إبراهيم عبد المجيد يكتب: أبناء محيي الدين.. سيرة ومسيرة عائلة من مصر

ذات مصر

كلما قرات شيئا لمصطفي عبيد أدركت كم في هذا الوطن من مفكرين وأدباء حقيقيين من أعاظم الناس. تقريبا لم يفتني شيئ مما كتبه ويكتبه من فكر ودراسات أو ترجمة أو رواية. كتبت عن بعضها من قبل سعيدا جدا مثل " سبع خواجات- سيرة رواد الصناعة الأجانب في مصر" و" ضد التاريخ" و "قارئ الجثث – مذكرات سيدني سميث طبيب التشريح البريطاني في مصر الملكية" و"توماس راسل حكمدار القاهرة  1902-1946" وهي نسخة نادرة لعثوره عليها حكايات. لمصطفي عبيد روايات مثل" جاسوس في الكعبة" و" البصاص" فضلا عن الكتب الفكرية والمترجمة والكتابة الصحفية. القدرة هائلة لمصطفي عبيد على البحث في الوثائق الموجود بعضها خارج البلاد، فضلا عن الوثائق المصرية والكتب والحوارات وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي. الكتاب صادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، ويقع في حوالي أربعمائة صفحة، حافل بالصور أيضا لمن يتحدث عنهم في مواقف وأماكن ومراحل عمرية مختلفة. 

تقديم جميل يتحدث فيه كيف أن الماضي لا يمضي كما يظن البعض،  فلكل حدث آثار باقية للحاضر والمستقبل. وكيف أن تاريخ العائلات جزء مهم من التاريخ الإنساني، وبعض العائلات المصرية في العصر الحديث تركت بصمات دامغة في السياسة والأقتصاد والعمران، وكانت لاعبا أساسيا في أحداث التاريخ الحديث، فمن الإنصاف استعادة هذا الجانب التاريخي فهو يساهم في تحفيز الأجيال المتتالية، على الحفاظ على القيم النبيلة التي عُرفت عن تلك العائلات. 

عائلة محيي الدين متفردة بسمات قلما اجتمعت في عائلة من العائلات الكبرى في التاريخ المصري الحديث. كانت عائلة متفتحة لكل الأفكار والثقافات، حوت أطيافا من الفكر السياسي، من اشتراكي لناصري لليبرالي وعلماني، وسترى ذلك فيما سيأتي بالتفصيل. كذلك ارتبطت العائلة بقوة بالمكان، وهو قرية كفر شكر، والانتماء إليها على مدى أكثر من قرن ونصف. هي عائلة لم تنشغل بتحقيق صعودها عن طريق المال ولم تسع إليه، وظل سعيها جيلا بعد جيل للتقدم بالعلم والعمل الدءوب والتضحية والفداء. ورغم أن الصاعدين منهم حققوا ثروات معقولة خلال رحلة صعودهم، إلا أن أحدا منهم لم يستغل الثروات للحصول على منصب، لكن وظفوا المال دائما في العمل العام. ورغم أن كثيرا منهم مارس المعارضة السياسية، ظلت المعارضة وطنية وسلمية، فلم يتورطوا في أيْ عمل إرهابي أو تخريبي، ولم ينخرط أحد منهم في تنظيم مسلح مثلا.

