هشام الحمامي يكتب: غزة و(صبر إستراتيجي).. من التراب للسحاب

ذات مصر

شكرا للأستاذ فهمى هويدي على إهدائه لنا ولأهلنا في غزة وللأمة هذا التوصيف العبقري الذى أدركناه جميعا، لكنه، وكعادته دائما في التقاط المعنى والتقاط أدق لفظ يسعه ويصفه فقد سبقنا وأهداه لنا..(الصبر الاستراتيجي) .
مصطلح جديد تماما سيتعلمه العالم كله ضمن ما تعلمه من أهل غزة ومقاتليها الأشداء في حرب القرن الـ 21 التي تفتتح تاريخا جديدا للشرق الأوسط (قلب العالم) .. وبالتالي للعالم كله.. 
ليس فقط لأن هذه الحرب (حرب عالمية) باعتبار أن العالم كله منخرط فيها، ولا حتى باعتبار أن الطرف الرئيسي في الحرب(إسرائيل) مكون من 92 جنسية مختلفة..بل لأسباب أخرى كثيرة سيكشفها الوقت .
***
الحرب العالمية الأولى كان أحد أهم أهدافها الكبرى إنهاء الرابطة التي تربط العالم الإسلامي فى رباط واحد (الخلافة العثمانية) .
ومن أراد المزيد في معرفة هذا الهدف تخطيطا وتنفيذا يرجع إلى رسالة الدكتوراه للعلامة د/ عبد الرازق السنهوري /ت1971م (الخلافة وتطورها لتصبح عصمة أمم شرقية) التي أنجزها سنة 1923م في باريس. 
الحرب العالمية الثانية كان أحد أهم أهدافها إقامة دولة معادية لجيرانها بين الشرق الإسلامي وغربه، وتقع تحديدا بين مصر والشام ومن أراد المزيد في هذا الهدف تخطيطا وتنفيذا يرجع إلى كتاب الأستاذ هيكل ت/2016م (القنوات السرية) وما ذكره عن وثيقة (كامبل بنرمان) .
***
ما نشهده الأن في غزة سيكتبه التاريخ تحت عنوان الحرب العالمية الثالثة، هي حرب بين الشرق والغرب.   
على الرغم من أن الشرق أختزل نفسه في (فئة قليلة) بالغة البهاء والنقاء، وربطت نفسها بأوثق رباط يجعلها في قلب التاريخ، وهي بنفسها أختزلت دورها في الذهاب الى المدى الأخير في هذه الحرب وهو تحرير( المسجد الأقصى).  
***
نتنياهو ذكر كثيرا أن هذه الحرب حرب الشرق والغرب، وهي حرب 2 مليار مسلم، لكن حكومات الغرب لم تلتفت له وتغنى على مغناه، لأنهم لا يقولون ذلك بهذا الجهر، هم يفعلوه فقط. 
ونتنياهو لا يقول ذلك غباء منه لإحراجهم وتوريطهم، لا، ليس الأمر كذلك .. نتنياهو ذاته كان عنصرا جوهرىا من عناصر تلك القفزة التاريخية الكبرى التي يعيشها الشرق، مع طوفان الأقصى.
وإذا اشتغل أحد الباحثين النشطين على كل ما قاله نتنياهو وفعله من أول الحرب، سيكتشف أن وجوده كان هاما جدا لتحقيق هذه الهزيمة الاستراتيجية الكبرى لإسرائيل والوحيدة تقريبا من يوم تأسيسها.                             وأتصور أن تخطيط وتنفيذ (طوفان الأقصى) اعتمد في جانب رئيسي منه على وجود شخص بتركيبة نتنياهو في مركز القرار. 
***
وسنتأمل سيناريو(افتراضي) بسيط كان من الممكن أن يحدث ردا على 7 أكتوبر، لكنه لم يحدث .. لماذا ؟؟   
لأن التاريخ لا يمثل الإنسان فيه أكثر من تجسيد مادي محدود لحركته ولا علاقة له بصنعه ولا حتى توجيه مساراته.
لذلك فقد سارت الأمور بعد 7 أكتوبر في مسارها( المقدر) تماما، رغما عن الإنسان، وحتى رغما عن تدفق إرادته في هذا التجسيد المادي، على وصف العالم الفرنسي المعروف (الكسيس كاريل ت/1944م) مؤلف كتاب (الإنسان ذلك المجهول).
***
ما هو هذا السيناريو الافتراضي الذي لم يحدث؟                                                                    
سنتخيل أن يوم 8 أكتوبر 2024م، اجتمعت أجهزة مخابرات الغرب وإسرائيل وأمريكا وأمعنوا النظر فيما حدث، وأدركوا أن الموقف صعب للغاية، ومكمن الصعوبة الأول: الأسرى والرهائن الموجودين في غزة لدى المقاومة.
والثاني: أن وراء هذا الحدث أسرار  وأمور كبيرة قدر (المجهول) فيها أكثر كثيرا من أي شيء معلوم لديهم.
