هشام النجار يكتب: أسئلة البوطي الأخيرة للقرضاوي وجماعة الإخوان (5-5)

ذات مصر

أطلق الدكتور القرضاوى وتلامذته ورفاقه عندما كان رئيسًا ل (الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين) قبل رحيله، الكثير من الفتاوى والبيانات التى تحض على العنف والتخريب واستهداف كل من يعاون ويؤيد النظام الحاكم فى سوريا بالقتل من قضاة وإعلاميين وسياسيين وعسكريين .. الخ.
 

جلسوا مرتاحين فى مقار اقامتهم فى الخارج  يكتبون تلك البيانات المدمرة ويصدرون تلك الفتاوى المهلكة وينشرونها على الملأ ويسمونها (اجتهادًا)، وصدق فيهم ما قاله الشهيد البوطى رحمه الله: (إن العالم الإسلامى ليتفجر غيرة على الإسلام، وان أفئدة المسلمين لتتصدع حرقة وأسى من هذا البلاء الذى يحيق بالإسلام على أيدى ثلة من أتباعه).
يسأل العلامة البوطى (الذي احتفينا بذكرى استشهاده بخمس مقالات متتالية) في كتابه العظيم الذي أتمنى أن يقرأه كل الشباب المسلم (الجهاد في الإسلام.. كيف نفهمه وكيف نمارسه) – والسؤال موجه لكل من تأثروا بمنهج الشيخ القرضاوي ومن معه ممن يسعون ويهدفون فقط لاستبدال حُكْمًا بحكم وسلطة بسلطة:
 

(هل الوصول إلى الحكم هو الباب الوحيد لخدمة الإسلام؟ فإذا أغلق دونهم فان أبوابًا كثيرة لا تزال مفتحة أمامهم لخدمته، وان هؤلاء الذين أعرضوا عن الدعوة إلى الله بالتبليغ واستبدلوا ذلك باثارة الخصومات الدموية بينهم وبين الحكام للوصول إلى كراسى الحكم، فانهم فى الحقيقة لا يخرجون على الحكام وإنما يخرجون على مبادئ الإسلام، وإن من أهم مستلزمات الجهاد فى سبيل الله أن يضبط المسلم المجاهد نفسه وسلوكه على صراط الله تعالى فى كل الأحوال والظروف، فإذا اعتذر بأن عوامل الإثارة أقوى منه، فعليه عندها أن لا يضيف نفسه فى قائمة المجاهدين).
 

أى جهاد هذا وهم لا يستطيعون ضبط أنفسهم والزامها بالصبر والنضال السلمى الراقى فى مناخ مليء بالإشكاليات وخلط الأوراق وغموض الرؤية والتحديات والضغوط؟
 

ويسألهم العلامة البوطى رحمه الله: (وهل الإسلام يترسخ فى القلوب عن طريق فرضه على كراسى الحكم والإطاحة بالمتربعين عليه من أولى الرغبة بالسلطان؟ وهل الإسلام حكم يستقر على عرش أم قناعة تسرى فى القلوب؟
 

إن العرش الذى يتربع عليه الإسلام هو الأفئدة والعقول، ثم إنه يستقر بعد ذلك نظامًا وأخلاقًا فى المجتمع، ثم إنه يعلو بأصحابه ليستقروا حفظة له على كراسي الحكم.
 

وفقًا للتاريخ والمنطق – بحسب كلام البوطى – فان ما فرض بالقوة ولو كان اسلامًا ينتزع بقوة مثلها ولو كانت فسقًا والحادًا، وان اليقين اذا استقر فى العقل لم يمتحله إلا يقين معارض، وإن القوة التى تستخدم بديلًا عن واجب الدعوة والتبليغ تصبح ذاتها مبعث ضعف يحيق بالاسلام وحكمه، وان الدعوة اللينة لنشر الإسلام تصبح مبعث قوة فى رسوخ حكمه.
 

نسأل هنا: هل ما أطلقه الشيخ القرضاوى ضد سوريا ومؤسساتها وأجهزتها ونظام حكمها – مهما كان حجم الخلاف مع النظام السياسى فى سوريا- اجتهادات بالفعل وما انعكاساتها التخريبية على الفكر والمنهج المقاصدى؟
 

ونسأل: هل لو أخطأ هؤلاء – المفترض فيهم العلم – فى اجتهاداتهم تلك يصبحون مأجورين وغير مؤاخذين؛ لأن المجتهد المصيب له أجران والمجتهد المخطئ له أجر واحد؟
 

حل تلك الاشكاليات والإجابة على تلك التساؤلات ليست من عندي بل أخذتها وتعلمتها من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته؛ فمن يطلق رأيًا يلبسه ثوب الدين والشرع ويسميه (اجتهادًا) ويؤمل نفسه بالأجر لابد وأن تتوفر فيه شروط صارمة، والقضية تحكمها ضوابط؛ فلا يخرج الرأى عن تعاليم الشرع ومقاصده ولا تخرج عن حدود العقل والمنطق، بحيث تراعى شؤون العباد ومصالحهم، وتراعى الواقع الذي يعيشونه، وتراعى مصالح الدين العليا ومصالح الأمة والأوطان ومنضبطة بالشرع وبالعقل معًا، وإلا كان هذا (الإجتهاد) تهريجًا وألاعيب صبيانية.
 