يحكي في مقدمة الفصل الأول عن النقلة في زراعة القطن طويل التيلة مع المهندس الفرنسي الشاب جوميل، الذي وفد الي مصر في عهد محمد علي، فحل القطن طويل التيلة محل القديم وعرفه العالم، وازداد سعره مع الحرب الأهلية الأميركية عام 1860. بعد هذا يبدأ الحديث عن عائلة محيي الدين مع الجد الأكبر محيي الدين فؤاد، الذي توفي عام 1916 وهو في السبعينات من عمره، فهو الصانع الأول للثروة والأملاك الزراعية التي ارتبطت بها العائلة. كان اسمه المركب يحمل ميلا شديدا من العائلة للتدين بنسخته الصوفية، تيمنا باسم محيي الدين بن عربي. لم يكن الإبن الوحيد لوالده عامر عطا الله، ولم تكن أمه هي الزوجة الوحيدة للأب، ففي ذلك الوقت كان تعدد الزوجات هو السمة الغالبة، ولم يكن الأمر يعكس توجها ضد المرأة. تفوق على أخوته واعتبر العلم والمعرفة وسيلته في الاستثمار، وكان يسافر كثيرا إلي الإسكندرية حيث أصل أمه، فعايش مجتمعا متعدد الهويات والثقافات، فتقبَّل التنوع والاختلاف. كان الاستقرار في كفر شكر ربما لقربها من العاصمة القاهرة، وارتبط اسمه بها كواحد من أعيانها المهمين. كان له توقعه بعد انتهاء الحرب الأمريكية أن محصول القطن سيتراجع، مما دفعه لزراعة العنب والبرتقال، حتى أن هناك إشارات أنه أول من زرعها في منطقته. أرسل أبنائه فيما بعد للتعلم في أوروبا. 

استقر بيته في كفر شكرالقرية الصغيرة التابعة لمركز ميت غمر بالدقهلية، وتزوج أربع زيجات في تواريخ مختلفة، وأنجب سبعة عشر بينهم ثلاثة عشر من الذكور، وأربع إناث. حديث عن زوجاته وأصولهن العائلية، ومن أنجبن من الأبناء، وحين توفي عام 1916 كان قد ترك لأبنائه نحو 744 فدانا في زمام كفر شكر والقرى القريبة. كانت سنوات التأسيس هذه وسط أحداث سياسية هامة، لكنه بما يمتلكه من وعي فضَّل الابتعاد عن الصراعات السياسية، فلم يكن ضد أو مع الثورة العرابية مثلا. كان معنيا بشكل أكبر بترتيب أوضاع عائلته وتربية أبنائه. لكنه صار عمدة لكفر شكر وكان هذا طبيعيا، ومن ثم دخل حلبة السياسة، وحصل علي البكوية من الخديوي عباس حلمي باعتباره من الأعيان الحائزين علي التقدير الشعبى، ودخل مجلس النواب بالانتخاب لا التعيين، وكان وقتها قي الستينات من عمره. كان قد استجاب لزوجته الثانية عزيزة نجيب في تعليم أولاده تعليما عصريا في بلاد الإنجليز، فسافر أولاده أمين ومحمود ومأمون - ليسوا من أم واحدة- لكن للأسف لم تكتمل الرحلة بسبب الحرب العالمية الأولي حيث سعى الأب لعودتهم خوفا أن يتعرضوا لأي مكروه. الطريف أنه حين أرسل يطلب منهم ذلك رد عليه محمود في برقية يقول" واير مي فيفتي". لم يفهموا قصده فاستعانوا بمدرس لغة انجليزية من المنصورة، فكر في البرقية قليلا ثم قال، أنها تعني ضرورة إرسال خمسين جنيها استرلينيا ليتمكن من الإنفاق على العودة. اهتم بتعليم بناته فاتفق مع مدرسين للغة العربية والإنجليزية والحساب على ذلك. كان من أعماله الخيرية الكثير من الإحسان، فمثلا أوقف عشرة أفدنة لخدمة الفقراء والمحتاجين من كفر شكر، وتضمن الوقف الإنفاق على التعليم والصحة والعبادة، وأنشأ مستشفي ومسجدا بكفر شكر وغير ذلك كثير. فيما بعد ستري كل من سيتحدث عنهم الكتاب من العائلة يفعلون الكثير جدا لكفر شكر.