***
وبالتالي فمن الخطأ المبادرة بخطوة (الانتقام الأعمى) في هذا التوقيت، وعليه فيجب تحجيم رد الفعل المتوقع ردا على ما حدث، والتمهل.
وفى نفس الوقت البدأ فورا بالاتصالات للتوصل الى الإفراج الكامل والفوري عن جميع المحتجزين لديها ، حتى ولوكان الثمن تبييض السجون، وحتى لوكان الثمن رفع الحصار عن القطاع .. ولنفترض في هذا السيناريو الذي سيكافئنى عليه نتنياهو وبايدن بأثر رجعى! 
أن المهمة أنجزت وخرج جميع الأسرى من الطرفين وتم رفع الحصار. 
وبعدها بشهر أو عدة شهور، تم إختلاق ذريعة من ذرائع اليهود المعروفة، للانتقام الرهيب.                                          
***
كما انتقم شايلوك المرابى اليهودى الكريه، من أنطونيو الفارس المسيحي النبيل في رائعة شكسبير (تاجر البندقية) والاجتياح الكامل للقطاع والعربدة فيه كما يحدث الأن، ولكن بعد انتزاع أهم ورقة ضغط من أيدي المقاومة وهي (الأسرى). 
وكان المجتمع الاسرائيلى وقتها والذي يتداعى وينهار الأن، كان سيظل على حالته قبل 7 أكتوبر ساندا وداعما للدولة والجيش، وما كانت الدولة نفسها لتتعرض لكل هذه التصدعات والصراعات التي أجهزت على ما تبقى من رابط يربطهم؟ 
لماذا لم يحدث هذا السيناريو ..؟
لأن الهزيمة والخزى والإنكسار والعار كانوا يطلبوهم ( الغرب وإسرائيل) كما يطلب الماء إنحداره ، من أعلى هضبة لأسفلها. 
***
موقع أكسيوس الإخباري الشهير ذكر أول أمس الجمعة 5 إبريل إن وليام بيرنز مدير الـ المخابرات الامريكية سيكون في القاهرة ليلتقى بجميع أطراف(الموضوع) في مسعى أخير تقريبا، لإخراج إسرائيل والغرب من هذه الكارثة بدون عار يتبعه عار، كما تتسلسل العارات في العادة.
ومحاولة أخيرة وأهم لسحب (الموضوع) بعيدا عن المستقبل الذى تريده المقاومة لفلسطين والأقصى، والذى سرعان ما سينتشر في ربوع الديار العربية .. 
والمشكلة لديهم أنهم ليسوا فقط لا يريدون هذا المستقبل بأى وجه من الوجوه .. ولكن الأهم أنهم غير قادرين على مواجهته ولا منعه. 
***
لدينا في الثقافة الإسلامية أن جزاء(الصبر)لا تستطيع قدرات البشر توقعه أو إدراكه أو حتى تخيله وقد رأى بعضنا ذلك في حياته وحياة من حوله بشكل أو بأخر.. ذلك أنه جزاء من تقدير(الكريم) رب السموات ورب الأرض ورب العالمين .. فما ظنكم بجزاء (الكريم )..  
والشعب الفلسطيني صبر صبرا طويلا، صبر على الأعداء والأشقاء، صبر على من صدقه وبر معه، وعلى من كذبه وغدر به ..صبر على من وفًى وحفظ ، وعلى من خان وضيع ..                                              
صبر إيمان ،وصبر حقيقة ،وصبر بصيرة ،وصبر ذخيرة ،وصبر صمود، وصبر بشرى ونصر أقترب قرب الصبح من النهار ..
***
وتوج كل هذا الصبر بنوع جديد تماما من الصبر.. استمده من تلك الروح التي بعثها الله في هذه البقعة من الأرض التي أرتوى ترابها برواء من دماء الطاهرين والطاهرات، رجالا ونساء كبارا وصغارا، تلك الأرض التي أراد الله لها أن تكون (بؤرة النور) وسط ظلمات بعضها فوق بعض ..
ولدينا أيضا في الثقافة الإسلامية، أنه ما تسقط من ورقة من شجرة إلا يعلمها الله، ولا حبة موجودة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين عند الله الحفيظ على كل شيء.. 
لذلك كان الصبر الذي صبره أهلنا في غزة صبرا استراتيجيا بكل ما تحمله كلمة (استراتيجى) من حمولات ومعانى ودلالات في التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والسلاح والأخلاق والزمن و الحياة والموت. 
***
لقد خسر الغرب وإسرائيل ما بنوه فى سبعين سنة، خسارة استراتيجية هائلة وتداعياتها ستكون رهيبة وطويلة المدى. 
وكما كان على العالم العربي من الخمسينيات، أن يتجهز ويستعد لوجود إسرائيل في قلب قلبه، وكان الذل والفقر والمرض والجهل والهزيمة تلو الهزيمة وشرب أكواب الوهم اللذيذ، ضرورة من ضرورات هذا التجهيز والاستعداد. 
فعلى العالم العربي الأن أن يتجهز ويتحضر لغياب إسرائيل، ليغيب معها وخلفها كل ما كان ضرورة لوجودها.
ويقصر فى عين الأبطال المدى الطويل .