فما هى مآلات تلك الفتوى وعلاقتها بالواقع وتحدياته؟ وفى أي مصلحة سيصب هذا القتال الذي أضفى عليه الشيخ القرضاوى صفة القداسة؟، وإذا كان القتال فى (سوريا العربية وضد جيشها) –وهو ما ينطبق على فتاوى القتال ضد الدولة المصرية وليبيا.. الخ- فرض عين كما يقول، ففى أي مرتبة من الفروض يأتى قتال (إسرائيل العبرية) وهي الكيان المحتل المغتصب المعتدي؟
وإذا كانت أميركا وحلف الأطلسى هى التى تمول هذا القتال ضد سوريا، فهل القتال خلف (الغرب) ضد (العرب) ودولهم وشعوبهم ومع إسرائيل التي تضرب هي الأخرى سوريا، فرض عين فى فقه الدكتور القرضاوى؟!
 

بشأن قضية (الإجتهاد) لنضع أمامنا هنا نموذجين؛ النموذج الأول قصة الصلاة فى بنى قريظة؛ حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يصلوا صلاة العصر فى بنى قريظة فى غزوة الأحزاب، وقد اجتهد بعض الصحابة فى ذلك وقالوا بأن المقصود من ذلك هو السرعة فى الرحيل إلى بنى قريظة وليس تأخير الصلاة، لأنه لا يجوز تأخير الصلاة، فصلوا فى الطريق، وصلى بقية الصحابة فى بنى قريظة، وعندما أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لم يعاتب أحدًا على اجتهاده، أى أنه اعتبر ذلك من الاجتهاد المقبول الذي يؤجر عليه صاحبه.
 

النموذج الثانى حين كان بعض الصحابة فى سرية وناموا فى الطريق فأجنب أحدهم، وحين استيقظ وجد البرد شديدًا ويصعب عليه الإغتسال، فأفتى بعض الصحابة له بوجوب الغسل حتى ولو كان البرد شديدًا، فاغتسل ولكن جسمه لم يحتمل البرد فمات، وحين وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله)!
 

هذا إذن ليس اجتهادًا ولا ينتظرن صاحبه أى أجر، بل يستحق ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم (قتلوه قتلهم الله)؛ لأنه بمثابة تغييب للعقل تمامًا، فلم يراع الواقع والظروف المحيطة بالحدث والحالة ولا النتائج والمآلات والتبعات.
عندما قبل الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهادى مسألة (صلاة العصر فى بنى قريظة)، فلأن الطرفين اجتهدا بالفعل وحكما العقل والمنطق والتفكير والتأمل سعيًا للوصول إلى الرأى الأصح والأصوب.
 

أما رفضه صلى الله عليه وسلم لاجتهاد – ان تجاوزنا وأسميناه اجتهادًا – أصحاب مسألة غسل الجنابة؛ فلأنهم غيبوا عقولهم ولم يرعوا الظروف المحيطة ولم ينظروا بعين العقل إلى ما قد يصيبه لو أقدم على هذا الفعل، فاستحقوا من رسول الله دعوته الصارمة والمخيفة(قتلوه قتلهم الله)!
هذه الأسئلة سبق ووجهتها لجماعة الإخوان وللدكتور القرضاوي قبل عشر سنوات:
أين العقل والمنطق فى تحريض الشباب المتدين المخدوع المتحمس والشعوب المثقلة بالهموم والمشكلات على الانقلاب والثورة المسلحة والتمرد على أنظمتها الحاكمة، وعلى قتل القضاة والعسكريين ومؤيدى النظام، وما عواقب ذلك ونتائجه؟
 

وما هو مصير سوريا فى خضم هذا الإحتراب الأهلى والطائفي، وكيف سيكون وضعها فى مواجهة التحديات الاقليمية والدولية التى تواجهها، وهل كان العقل حاضرًا لديهم وهم يطلقون فتاوى من شأنها تدمير شعب بأكمله وضرب طوائفه ومؤسساته وتياراته الفكرية بعضها ببعض من أجل الوصول إلى السلطة؟

وهل لدى الشيخ القرضاوى والإخوان والتكفيريين– بعد إسقاط النظام بالقوة - تصور واضح للحكم ومسؤولياته وتحالفاته فى دولة كسوريا بموقعها وارتباطاتها الإقليمية والدولية وتشابكات علاقاتها ومصالحها ما بين الغرب والشرق؛ بين الولايات المتحدة وأوربا من جهة وإيران وروسيا والصين من جهة، وعلاقاتها العربية من جهة وعلاقاتها مع إيران من جهة أخرى؟
 