في الفصل الثالث ندخل مع الجيل التالي من الأبناء. يبدأ برحلة إختفاء عبد الله النديم بعد هزيمة عرابي والاحتلال البريطاني، وكيف أخفاه عمدة قرية العدوة القبلية الواقعة بالقرب من مدينة طنطا. حكاية ندخل منها إلى فكرة أن كل العمد لم يكونوا أشرارا كما شاع عنهم، بل بينهم الأخيار والاشرار. ثم رحلة العمودية مع أبناء محيي الدين فؤاد وكيف أوصي بذلك بالترتيب. كان أولهم حسن الإبن الثاني من أبنائه الذي أقاله الإنجليز مع أحداث ثورة 1919 لدوره فيها مع أهل كفر شكر. لكنهم خشية من أهل القرية وضعوا مكانه أخاه أحمد محيي الدين الذي كان بدوره مغامرا في مشروعات لم تنجح، لكنه كان كبقية العائلة محبوبا. 

كان من لم يفز بالعمودية منهم محل احترام وتوقير، فكانوا هو المحكمين في الجلسات العرفية والمشاكل بين الناس فضلا عن الكرم، فتسجل مثلا صحيفة فلسطينية بإسم "الشباب" في عددها الصادر في 20 إبريل 1938 عن تبرع كريم من عبد المجيد بك محيي الدين أحد أعيان كفر شكر لمكتبة المسجد الأقصي بكتب ومجلدات علمية وفقهية. 

تقدم خليل الذي صار عمدة لعضوية البرلمان وفاز بها. كان صديقا لأحمد ماهر الوفدي فدخل على قائمة الوفديين، ثم قائمة السعديين حين تحول أحمد ماهر لحزب السعديين، وكان لخليل دور كبير في تطوير التعليم والصحة بالبرلمان. كان كأخوته كريما يوزع مثلا جنيهات ذهبية على الفقراء في قريته في المناسبات الدينية والأعياد. من الطرائف أنه أنجب ثماني فتيات وولدا واحدا مات طفلا، فسمي الإبنة السابعة "نهايات" انتظارا للولد، لكن جاءت الثامنة فتاة فأسماها "فضيلة" معترفا بفضل الله. رحلة مع بعض الأسماء مثل أمين محيي الدين والد خالد محيي الدين،  والمصاهرة وكيف كانت وسيلة بين العائلات للتوسع والنفوذ، وزواج الأبناء من عائلات شهيرة. كيف صار الطموح كبيرا للعمل الميري ودخول الكليات الحربية في مصر، ويقدم لهذا الفصل بمسيرة الضابط مصطفي كمال الشهير بأتاتورك، ومافعله من إنهاء الخلافة العثمانية، وكيف كان ذلك أحد أسباب محبة الكلية الحربية، كما صرح يوما عبد الناصر والسادات وحسني الزعيم في سوريا أن أتاتورك كان ملهمهم. اتسع الدخول للكلية قبل معاهدة 1936 فلم يكن الجيش قاصرا على أولاد الذوات فقط كما شاع، فدخل الكلية رجال مثل محمد نجيب وثروت عكاشة ويوسف صديق وأحمد كامل، لكنه اتسع أكثر بعدها، وكان من أبناء الجيل الثالث لعائلة محيي الدين نصيب، أولهم زكريا محيي الدين وسبقه ابن عمه محيي الدين أحمد محيي الدين إلي كلية الشرطة وغيرهم. كان ثلاثة من العائلة في حرب فلسطين نجا منهم زكريا وخالد واستشهد اسماعيل، وكان هناك ضابط رابع في البحرية هو أمان الله حافظ محيي الدين الذي درس البحرية وشارك في نهاية عام 1948 في عمليات قصف ميناء تل ابيب من البحر، كما كان هناك ضابط آخر من الجيل الثالث حقق الريادة في الرياضة هو محمد عبد المجيد محيي الدين الشقيق الأصغر لزكريا الذي كان بطلا في لعبة الشيش. جاءت حرب فلسطين غيرت كثيرا مما هو سائد وبدأ التفكير في تغيير الداخل قبل الخارج وكان هذا مقدمة لثورة يوليو التي تردد فيها اسم خالد محيي الدين وزكريا محيي الدين. 

