علي الصاوي يكتب: زوجات الجسد مُطلّقات الروح

ذات مصر

في رواية "إني راحلة" للكاتب يوسف السباعي قالت بطلة الرواية عايدة التى أُجبرت على الزواج ممن لا تحبه يوم وُضِعَ خاتم الخطبة في إصبعها: "ما ظننتُ قَطُّ أن الإنسانَ يُمكن أن يُخنقَ من إصبعه!" معبرة بذلك أن الموت على قيد الحياة أشكاله متعددة ومن أبرزها وأشدها ألما على النفس أن تُعاشر شخصا لا تحبه، تشاركه الفراش وتجاوره في صباحك ومساءك ولا تستطيع الفكاك من أسره، وقد تجسد ذلك المعنى البليغ في كثير من العلاقات الزوجية في عصر باتت الفضائح فيه موضة والانفصام الزوجي سِمة تفشت ونخرت في عِظام الأسر، فأصبح هذا الفيروس الاجتماعي قاعدة وغيره من السواء والهدوء وحسن المعاشرة استثناء، حتى خُيّل للعقلاء "أن البيت الهادي مش عادي"، وبسبب سوء الاختيار كثرت مطلقات الروح ومغتربات العِشرة الزوجية.

قديما كانت العلاقة الزوجية أمتن من الحديد وأشد من الفولاذ، زواج عمّر بيوتا وأنجب بكثرة بلا خوف من المستقبل رغم الفقر والعوز، لكن النفوس آنذاك كانت متشبعة بالتربية، تعمل بالأصول وتراعي الدين والأخلاق، كانت المرأة ترى في حب زوجها عقيدة اجتماعية يصعب حلها أو الكفر بها لخلاف عابر، بيوت هادئة وبيئة لم تكن متكاملة من حيث الوفرة ورغد العيش لكنها حافظت على أصالتها وجوهرها الإنساني من تماسك اجتماعي وحفظ الحقوق وأداء الواجبات، كان لميثاق الزواج الغليظ هيبة واحتراما، لم يكن من السهل نقض هذا الميثاق أو الالتفاف حوله، لذلك نشأ جيل من الشباب يعرف معنى المسؤولية واحترام المرأة والحفاظ على خصوصية العائلة، لم يعرف هذا الجيل فضائح التيك توك ولا مجاملات وسائل التواصل الاجتماعي الكاذبة التي خربت البيوت، أو حب "التيك واي" الذي يأكلونه بسرعة ويُهضمونه أسرع، كانت قدسية الزواج بمثابة سياج حديدية تحميه من الانهيار والطلاق المبكر أو حياة الخرس الزوجي، التي تتحول فيها المرأة إلى مجرد حقوق والرجل واجبات.

كان للتدهور الاجتماعي والتسافل الأخلاقي انعكاسات خطيرة على روحية العلاقة بين الرجل والمرأة، بات كل شيء سهلا وفي متناول اليد، كثر طلاق الأرواح وتنافرت النفوس تحت سقف واحد، وبقى الجسد مجرد وعاء يصب فيه الرجل حاجته كلما هفّه الشوق، علاقة مادية بحته ينتهى بها الأمر إما بالطلاق أو بجريمة أو بتعاسة مستمرة تذبل فيها المرأة وتفقد نضارتها وأنوثتها، فكل شيء مادي يخمد بالشبع ثم الاستغناء حين تصاب النفس بالملل والفتور وترغب في التغيير، فرّغت الشكليات الاجتماعية الزواج من مضمونه الحقيقي وهدفه الأسمى المتمثل في السكن والمودة والرحمة، والذي يدفع الثمن أكثر جراء هذا الخلل هو المكون الأضعف في المجتمع المتجسد في المرأة التي تحمل أثقالا من المسؤولية مع أثقالها كونها المربي والخادم والمدلل، ولا شيء يُخفف من تلك المشقة سوى الحب والتقدير والإمساك بمعروف، وإلا تحولت الحياة إلى حلبة صراع وركض متواصل في الهواء وتعامل قلِق وأمان نفسي مفقود.

تتغذى المرأة على الكلمة، تهدأ بالكلمة وتلين بالكلمة وتمتن بالكلمة لذلك قالوا: إن قلب المرأة في أُذنها، ومن هنا تتعانق الأرواح وتتناسم وتتواثق، ويتجاوز الزوجان معا كبد الحياة بعصمة وثبات، وتنجح الشراكة الزوجية ويزداد رصيدها من السعادة في بنك القلوب.

قالت زوجة أمريكية يوما: في صباح الذكرى العاشرة لزواجي كنت مريضة في المستشفى وفي حالة نفسية سيئة، فالمستشفى تبعد عن منزلي كثيرا وزوجي كان في البيت يرعى الأولاد وشؤون المنزل، وفي يوم تحسنت حالتي النفسية فجأة عندما جاءت الممرضة بباقة ورد من زوجي وبطاقة مكتوب فيها: " عشرة أعوام بصحبتك كأنها عشر دقائق، وعشر دقائق في بُعدك كأنها عشرة أعوام". رغم بعد المسافة بينهما إلا أن الكلمة الطيبة وإن كانت مكتوبة لها سحر في تغيير مزاجية المرأة وتحسين حالتها النفسية.

يقول الكاتب الفرنسي أندريه مورا: "الزوج الذي يمتاز بحدة العين وتَوقّد العاطفة فيلمح ثوب زوجته ويتلمّسه بشغف قبل أن تسأله رأيه فيه هو بذلك يفتح باب السعادة على مصراعيه في حياته العائلية"، فالكلام الجميل وحسن الإطراء ينفخ روح المحبة في المرأة فتعيش مع الرجل بالجسد والروح معا وتُغدق عليه من المشاعر أضعاف ما يُغدق عليها، ففي الغالب كل ما تفعله المرأة هو انعكاس لمعاملة الرجل، فزواح بلا روح كزرع بلا ماء لا ينمو وإن نما لن يثمر.

يحتاج الزواج الناجح إلى إعادة بناء كل يوم بالعاطفة والتفاهم والانسجام، والحب الحقيقي بين الزوجين كالطائر الحر، لا حياة له إلا بالغدو والرواح والتغريد والتنفير فإن حُبس في قفص الإهمال أحنى رأسه بأسا ثم يموت.