)، فكان المربون يبحثون عن القمح لتربية الدواجن والمواشي، لان سعره ثلث سعر العلف ولأنه الأعلى بروتينًا والأكثر انتاجًا للحوم والألبان. فكيف بالله يا حكومة يكون سعر العلف ٣ أضعاف سعر القمح ، وحتى سعر الذرة الصفراء المستخدمة في الأعلاف وصلت في نفس  وقت التوريد للقمح إلى ١٩،٣ جنيه للكيلو ؟!!

الحقيقة أن الحكومة تستغل الفلاح وتأكل عرقه وشقاهه‍ع  ولا تعطيه حتى ثلث مستلزمات الإنتاج، بينما تترك الحبل على الغارب لمستوردي القمح ليعبُّوا خزائنهم على حساب الفلاحين وعلى حساب عجز الميزان التجاري واستهلاك المتاح  والنادر من العملات الأجنبية وتتركنا للديون الخارجية التي حولت مصر لرهينة  في أيدي الدَّيانة.

وسياسات الحكومة الظالمة التي تستولي على موارد الفلاحين وتجبرهم على التوريد بسعر ظالم ، وتمنع الفلاحين من بيع محصولهم وتصادره وتمنع نقله من مكان لمكان وتداهم بيوت الفلاحين تفتيشًا عن القمح ، كل هذه سياسات ستعجل بعزوف الفلاحين عن زراعة القمح وستزداد الفجوة وسيزيد الاستيراد ، بغض النظر عن بيانات الحكومة التي تحدثنا عبر  موقع المركز الإعلامي لمجلس الوزراء والذي تفاخر في تقريره ( زراعة وتخزين واستيراد ودعم القمح -الجمهورية الجديدة على طريق الاكتفاء الذاتي من القمح ) 

وزن رغيف العيش كان في ٢٠١٤ (١٣٠ ) جرامًا، فالحكومة قللت وزن الرغيف سنة٢٠١٧ لـ ( ١١٠) جرامًا ورجعت لتقليل وزنه سنة ٢٠٢٠ من١١٠ جرامًا للرغيف إلى ٩٠ جرامًا  وبالتالي قللت حجم كمية القمح المستخدم  بما يقترب من  الثلث ،وتفننت في عدم منح المواطن حصته إن غاب أكثر من ٣ أيام وكأنها جعلته أسيرًا لرغبف الخبز، فهي اختصرت كمية القمح المستخدمة في الخبز المدعم بحوالي الثلث.

وبالتالي  فما تدعيه حكومة الجمهورية الجديدة في تقريها  كان إنجازًا على حساب بطون الفقراء وجوعهم وظلم الفلاحين وقهرهم.  فهل تفعلها الحكومة وترفع سعر توريد الأردب من القمح لـ ٢٥٠٠ جنيه، وتترك توريده اجباريًا  وستجد  الفلاحين يسلمونها  قمحهم دون قهر وقضايا ونيابات وستجد مساحة القمح المزروعة قمحًا العام التالي قد تضاعفت، خاصة إذا ما سلمت للمزارعين التقاوي والأسمدة بدلًا من تركهم للتجار، أم أنها ستظل تحافظ على استيراد القمح لأن هناك من يستفيد من استمرار سساسة تحجيم زراعة القمح المحلي وتشجيع الاستيراد ؟!