كعادته في التقديم للفصول ليعطي بعدا دراميا للأحداث. يتحدث هنا عن جون إدجار هوفر، الأميركي الذي بسرعة الصاروخ أصبح مديرا لمكتب التحقيقات العامة وعمر تسعة وعشرين سنة، وكيف واجه النشاط الإجرامي المتسع في أميركا. مافعله وما واجهه من صعوبات ومؤامرات، لكنه صار أسطورة أمنية رفيعة المستوي لرجل الأمن الناجح. يدخل بعدها إلي زكريا محيي الدين ورحلته، وكيف أن البراجماتية الحاكمة  لشخصيته جعلته ينأى عن الإنجرار للحروب الكلامية. كان مشهورا بصمته واعتبروه بمثابة الصندوق الأسود لتنظيم الضباط الأحرار وحافظ أسرار ثورة يوليو. لقد ولد في كفر شكر في 7 مايو 1918 وكان من قدامي الضباط الأحرار. رحلته مع التنظيم، ولانه كان أسبق من جمال عبد الناصر في التخرج من الكلية الحربية، كانت العلاقة معقدة  بينهما، فكان ناصر يشعر أحيانا بالغيرة منه. مسيرتهما معا وعبد الحكيم عامر وحرب فلسطين ودوره اللافت في الحرب، وشهادات عن بطولته من رفاقه. كيف حدثت الثورة وأوكل إليه مجلس الثورة مهمة إدارة المخابرات الحربية. كواليس ذلك وكيف جعل عبد الناصر سامي شرف مع زكريا في المخابرات وهيئة الرقابة، وكانت حيطة ناصر منه لا تزال باقية. المهم أنه صار رجل أمن الثورة. كان حازما وأطلقوا عليه لقب "بيريا" وزير داخلية ستالين، لكنه لم يكن كذلك، وكان الأمر لتخويف زملائه منه وتشويه صورته، حتى لا يصبح بديلا للقيادة في أي وقت. كان من رافضي تنفيذ حكم الإعدام علي عمال كفر الدوار. كيف أوكلت إليه وزارة الداخلية ونجاحاته وقضايا هامة تم كشفها. كان ضد الإرهاب ومن ثم ضد الإخوان بعد الاعتداء علي جمال عبد الناصر في المنشية. كان زكريا يعارض انفراد عبد الحكيم عامر بالمؤسسة العسكرية لأن ذلك سيؤدي لكوارث وقد حدث. ولاه عبد الناصر أكثر من منصب ثم رئيسا للوزارة عام 1956 . كانت له أفكار ليبرالية بعيدة عن توجه الدولة الإشتراكي أو الشمولي كما تكشف وثائق منها وثيقة أميركية. أطلقت عليه بعض عناصر النظام " غلاء الدين" لرفع أسعار بعض السلع مثل الأرز فقدم استقالته. حين وقعت الهزيمة 1967 أعلن عبد لناصر في خطاب التنحي زكريا بديلا له، لكنه رفض بعيدا عن المظاهرات التي انطلقت لبقاء عبد الناصر، وتولي مسؤولية المقاومة الشعبية في مدن القناة، وظل جوار عبد لناصر حتي عام 1968 فتقدم باستقالته التي دعا فيها إلى إبعاد جهاز الأمن عن السياسة وفتح مجال الحريات. تفرغ بعد ذلك لانشاء مزرعة دواجن والاهتمام بالأراضي الزراعية، والجلوس بين أفراد عائلته في كفر شكر، والاحتفال كل عام بذكري استقالته في البيت وإحضار تورتة لذلك، وظل صامتا حتي رحيله عام 2012 . 

ننتقل بعد ذلك إلى خالد محيي الدين السياسي والمعارض الوطني. يقدم للفصل بإعدام قيصر روسيا وعائلته بعد الثورة البلشفية.

