مفهوم التنوير بين "إيمانويل كانط" وأعضاء مركز "تكوين"

ذات مصر

التنوير بلا شك فكرة محورية في بناء الحضارة الحديثة، وهو عمل خلاق أسهم فيه فلاسفة أوروبا منذ بدايات عصر النهضة التي شهدت تأكيدًا على مفهوم العقلانية من ناحية والتجريبية من ناحية أخرى مع التمرد على التراث الفلسفي للعصور الوسطى والسعي إلى الخروج من هيمنة الكنيسة ورجال الدين.
ومنذ أن أطلق ديكارت صيحته الشهيرة "العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس" ونادى بتحرير العقل من كل سلطة ورفع شعار "كن جرئيًا في استخدام عقلك" والتنوير يجري على قدمٍ وساق، ويساهم في تكوينه كل فلاسفة الغرب تقريبًا، الأمر الذي أدى إلى هزيمة كل الأفكار الخرافية المتعلقة بالسحر والتنجيم والقدرية المطلقة، فالإنسان يمكنه صنع مصيره إذا أعمل فكره بدون قيود واشتغل بيديه وفق تخطيط منظم وأفكار بناءة، ولهذا أدت فكرة التنوير إلى انتشار الصناعة وترقي البحث العلمي، وأنتجت لنا حضارة عملاقة لا زلنا نسعى إلى اللحاق بها.
والملاحظة التي يجب ألا تغيب عن بالنا أن فكرة التنوير جرت صياغتها من خلال أنساق فلسفية ممتلئة ومكتملة، أي أنها لم تكن شعارًا مجردًا ولكنها كانت أيضًا منظومة شاملة من أفكار متسقة مع بعضها، وقد نجحت هذه المنظومة بفعل "الإزاحة والإحلال" أي أنها لم تقف عند نقد الماضي بل عملت على إزاحة ما فيه من خرافات مع وضع بديل حضاري يمكن الاستغناء به عن الفكر الخرافي المعوِّق، وهو الأمر الذي نتسائل عن وجوده لدى الوجوه الإعلامية العربية أمثال "إسلام بحيري" فنحن نوجه له ولزملاءه من التنويريين هذا السؤال: هل لديكم بديل حضاري متميز يمكن إحلاله محل الأفكار والأشخاص التراثيين الذين تنتقدونهم دائمًا؟؟ ونترك لهم الإجابة على هذا السؤال، لأن الإجابة غير متوفرة لدينا حيث لا نرى منهم ولا نسمع إلا النقد المستمر للتراث دون الحديث عن أوجه العقلانية والتفكير العلمي.
التنوير التكويني:
بعد أن انتظرت النخبة المثقفة في مصر والبلاد العربية لعقود طويلة عملية "الإزاحة والإحلال" للارتقاء بالذهن العربي، ظهر مؤخرًا – كما نعرف- "مركز تكوين" للتنوير والتجديد الديني في مصر، ورواده كُتَّاب مشهورون يعرفهم القاصي والداني أمثال "يوسف زيدان" و"فاطمة ناعوت" والإعلامي "إسلام بحيري" والكاتب الصحفي "إبراهيم عيسى" وقد هوجم المركز فور الإعلان عن تأسيسه، وصدرت ردود أفعال كثيرة تدل على عدم تقبل الأكثرية في مصر لهذا المركز ورواده.
والجدير بالذكر أن كبار فلاسفة التنوير الأوروبيين رغم صدامهم مع الكنيسة إلا أنهم لم يهاجموا الدين نفسه؛ بل رأينا أن "رينييه ديكارت" الملقب بأبي الفلسفة الحديثة كان مسيحيًا كاثوليكيًا متدينًا، كما رأينا "كانط" يؤلف كتابًا شهيرًا بعنوان "الدين في حدود العقل وحده" وهو كتاب لا يريد إلغاء الدين بل يريد عقلنته وتنقية الأذهان من الخرافات التي التصقت بالدين وهي فكرة وجدنا جذورها عند الفيلسوف "أفلاطون" في كتابه "الجمهورية".