من مضبوطات قضية الفنية العسكرية بمصر جاء نص البيان كالتالي – فى حال نجاح اغتيال الرئيس فى استراحته: (بسم الله الرحمن الرحيم " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شئ قدير".. أيها الشعب الحبيب، أيتها الأمة المجاهدة الصابرة، لقد نجحنا والحمد لله صباح اليوم فى السيطرة على الحكم واعتقال جميع المسئولين عن النظام السابق، بدأ عهد جديد..." .. الخ، وعندما سئُل قائد التنظيم فى التحقيقات عن منهجه في الحكم وأسلوب سياسته بعد الإستيلاء على السلطة – فى حال نجاحه فى ذلك – قال: " ليس لدى أي فكرة"!!!
هذا الأسلوب الخائب المكرر والتفكير السطحى ونفس الأمنيات العشوائية التي شغلت التنظيمات والجماعات فى بلادنا؛ أن الاغتيال السياسي والعنف والانقلاب على الحاكم وإزاحته بالقوة يسهل الإستيلاء على السلطة للجلوس مكانه – بهذه البساطة- وهو نوع من الجهاد فى سبيل الله واستعادة العزة – يربطون العزة بالملك – ومن ثم اقامة حكم الله فى الأرض، حتى دون استحقاق ودون امتلاك برامج ولا رؤية لليوم التالي.
 

بل إن الشيخ القرضاوى يناقض نفسه ولا يعمل بما خطته يداه فى كتبه المتداولة، فهو فى أحد كتبه الشهيرة (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) يرى أن أنواع الفقه المطلوبة فى هذا العصر خمسة منها فقه الموازنات، ويراد به الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، والموازنة المفاسد بعضها وبعض، والموازنة بين المصالح والمفاسد.
 

ويضيف: (ونحن فى هذا المقام نحتاج إلى مستويين من الفقه أولهما شرعى يقوم على فهم عميق لنصوص الشرع ومقاصده، والآخر فقه واقعي مبني على دراسة الواقع المعيشى دراسة دقيقة، ولابد أن يتكامل فقه الشرع وفقه الواقع.
اذن أين تطبيق هذا التنظير وكلام الكتب على أرض الواقع؟ وأين فقه الواقع وفقه المصالح والمفاسد؟
 

وهل الحفاظ على الدولة السورية والسعى فى الإصلاحات الدستورية والسياسية من خلال النضال السلمي المتدرج وتقديم النصح للحكام والإنخراط فى شراكة وطنية متوازنة تحمى كيان الدولة وتراعى تنوعاتها وديمجرافيتها وتعدد أعراقها ومذاهبها أولى وأقرب لتحقيق المصلحة، أم التمرد وحشد المسلحين فى الشوارع لمواجهة الجيش والأجهزة الأمنية والمواطنين العزل والمدنيين؟
 

وهل مفسدة الإبقاء على النظام والسلطة القائمة مع بعض التجاوزات والمظالم التي يمكننا النضال الحقوقي والقانوني والسياسي من إزالتها والتخفيف من آثارها على المدى المنظور، أم مفسدة الفوضى والدمار والتخريب الشامل وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وتخويف الآمنين وتشريد الأبرياء وتجويع الأطفال والنساء ونزع الأمن بالكامل من ربوع البلاد، فضلًا عن فتح حدود أوطاننا على مصراعيها للأمريكان والمغتصبين والغزاة والمحتلين؟
 

الرسول صلى الله عليه وسلم دعا على هؤلاء على خلفية التسبب فى مقتل رجل واحد فحسب (قتلوه قتلهم الله) – ويقينًا هم لم يقصدوا قتله – فماذا عن تمزيق وطن بأكمله وقتل شعب بأكمله؟ وماذا عن التسبب فى انهيار دولة بأكملها وتدمير وطن بأكمله، قاصدين متعمدين إشعال الفتن واشاعة الفوضى في ربوعه؟
 

قتلوا سوريا وشعبها عندما لم يستوعبوا ويتعلموا من تجارب الأمة وخبرات التاريخ، وعندما لم يعملوا على صياغة منهج متكامل يعترفون خلاله بأخطاء وخطايا ما يُطلق عليه (الحركة الإسلامية) وجماعة الإخوان فى سوريا وجماعة الإخوان الأم في مصر وفروعها بالمنطقة.
قتلوا سوريا وشردوا شعبها ودمروها وأدخلوا فيها كل طامع وأصحاب المصالح ولصوص التاريخ والحضارات والثروات عندما قدموا مصلحة تنظيم ورغبته المحمومة الدنيئة فى الثأر وتصفية الحسابات القديمة والوصول إلى السلطة على مصلحة سوريا ومصلحة الأمة وأوطانها ومصلحة الإسلام كدين، الذي يحتاج من يقدمه للعالم على حقيقته وليس بصورة شوهاء منفرة، كما حرمونا من درس البوطي الأسبوعي.
لا نملك إلا أن نردد: حسبنا الله ونعم الوكيل.
[email protected]