ولد خالد محيي الدين عام 1922 في بيت تظلله الصوفية والتسامح والسمو عن الماديات. تعليمه حتي تخرج من الكلية الحربية عام 1940 وعمره ثمانية عشر عما ليستقر بسلاح الفرسان. تأثره بعسكريين في تشكيل وعيه السياسي بأسمائهم، وكيف انفتح على اليسار من خلال تعرفه بالقاضي أحمد فؤاد، وانتظم معه فترة في تنظيم "أسكرا" لكن لم يطل به المقام، وتأكد إيمانه أن على رجال الجيش مسؤولية عظمى في إصلاح الأوضاع. كان يدرك ان توجهاته اليسارية قد تفقده وظيفته، فالتحق بكلية التجارة أيضا ليحصل على بكالوريوس شعبة المحاسبة. كان رافضا لأراء قتل الملك بعد محاكمة صورية، فالثورة نجحت دون إراقة دماء، ويجب أن تبقى كذلك، فلا تكون مثل الثورة البلشفية في روسيا. وكان رافضا لإعدام عمال كفر الدوار أيضا. في عام 1953 قرر إنشاء اتحاد للعمال، فرفض مجلس قيادة الثورة بناء على توصية من سيد قطب الإخواني، فقدم خالد استقالته من المجلس. في كل معارك الثورة مع الأحزاب كان موقفه واضحا أنه مع الديموقراطية. معركة الثورة مع محمد نجيب في ذلك، وكيف كان خالد في صف محمد نحيب في أزمة مارس 1954 فاستقال مرة أخرى، وطلب منه عبد الناصر أن يغادر البلاد، فغادرها إلي أوربا واستقر في جنيف. رحلته في الخارج وكيف رفض كل إغراءات الهجوم علي الثورة، وقصة عودته بعد اتصال هنري كورييل به وحثه على العودة والتعاون مع عبد الناصر من جديد. كان ناصر حريصا علي الصداقة القديمة فعاد خالد، وعرض عليه عبد الناصر إصدار جريدة اشتراكية مسائية فكانت جريدة المساء. من ضمهم إليها من كتاب اليسار، ثم تولي جريدة الأخبار بعد التأميم وفعل نفس الشيئ . حروب الصحافيين بسبب نجاحه. رحلته مع السادات وتكوين حزب التجمع . في عام 2002 ترك رئاسة الحزب لتكون الفرصة لغيره وتتحقق الديموقراطية وانتقال السلطة في الحزب، واعتزل الحياة العامة عام 2005 وإن ظل يتابعها حتي فارق الحياة في مايو 2018 .

ننتقل بعد ذلك إلى فؤاد محيي الدين. مع مقدمة عن ابن خلدون الذي تنقل بين البلاد في تونس والأندلس ومصر وغيرها، وكان يُحتَفي به من كل الملوك والحكام لأنه لم يتمترس عند تيار بعينه، وكان يحقق أحلامه وآماله عبر أي نظام بحنكة ووعي. كذلك كان فؤاد محيي الدين في مسيرته قادرا علي تنويع طموحاته ووضع بدائل عديدة لكل حلم. كيف حلم بالكلية الحربية بينما كانت والدته تريده أن يدخل كلية الطب، وحدث ذلك. ظهوره في الحركة الطلابية في الأربعينات والحركة العمالية، حتي أن الكاتب صبري أبو المجد يعتبره العمود الفقري للحركة الطلابية والعمالية وتجليات ذلك. حيرته في السياسة بعد ثورة يوليو فاختار العمل النقابي وكيف تم اختياره مشرفا على الاتحاد الاشتراكي بالقليوبية. طبعا خلال ذلك حديث عن زواحه وأسرته وأبنائه وكيف ترشح للبرلمان عن دائرة شبرا الخيمة، ثم ما جري بعد مقتل السادات 1981 واختياره رئيس وزراء عام 1982 .انجازاته من تشريعات وكيف كان يعمل من الخامسة صباحا وكان اهتمامه بصحته قليل وقال ابنه عنه أنه سيموت في العمل، وبالفعل مات في مكتبه في الخامس من يونيو 1984 .

