عمار علي حسن يكتب: مصر بين هزيمة يونيو ونصر أكتوبر .. كتاب عن سنوات صعبة

ذات مصر

أرسل لي د. ممدوح أنيس فتحي مجلدين يحويان ما يربو على ألف وخمسمائة صفحة من القطع فوق المتوسط يصف ويحلل فيهما أحداث ووقائع السنوات المحصورة بين يونيو 1967 و أكتوبر 1973، باعتبارها تاريخا غير اعتيادي، لا تزال آثاره باقية في نفوس المصريين وعقولهم حتى اللحظة الراهنة.

ولا يريد فتحي من كتابه هذا لنا أن "نعيش في التاريخ" بحيث يتحول إلى سجن يحد من انطلاقنا، إنما أن نمضي إلى "ما بعد التاريخ"، أي نتجاوز آلام الهزيمة، ولا نكتفي باسترجاع أو اجترار لذة النصر، بل نبني على الخلاصات المعتبرة لهذه الحقبة، ونمد أعناقنا إلى المستقبل، بحيث نحقق انتصارا جديدا، هو الآن بناء الدولة الديمقراطية المكتفية القادرة المهابة.

يعتمد الكتاب على وثائق ومستندات تاريخية، وحوليات معمقة، وشهادات ومذكرات لمن لعبوا أدوارا بارزة خلال تلك الفترة، وكذلك دراسات حوت تحليلات مستفيضة لباحثين مختلفين في الأيديولوجيات والتوجهات والخلفيات، ويرمي حسب مؤلفه إلى "الوصول إلى الحقيقة التاريخية" و"نشر اجتهاد موضوعي للوقوف على ما جرى، إنصافا لزملاء شهداء وجرحى قدموا أرواحهم دفاعا عن وطنهم، وفرصة للتعرف على الدروس المستفادة والخبرات المكتسبة التي تعين على فهم الحاضر، وقراءة المستقبل بفكر مستنير".

ما يعطي الكتاب حجية إلى حد كبير أن مؤلفه ليس مجرد باحث في الدراسات الاستراتيجية والسياسية بل هو قادم من قلب المعركة، إذ شارك في ثلاث حروب ضد إسرائيل هي: يونيو 67 والاستنزاف وأكتوبر 73 وما بعدها، كان خلالها واحدا من صناع الحدث، كضابط في القوات المسلحة، وشاهد عيان على كثير من الأمور.

علاوة على هذا فإن المؤلف، وهو لواء متقاعد، يحمل، حسب ما جاء في النبذة التعريفية عنه، أربع درجات للدكتوراه في العلاقات الدولية، والاستراتيجية، والقانون الدولي، والتاريخ المعاصر، وهو خبير في شؤون الأمن والاستراتيجية ومستشار لعدد من مراكز الدراسات العربية، وحاصل على أوسمة عسكرية رفيعة من مصر والعراق والكويت والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وله 59 كتابا، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1993.

جاء الكتاب بمجلديه في ثلاثة أبواب، الأول عن التداعيات السياسية والعسكرية لحرب يونيو، باعتبارها حربا مفروضة على مصر واختيارية لإسرائيل، ليشرح لنا ما حدث فيها؟ ولماذا انتهت على هذا النحو؟ ثم يسرد تداعياتها والأحداث التي تلتها، ويحلل الدروس المستفادة منها، والتغيرات السياسية الداخلية التي ترتبت عليها، بدءا بمحاسبة مرتكبي الانحرافات الأمنية، وإصدار بيان 30 مارس الذي أعلنت فيه السلطة وقتها الأخطاء التي وقعت فيها، ووعدت بتلافيها في المستقبل، ثم العمل الجاد والدوؤب لإعادة بناء القوات المسلحة، فصدام عبد الناصر مع القضاة في عام 1969.