صدام التنويريين في مصر مع القاعدة الشعبية:
من الواضح أن رواد مركز "تنوير" لم يقفوا عند حدود عقلنة الفكر الديني بل رأيناهم يناقشون في جرأة بعض المعتقدات، وهو الأمر الذي لم يسعَ إليه آباء التنوير الغربيين فالأمور الغيبية عندهم ليست مجالًا للإصلاح وليعتقد من شاء ما يشاء، فالمهم هو إعمار الأرض لا نقد الأديان، والتمرد على سيطرة رجال الكنيسة لا تعني بالضرورة الهجوم على الدين نفسه؛ بل إن الفيلسوف "ليبنتز" وهو أحد أباء الفلسفة الحديثة كان حلم حياته هو توحيد الكنيستين "الكاثوليكية" و"البروتستانية".
وفي المقابل عندنا رأينا الكاتب "إبراهيم عيسى" مثلًا ينكر المعراج النبوي إلى السماوات صراحةً، كما ينكر عذاب القبر ونعيمه أو "حياة البرزخ" وهي محل إجماع عند "أهل السنة" أما الكاتب "يوسف زيدان" فيقول إن المسجد الأقصى ليس في فلسطين بل هو في الطائف، وإن النبي الكريم لم يذهب إلى القدس، ثم يهاجم "صلاح الدين الأيوبي" ويصفه بالدموي، في حين دأب "إسلام بحيري" على مهاجمة الأئمة الأربعة والقول بأن غير المسلم له نصيب من الجنة إذا لم يؤذي أحدًا، وهي قضية أخروية شائكة جدًا حيث من شأنها إثارة النعرات الطائفية، وطالما أن المصير الأخروي "الجنة والنار" بيد الله وحده وطالما أننا الآن نعيش في الدنيا فلماذا يتجادل المسلمون وغيرهم في هذه القضية التي لن تحسمها أية حلول وسطى؟ أما كان من الأجدر أن نتعايش ونتعاون ونترك الجنة والنار لمالك يوم الدين؟.
وحتى نعرف ما هو "التنوير" نستعرض الآن حياة الفيلسوف "كانط" رائد التنوير ومسيرته الفلسفية بشيء من الاختصار، فربما كانت رؤيتنا لمسيرته الفكرية ضوءًا كاشفًا نسير عليه ويسير معنا "التكوينيون" إذا أرادوا إصلاحًا فكريًا حقيقيًا.
الفيلسوف إيمانويل كانط .. رائد التنوير:
" الإنسان الحر هو من يملك الإرادة ".. هذه العبارة هي شعار الفيلسوف "كانط" في حياته الممتدة على مدار ثمانين عامًا، والسبب الرئيس في نجاحه الشخصي، وهي شعار كل مفكر حقيقي لم يعرف التقليد والتبعية، وكل رافض للقيود، وكل ثائر على سحق الذات واغترابها، وكل طموح يريد أن يغير مساره نحو الأفضل دائمًا.
ولد "إيمانويل كانط" رائد حركة التنوير الألمانية في العقد الثالث من القرن الثامن عشر، وبالتحديد عام 1724، أما دراسته فكانت في جامعة "كونزبرج" التي عمل فيها أستاذًا للفلسفة بعد تخرجه منها، وعُرِفَ بتميزه في الشرح؛ غير أن أسلوبه في الكتابة يُعَدُّ صعبًا للغاية حتى إن القارئ ليشعر أمام عباراته بأنه يقرأ طلاسم أو ألغاز، ومن الواضح أن هذه الصعوبة في الطرح هي السبب الأول في نفور أكثر المتعلمين من قراءة الفلسفة.
ورغم أن قراءتنا لما كتبه شُرَّاح الفلسفة الحديثة وباحثوها عن كانط تؤدي بنا إلى الإيمان بأهمية منجزه الفلسفي نظرًا لعمقه واتساعه؛ إلا أنه لصعوبة كتاباته لم يحظَ بأية شهرة في بادئ الأمر، وفي القرن العشرين بدأ الباحثون ينتبهون إلى أهمية التراث الكانطي، وخاصة ما كتبه حول تفسير وتحليل عمل العقل البشري، ونقده للعقل الخالص، وفلسفته الأخلاقية.