يأتي الدكتور عمرو محيي الدين. كالعادة يبدا الفصل بحكاية ذات مغزي وهي هنا لقاء الدكتور عبد الوهاب المسيري عام 1965 وهو طالب في الولايات المتجدة مع العلم روبرت أوبنهايمر مكتشف القنبلة الذرية، وكيف كانت خلاصة اللقاء أنه لا علم بلا ضمير، فذلك يؤدي إلي خراب النفس. نقطع رحلة مع الدكتورعمرو محيي الدين، الأخ الأصغر لخالد محيي الدين وتجاربه في السياسة، وكيف تم القبض عليه أثناء أحداث أزمة مارس 1954 وهو طالب جامعي، وزكريا محيي الدين على رأس الأجهزة الأمنية، وهو ابن عمه، وكيف وافق زكريا ليس لموقف منه، لكن لفصله بين العمل والمعارف والصداقات. رحلة عمرو بعد شهور قضاها في السجن مع العلم، وحصوله علي الدكتوراة من إنجلترا والمراكز التي شغلها في الاقتصاد، ولم تكن من بينها الوزارة لأن الفكرة السائدة عنه هي المعارض. سفره للكويت وانجازاته هناك، وخلال ذلك حياته الشخصيىة كالعادة. أزمات قابلها مثل أزمة أحداث سبتمبر، حيث فصله السادات مع غيره من أعمالهم، وأزمته بعد غزو الكويت وعودته واستقالته من حزب التجمع الذي لم يوافق علي إدانة العراق. عودته في النهاية إلى مصر بعد خمسة وعشرين عاما من الغربة وإسهاماته الفكرية.

صفحات أخرى لأعلام من الجيل الثالث في تطوير الزراعة وفي الطب والقضاء والنيابة، ثم نساء من العائلة مثل السيدة دولت رشوان، وكيف كانت وراء تعليم أولادها وبناته الطب، بالأسماء طبعا والأحداث، فكانت ابنتها ألفت الأولى من بينهن تدخل الطب، وصارت طبيبة تحاليل شهيرة، و لها معمل تحاليل شامل في منطقة وسط القاهرة. كذلك السيدة مديحة كريمة خليل محيي الدين عضو مجلس النواب في العصر الملكي، ثم يعود يتأني عند الدكتور محمود محيي الدين.

 يبدأ كالعادة من حادثة لها دلالتها، وهي هنا خطبة طه حسين حين عاد حزب الوفد إلي الحكم عام 1950. لقد اختاروا طه حسين وزيرا للمعارف والجماهير كانت تحتشد حول مجلس الوزراء. طلب منه فؤاد سراج الدين أن يخطب في الجماهير. بعد نقاش قليل عما يمكن أن يقول خرج إليهم طه حسين وقال " أيها الناس . عدنا فعدتم" اختلف الناس في تفسير الخطاب، فمنهم من رآه عودة للوفد والجماهير، ومن رآه عودة للهتيفة والمنافقين، لكن المهم أنه كان الخطاب الأهم والأقوي والأكثر وضوحا  في تاريخ الوفديين. إنه حديث وزير تكنوقراطي وليس وزير سياسة، وهكذا يختلف التكنوقراط عن الساسة الشعبويين. كان الوزراء في مصر إما سياسيين أو تكنوقراط، وخاصة بعد ثورة يوليو. كان محمود محيي الدين يجمع بين الحسنيين. لقد اعتلى قمة الهرم التكنوقراطي في مجال علم الاقتصاد، في الوقت الذي امتلك بلاغة الخطاب السياسي. محمود محيي الدين أحد أهم رموز الجيل الثالث لعائلة محيي الدين. حديث تفصيلي كالعادة عن نشأته وتعليمه وارتباطه بجذوره في القرية. ما عاشه ولم ينقطع عنه بين أهلها، وماقدمه لهم من مشروعات. لم يدخل كلية الطب كوالده صفوت محيي الدين. اختار بعد حيرة كلية الاقتصاد وقابل عظماء الأساتذة. لم يبتعد عن السياسة فشارك في مظاهرات الطلاب بالجامعة عام 1984 وخطب في الطلاب. استغلت بعض الصحف ذلك، وربطت بينه وبين حزب التجمع الذي كان رئيسه خالد محيي الدين، لكنه حاول بعد ذلك أن يفلت بشخصيته من الاستقطاب السياسي، وواصل تعليمه في انجلترا ليحصل على الدبلوم والماجستير والدكتوراة في الاقتصاد وعلومه المختلفة. ما تولاه من مناصب وعلى رأسها وزارة الاستثمار. من أبرز ما في الرحلة أنه كان يتوقع نهاية عصر مبارك، وأن ما يحدث من انجازات هو مسكنات ستنتهي، وكان من رأيه انتهاء برنامج الخصخصة، فيكفي ماتم منه، ولا بد أن لا تتخلى الدولة عن دورها كاملا، رغم تشجيع القطاع الخاص، فالمهم هو الوصول لهدف التنمية وإن اختلفت الطرق.