يتناول الباب الثاني حرب الاستنزاف ونتائجها الاستراتيجية، فيبدأ بالمبادرات السلمية التي أعقبت الحرب، والتي رفضتها مصر تحت مبدأ "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، ثم دور هذه الحرب في تحقيق هدفين: الأول هو رفض التسليم بالهزيمة، والتقليل من انتصار العدو، وجره إلى دفع ثمن مستديم لاحتلال سيناء، والثاني هو استعادة القوات المسلحة الثقة في نفسها، وعدم فقدان الشعب المصري الأمل في انتصارها، وعدم خسارة عبد الناصر مكانته تماما في نفوس أغلب العرب، حين يرونه رافضا للهزيمة ومستمرا في حرب محدودة حتى يأتي موعد الحرب الشاملة.

ويبين الكتاب كيف كان عبد الناصر يستعد لحرب مضادة، لاسترداد الأرض السليبة في عام 1971، لكن وافته المنية في سبتمبر 1970 ليترك المهمة لخلفه أنور السادات، الذي وجد نفسه في مواجهة داخلية مع ما أسماها "مراكز القوى"، قبل أن يشرع في التخطيط للحرب، وهو ما بدأه بطرد الخبراء الروس. هنا يأتي الكتاب على مدح الكتمان، والعمل الجاد، واستخدام التفكير العلمي، وتنفيذ الخداع الاستراتيجي على أفضل وجه، قبل انطلاق شرارة المعركة.

أما الباب الثالث فقد خصصه لحرب أكتوبر، بدءا بالتحضير لها، ثم انطلاقها، والمسار الذي سلكته المعركة، مع المباغتة والعبور، ثم وقوع ثغرة الدفرسوار، التي يفصل في وصفها، وتبيان الأسباب التي أدت إليها، وكيفية مواجهتها، وصولا إلى مباحثات الكيلو 101 لفصل القوات، لينتهي إلى الدروس المستفادة من هذه الحرب، التي جاءت بطريقة مغايرة عما عرفته وعركته الحروب من قبل، فصنعت نموذجا يتم تدريسه في مختلف الأكاديميات العسكرية في العالم حتى الآن، ليتحقق ما قاله السادات في خطاب إعلان النصر: "إن التاريخ العسكري سيتوقف طويلا أمام عملية السادس من أكتوبر 1973".

في كل هذا الأبواب هناك خيط غليظ بين السياسة والحرب، فالأخيرة تنتهي لتبدأ الأولى، ويمكن لجيش أن يقاتل ببسالة، ويحقق نصرا عسكريا مؤزرا، ثم يأتي السياسيون فيخذلونه، حين يتخذون من المواقف، سواء على طاولات التفاوض أو من خلال المبادرات والتدابير الدبلوماسية، ما يفرغ هذا النصر من مضمونه، فإذا كانت الحرب هي مواصلة السياسة بطريقة أخرى كما يقول المفكر الاستراتيجي الجنرال كارل فون كلاوزفيتش، فإن السياسة هي المتتمة للحرب بطريقة خالية من النار والدم.

لقد ألف د. ممدوح أنيس فتحي كتابا بعنوان "كيفية النصر في الحرب المقبلة"، وما كان له أن يذهب في هذا الاتجاه إلا بدراسة ما جرى في حروبنا السابقة، وإمعانا في إيمانه بهذا فقد تناول في خاتمة كتابه المرجعي هذا ما جاء في لجنة "أجرانات" التي شكلتها إسرائيل عقب حرب أكتوبر، للوقوف على الإخفاقات التي وقعت فيها، حتى يمكن تلافيها مستقبلا.

إن الكتاب في النهاية يحمل رسالة ضمنية تقول إننا لا يجب أن نكتفي من هزائمنا بالبكاء، ومن انتصاراتنا بالضحك، إنما علينا أن نفعل ما هو فوق الحزن والفرح، إنه تأمل ما جرى في تمهل ورويّة، لنعزز نقاط القوة، ونرمم أي شروخ، فنتلافي نقاط الضعف.