هشام الحمامي يكتب: غزة و«الحالة الغائبة».. ولم تعد غائبة!

ذات مصر

لا يشعر بالأمور العظيمة من امتلأ قلبه بالأشياء الصغيرة، يشعر بها فقط من امتلأت قلوبهم بالغايات الكبرى والمعاني الكبرى والأفكار الكبرى والآمال الكبرى. والناس أنواع، وأنواع كثيرة، لكن أشهرهم نوعان، نوع تافه وصغير، لا يشعر بخواء حياته وفراغها، ولا يرى إلا يومه فقط، ونوع عظيم، كبير يرى الدنيا كلها على طرف بصره أمسها ويومها وغدها، يراها بعين اليقين الصادق، مدركا حقيقة الدنيا ومعنى الوجود، وسنضع هنا أيدينا على أم الفواتح في (طوفان الأقصى)، لنرى الكبار، أصحاب الغايات الكبرى والمعاني الكبرى، ممن هم خلف السلاح: جنودا وقادة، وممن هم في مواجهة السلاح: شيوخا وأطفالا ونساء.

***

ونحن وإن كنا نعلم أن الجند والقادة خلف السلاح، قد أعدوا العدة بكمال الإعداد وتمامه، منطلقون من حيث قال الرحمن (ما استطعتم)، فرأينا في أطول حرب حقيقية يشهدها الشرق الأوسط كيف كان إعدادهم وكيف هي استطاعتهم، ولن نركز هنا على قدر الذل والخسف الذي أذاقوه لجيش الدفاع المقهور على نفسه، فتلك تكاد تكون أبسط العطايا في هذا الطوفان.

ولكن ما يعنينا أكثر هو (الحالة) التي خرج منها هؤلاء الجند والقادة، وكيف اختلطت فيها قطرات العرق بالينابيع الأولى؟ كيف أنتجوها؟ وكيف هي أنتجتهم، نعم، فهم نتاج حالة غابت عن (دنيا الإسلام) من عقود طويلة مضت، وطويلة جدا. 

وكان غيابها نتاج تخطيط وترتيب ومكر محكم ودقيق للغاية، فنحن نتحدث عن عدو يخطط لنا ويستهدفنا بكل أذى من (عشرة قرون) وهو يعلم تماما مكمن القوة فينا، إن حضر ماذا يحدث، وإن غاب فما الذي لا يحدث؟

ليس هذا فقط، بل وكيف يحضر، وكيف يغيب! والموضوع لا يحتاج إلى استحضار التاريخ، فقط يحتاج إلى استحضار الذاكرة.

***

والأمم العظيمة تعتبر أن الحفاظ على (ذاكرة) شعوبها (أمن قومي)، ومن أجل ذلك تبقى على الشواهد والأثار ولا تهدمها أبدا، لتبقى الذاكرة يقظة بمشاهدتها دوما، وتعمل على إحياء أيام الانتصار، وأيام الانكسار أيضا، لتبقى معانيها حاضرة في الأجيال وهي تولد وتموت وتتوارث ذاكرة تتواصل بينهم، ولا تضيع فيضيعوا، ويصبحوا مثل القبائل الراحلة خلف المراعي.

***

هذه(الحالة) هناك من يتجاهلها وعن عمد، يتجاهلها ويتراوح شعوره بين سروره مما يرى، وبين مشكلته القديمة مع المتدينين ومظاهر التدين (لا مع الدين نفسه).

نتنياهو مثلا لم يستطع تجاهلها في خطابه للدنيا كلها، دنياه هو ومن في معه في المخزن العميق للسياسة الدولية وقالها: (نقف أمام طوفان عالمي من أكثر من مليارين ونصف مليار مسلم) لقد قال نفس الوصف الذي قاله (الرجال) يوم 7 أكتوبر.

وسنسمع من د/ نبيل عبد الفتاح الباحث بالأهرام كلاما جميلا عجيبا، ووجه العجب أن د/ نبيل (حفظه الله) كان لديه طول عمره مشاكل طويلة مع التيار الديني السياسي، وكان يشرف على تقرير الحالة الدينية في مركز الأهرام مع الأستاذ ضياء رشوان، وكانوا يكتبون كلاما طويلا عريضا عن الدولة الحديثة ومؤسسات الحكم المدني وكل هذه المصطلحات (منزوعة الإنسان) مع الاعتذار للدسم! رغم أنهم كانوا يسيرون مع من يرفضها.