ويمكن تلخيص عمل كانط من أجل التنوير في نقاط محددة؛ من أهمها أنه أعطى الحضارة الحديثة منظورًا مختلفًا للإبستمولوجيا أو "المعرفة والإدراك" فقد انقسم الفلاسفة كما نعرف إلى ماديين أو "حسيين" وإلى مثاليين أو"عقلانيين" بمعنى العقل المحض، وهؤلاء لا يأبهون بالظواهر المحسوسة وإنما ينطلقون من المُثُل، وعلى رأسهم بالطبع "الفيلسوف أفلاطون" ومفهوم الإدراك عند الحسيين يقوم على استقبال الأشياء الخارجية عن طريق الحواس الخمس، وهذه الحواس كما نعرف لها وظائف محددة لا تعدوها، وهي: السمع والبصر والذوق والشم واللمس، ومن هنا تبدأ المشكلة في هذه الفلسفة التي اشتهرت باسم "التجريبية" لأنها لا تؤمن إلا بما دلت عليه التجربة.
ومشكلة الفلسفة التجريبية أنها ترى ظاهر الأشياء وليس الأشياء نفسها؛ فعندما يرى الإنسان شيئًا ما بعينه فإن ما تلتقطه هذه الكاميرا البشرية وتسجله هو "صورة الشيء" والشيء لا ينحصر في صورته فقط، ولذلك فإن إدراك الإنسان لا يكتفي بالصورة بل يبحث عما وراءها، ومن هنا ينشأ الفكر وتبدأ الفلسفة؛ ذلك أن المرء لا يقف عند حدود رؤية الظواهر ورصدها؛ بل إنه يعطيها فهمه الخاص لتبدأ رحلة المنطق والأخلاق، وبذلك يكون معنى الإدراك هو قدرة الإنسان على تجاوز الظواهر والارتقاء بها أو السمو بمعناها.
فيمكن القول إذن أن المعرفة عند "كانط" تنقسم إلى عنصرين هما: المادة والصورة؛ بحيث لا توجد المادة في الذهن بغير صورة، فالصورة هي الحامل الذي يدرك به الإنسان طبيعة المادة ووظيفتها، وهي ليست مهمة إلا من حيث ما تؤديه لنا في هذا الإطار، لأن مهمتها تنحصر في الاتحاد بالمادة وإظهارها لتنشأ عملية الفكر، وهذا المذهب عند "كانط" هو نفسه مذهب "أرسطو" الذي أسس المنطق ليتوصل من خلاله إلى البرهان في العلوم الطبيعية، وآمن بأن الكون يتألف من المادة ويسميها "الهيولى" والصورة، لتكون المعرفة واقعية تمامًا لا تقوم على ماوراء الطبيعة وإنما على الطبيعة نفسها، وهذا في تصوري أفضل ما في فلسفة أرسطو وكانط، أعني بوضوح الانطلاق من الواقع.
ولا تعني واقعية كانط أنه يتجنب الحديث عن الأخلاق، وإنما يربط هذا الفيلسوف بين الواقع والأخلاق، وكثيرًا ما تفكر في هوان الكائن الإنساني وفي عظمته بنفس الوقت، وحاول بموضوعية ونزاهة أن يفهم التنازع الداخلي في كل واحد منا بين الشر والشهوة وبين الخير والفضيلة.
وبهذا تبدأ رحلة الأخلاق عند "كانط" الذي يُحسَب له أنه ربط بين مبحث المعرفة وبين مبحث القيم في الفلسفة، كما أنه ربط بين عقلانية "ديكارت" وتجريبية "جون لوك" وأخلاقية "اسبينوزا" ويتجلى هذا الربط المُتْقَن في إيمانه بالحواس باعتبارها نقطة البداية في المعرفة، ثم يأتي بعدها دور العقل من خلال فهم الظواهر المرئية، ولأن الإنسان يفهم ما لا تفهمه الكائنات الأخرى فإنه بالتالي يصبح مسئولًا عن أفعاله؛ لأنه يدرك الصواب والخطأ، ولا يمكن أن نلوم شخصًا على أفعاله إذا كان لا يفهمها؛ فهل يمكن أن نلوم الذئب على غدره وافتراسه، وهل يمكن أن نلوم الأسد لأنه أكل مدربه؟! وهل يمكن أن نلوم الثعبان لأنه سام؟ إنها كائنات لا تملك إرادة بل تسير بالطبع والغريزة، ولأن الآدمي يملك إرادة فهو "حر" وهذه الحرية هي التي تجعل إثمه عليه، لأنه مدرك للخير والشر، وحر في اختيار أيٍ من الطريقين، ومن ثم حين يختار الخير يُثَاب، وحين يختار الشر يُعَاقَب.