رحلته حتي صار في مناصب دولية في إدارة البنك الدولي، الذي صار النائب الأول لرئيسه حتي عام 2020 ، وآخرها منصب المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة. رحلة مع حبه للأدب والفكر وقراءاته وغيرها. يكون هذا الفصل مقدمة لنماذج أخرى من الجيل الرابع للعائلة. لا يطيل هنا الحديث فهي نماذج تعيش كلها بيننا، والغرض من ذكر بعضها هو تأكيد مسيرة العائلة من أجل الخير للناس والعدل والحق. يفتتح المقال كالعادة بمسيرة الحرافيش في رواية نجيب محفوظ حيث تتصاعد الدراما أجيالا وراء أجيال لنشر الخير والعدالة، مما يحيلنا إلي المسيرة المستمرة للجد الصالح لعائلة محيي الدين، التي رأينا نماذج منها ملأت تاريخنا، وملأت فضاء كفر شكر بالعدالة والمشاريع العظيمة. نستمر مع الجيل الرابع مع أسماء مثل الدكتور معتز خورشيد وزير التعليم والبحث العلمي السابق في وزارة الدكتور عصام شرف بعد ثورة يناير، وكيف كان وراء استقالة الوزارة بعد الأحداث الدامية التي راح ضحيتها شباب الثورة في أحداث مثل محمد محمود. 

هو ينتمي إلى العائلة عن طريق الأم، فوالدته هي السيدة هدي أمين محيي الدين. ثم نواب للبرلمان مثل اللواء السيد البدوي محي الدين والنائب محمد زكريا نجل زكريا محيي الدين، ونماذج للعمل الدبلوماسي مثل السفير ابراهيم محيي الدين، وكوادر في جامعة الدول العربية مثل السيدة سميحة خالد محيي الدين. يتوقف أيضا عند النساء المتحققات في العائلة من الجيل الرابع مثل الدكتورة عزة مدكور استاذ أمراض الدم، والسيدة عزة محيي الدين كبيرة مراسلي الإذاعة البريطانية لأكثر من ثلاثة وعشرين سنة،  والدكتورة ماجدة توفيق اسماعيل محيي الدين، والدكتورة زينب محيي الدين.

ينهي الكتاب الرائع برؤيته عن مستقبل العائلة، وكيف ستحافظ الأجيال الأخيرة والتالية على اسم العائلة وإنجازاتها وتطورها، وتتسع في أعمال الخير وغيرها من الأعمال الإنسانية، فالجينات النفسية ستستمر بالمعرفة وحكايات العائلة، وسيبقى اسم محيي الدين لامعا بفضل تراكم عطاء  الرموز التاريخيين في الأجيال السابقة. كتاب مدهش في البحث والمعرفة، وما ذكرته هنا هو غيض من فيض. وهذا ليس غريبا على مصطفي عبيد الذي يثري الوطن بكتبه الرائعة.