***

ولفت نظرنا الصديق الكريم د/ عمار علي حسن، إلى ما قاله د/ نبيل عن الحضور الكثيف للفكرة الدينية في الخطاب السياسي الإسرائيلي، والذي زادت كثافته بعد أطول حرب يخوضونها معنا، وقال: يجب أن يتبعه بالتالي حضور الفكرة الدينية في خطابنا الذي نواجههم به! أهلا وسهلا بك في دنيا الحقيقة والحقائق. وأن تأتي متأخرا خير ألف مرة، من أن لا تأتي.

وفي تشابه قريب، سيكون لنا عتاب هنا على د/ مأمون فندي أستاذ العلوم السياسية المعروف، حين قال في رده على أحد المدونين إنه لا يقترب من البعد الديني في القضية الفلسطينية، لأنه مدرس سياسة، لا مدرس دين! لو قالها غيرك يا د/ مأمون!

يا أصدقاء الواقع والموضوع، دعونا نفرق بين الالتزام الديني الشخصي، وبين رؤيتنا للموقع الحق للإسلام في التاريخ والدنيا والمجال العام، ودون أي تداخل وتناقض للأشياء في الأشياء، فقط أن تكون الأشياء كما هي. هذه هي (المشكلة العميقة بيننا وبين الغرب) هكذا قال لنا ذات مرة العلامة د/ عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- في لحظة إعجاب مدهشة بمقولة علي عزت بيجوفيتش: (الإسلام ليس دينا فقط، إنما دين وحياة).

***

أي (فلاش باك) يأخذنا بالتاريخ والسياسة عدة سنوات لماضٍ قريب، سنرى اللورد اللنبي وهو يدخل (القدس) سنة 1917م، ماشيا على قدميه، مثل السيد المسيح عليه السلام، وهو يقول: (اليوم انتهت الحروب الصليبية)! وأهدى مدينة (القدس) ونصره يومها للإمبراطورية البريطانية في عيد الميلاد سنة 1918م، والباقي حكايات تاريخ.

إلى أن ظهرت (الحالة) التي حملتها (طوفان الأقصى) إلى ربوع الديار في العالم الإسلامي كله، وليس في مشرقه الساخن فقط، وهي الحالة التي حتما ستنتشر وتتسع، وما أسرع ما ستكون في توالي اتساعها عبر السنين القليلة القادمة.

***

هذه الحالة التي يراها العالم كله، ليست فقط على مستوى الجند والقادة وعمليات المهارة والتخطيط البارع، ولكن على مستوى (البشر العاديين) في هذا الصمود، الذي سبب للعالم ذهولا واسعا وعميقا، وجعلته يتساءل: من أين جاؤوا بكل هذا الصمود وكل هذا الصبر؟!

عيونهم حزينة لكنها مليئة بالسكينة، وجوههم مجللة بالحزن لكنها هادئة وادعة، كأن هناك ألف صوت وصوت يخرج من تلك العيون وهاته الوجوه. لا يرن ويسمع إلا في (أذن) تنتظره هو بالذات، هناك، حيث (الحبيب) يتهادى بين السماء والأرض، يحمل روحه في يد، وسلاحه في يد، يوزع على أعدائنا ذلهم وهزيمتهم وكسر مهابتهم الكذوبة الرخيصة.

***

يقولون إن أفضل الأشياء ما جاءت في وقتها، فعلا، فلا تحسن الأشياء بعد فواتها.

والواقع السياسي والاجتماعي والفكري في العالم كله، كان يحتاج بشدة إلى ما يهزه هزا، ويخلخل الأرض من تحت أقدام الجميع، وكنا كالعادة ننتظر آخر ما سيخرج لنا من (غرفة العمليات) المركزية، التي يديرها السادة الكبار في هذا العالم.

لكن (الحالة الغائبة) والتي لم تعد غائبة، وظهرت للعالم من غزة، وحمل ضوؤها ونورها ألف شعاع وشعاع، إلى أركان الدنيا الأربعة، ليس هذا فقط، بل وانطلق من كل ركن فيها ألف سؤال وسؤال، 

من هؤلاء؟ وكيف كانوا؟ ومتى؟ وما هذه الأفكار التي أيقظتهم؟ والى أين يسير كل ذلك؟ وأين نحن من هذا كله؟ وكيف عشنا كل تلك الأكاذيب في كل تلك الأيام الكالحات الماضيات. 

لقد أصبح للعالم الآن (قلب جماعي) اسمه غزة، لكن هذا ليس كل شيء.

وإذا كنت معنيا بأمر تريده ** فما للعزم والتوكل من مثل.