ونحن لا نتوقع من العقرب ألا يلدغ، لأنه لا يفهم أن اللدغ قد يسبب الموت ويجعله قاتلًا، ولكننا نتوقع من الإنسان أن يتوقف عن أذى الآخرين لأنه ليس حشرة بلا فهم، فهو يميز الخير من الشر ومع ذلك يختار الشر لأنه عطَّل الإرادة، وانساق مع أهواءه وزعم أنه ذكي مع أنه في قمة الغباء، فالشر ليس من القوة والذكاء في شيء؛ وإنما ينتج عن غياب الحكمة وضعف النفوس.
ويترتب على ما سبق أن "كانط" لم يكن ماديًا صِرفًا، كما أنه لم يكن مثاليًا بالكامل؛ ولكنه من هذا الفصيل الفلسفي الذي جمع بين الرؤية المادية والنزعة المثالية، فهو يربط بين الفهم وبين الإرادة، ويرتب عليهما فلسفة أخلاقية دعامتها تقييم مسئولية الإنسان وفهم النفس البشرية والظواهر النفسية.
ومن الناحية العملية استفاد علماء القانون من فلسفة "كانط" عدم معاقبة مرتكب الفعل الإجرامي إذا كان لديه قصور في الإدراك أو غياب للفهم، وبالتالي لا يمكن لنا مؤاخذة المصابين بالأمراض النفسية التي ينتج عنها فقدان الإدراك الصحيح، مع العلم بأن الشخص الذي يدرك بالضبط ما هو العقل وما هو الجنون، هو نفسه الشخص المتهم بالجنون عند العامة في بلادنا العربية، ألا وهو الفيلسوف!
ولا شك أن هذه الصورة الشعبوية السائدة في البلاد العربية ستضمحل وتنتهي إذا عرفنا من سيرة كانط وغيره من رواد التنوير أن الفيلسوف رجلٌ حكيم وعقلية متميزة تساهم في تطوير حياة المجتمعات، وآية ذلك أن "كانط" من أكبر المساهمين في نشأة التنوير الأوروبي، وهو أحد المفكرين الذين ترجع إليهم الإنسانية بين الحين والآخر لتنهل من فلسفته، نظرًا لخصوبتها وكونها مركزًا للإشعاع الفكري.
وربما كان أجمل ما في فلسفة "كانط" تأكيده على أن "الإنسانية" في حد ذاتها جديرة بالاحترام وهي "الكرامة" فأنت محترم بالضرورة لأنك إنسان، ولابد أن تحترم نفسك ولا تُهِنْها بدعوى حملها على الخير والاستقامة، أو بدعوى معاقبتها لأنها ارتكبت خطيئةً ما، وكل فكر لا يوقر الإنسان هو فكر قاصر وهمجي، كما أنك تحترم نفسك من خلال عدم فعل ما ينقص قدرها وما يحط منها، وذلك بالبعد عن الانحراف وعما يُخِل بالمروءة. وكما تحترم ذاتك لأنك إنسان؛ يجب عليك أن تحترم في الآخرين إنسانيتهم.
جدير بالذكر أن هذه الفلسفة الرائعة تعتبر محطة فاصلة في مسيرة الفلسفة الحديثة، فكما قسم مؤرخو الفلسفة اليونانية تاريخ هذه الفلسفة إلى ما قبل سقراط وما بعده، قسم مؤرخو الفلسفة الحديثة الفكر الغربي الحديث إلى مرحلة ما قبل إيمانويل كانط، ومرحلة ما بعده، وإنه لمن الرائع حقًا أن نجمع بين العقل الواعي وحسن الخُلُق، بين الذكاء ودقة الفهم وبين النزوع إلى الخير.