هشام النجار يكتب: أحمد فرج فودة وزملاؤه.. ثلاثة مشاهد!

ذات مصر

مشهد أول:

في كتابه (نكون أو لا نكون) أهدى المفكر الكبير فرج فودة الكتاب إلى زملاء ابنه أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده، تصديقًا لما سمعوه من آبائهم عنه.

مشهد ثان:

بدا أن هناك مشهدا ثانيا جمع بين فودة وابنه؛ فالرجل عانى من تشويه السمعة الذي طال علاقة ابنه بزملائه بالمدرسة؛ وها هو يسقط أمامه مضرجًا بدمائه؛ ليتأكد تمامًا أن والده مستهدف ليس فقط بتشويه السمعة والاغتيال المعنوي إنما بالتصفية الجسدية وإزهاق الروح.

في مثل هذه الأيام وفي الثامن من يونيو 1992م، اغتيل فودة على يد عضوَين من (الجماعة الإسلامية)، كانا يستقلان دراجة وأطلقا النار عليه أمام جمعية التنوير المصري في شارع (أسماء فهمي)؛ ما أدى إلى مقتله، وإصابة ابنه وصديق كان برفقته وعدد من المارة بجروح.

مشهد ثالث:

أرى أن الأمر لم ينتهِ وأن مشهد اغتيال فودة أمام ابنه في يونيو 1992م ليس الأخير، ما يعني الاستسلام لفرضية أن أباه سيئ ولذلك يمنع الناس أبناءهم من زيارته لمشاركته الاحتفال بعيد ميلاده، وتاليًا الاستسلام لفرضية أن فرج استحق مصيره بالقتل لأنه سيئ أو أتى بأمور سيئة.

لا يزال أحمد فرج فودة وأصدقاؤه في مشهد الأحداث، ولابد وأن الجيل الحالي بمن فيه أحمد ورفاقه قد علموا الكثير مما جهلوه سابقًا تحت تأثير تجهيل آبائهم، ولابد من أن الفضول دفعهم لمطالعة كتب فرج فودة ليكتشفوا إن كان مخطئًا أم لا، وليقارنوا بين آرائه ومستجدات الواقع، ليرجحوا ويوازنوا إن كان حقًا قد قال حقًا وتحققت رؤاه، وكانت تحذيراته وتنبيهاته في محلها، أم أنه كان مجرد واهم وبه من الصفات ما يروجه خصومه.

تعالوا معًا لنتابع تسلسل الأحداث ونتخيل كيف دار المشهد الثالث.

ظهر من نتائج انتخابات عام 2012م  تعاظم أعداد ما يُعرف بتيار الإسلام السياسي ووضح خلال الفعاليات واللقاءات العامة لهذا التيار الذي يُنسب إليه الدور الأكبر في نشر مظاهر التشدد والغلو وما ترتب عليهما من إرهاب أنه استفاد من الفترة بين 1970م إلى 2010م عبر بناء قاعدة ضخمة تعتنق الرؤى المنغلقة الجامدة من منطلق تقييد العقل وحرية الفكر.

خلال تلك المرحلة ونتيجة تجهيل قطاعات من المجتمع وعدم الوعي لدى الغالبية بأصول الصراع وخلفياته خرجت ردود الأفعال الشعبية باهتة على وقائع كبيرة مثل اغتيال مفكرين وسياسيين كبار، وصولًا للسماح بحدوث النكسة الكبرى بصعود جماعة الإخوان إلى حكم أهم وأكبر بلد عربي وهي مصر.

أحرص على قراءة ما تقع عليه عيني من إنتاج مفكري العالم والمتخصصين في تيار الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة، ولم أعثر طوال سنوات على ما هو أدق استشرافًا لما هو آت مما كتب المفكر نادر التكرار الدكتور فرج فودة.

وهو الذي أسال دمَه هؤلاء (السائرون خلفًا، المتحدثون ترفًا، الممسكون سيفًا، القارئون حرفًا التاركون حرفًا) –بحسب وصفه العبقري لأعضاء الجماعات التكفيرية المتطرفة-

وصف فودة وقائع ما جرى أثناء عام حكم الإخوان وما بعده وثورة يونيو الشعبية التي ساندها الجيش كأنه لم يمت قبلها بسنوات وكأنه حي بيننا يرى من نراه ويعايش ما نعايشه.

حدد بدقة مواضع الخلل وأشار بإصرار على مسالك السير التي تصلنا بالحياة المدنية المتحضرة مستلهمين لقيم العدالة والمساواة وروح الكفاءة الإدارية والسياسية، ومطبقين لجوهر الفكر العلمي والخبرة الإنسانية، متمردين على الاستبداد باسم الدين وباسم أي شيء آخر.

نقرأ تفاصيل عام حكم الإخوان عام 2012م في خاتمة كتاب فرج فودة "النذير" الذي اغتيل عام 1992م؛ حيث دق فيه جرس الإنذار مبكرًا، محذرًا من تسلل الإخوان إلى مفاصل الدولة لتصبح دولة موازية.

ولا ننسى أن الدكتور فرج فودة أثناء مناظرة معرض الكتاب الشهيرة قال: إنني لا أقبل أن يُهان الإسلام على يد من يزعمون تمثيله ويرفعون شعاراته دون امتلاك إجابات عن أسئلة الواقع ومقتضيات الحاضر! وبالفعل فقد أهانوا الإسلام وأساءوا لسمعته عندما فشلوا في الحكم زاعمين أنهم يمثلون الإسلام.

طلب فودة من الإخوان ودعاة الدولة الدينية برنامجًا سياسيًا مفصلًا للحكم فكفروه وحرضوا على قتله، والمفارقة المدهشة أنهم فشلوا في الحكم لأنهم لم يمتلكوا هذا البرنامج وتلك الرؤية الشاملة التي ألح عليهم فودة بشأنها قبل أن يتجرأوا ويزعموا أنهم قادرون على إدارة وحكم دولة بحجم ومكانة مصر.

أما الخاتمة ففيها أعجب ما قرأت؛ لأنه تنبأ بكل شيء ووصف ما جرى منذ ثورة 30 يونيو 2013م إلى الآن كأنه يراه رأي العين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

قال فودة إن الإخوان ما داموا وصلوا إلى هذا المستوى من غرور الإحساس بالقوة فلا بد من أن ينتهوا إلى انكسار قريبًا، وسيزدادون عتوًا وستزداد الكثرة لهم عداءً وكرهًا، ولن يستمر البسطاء بعيدًا عن المعركة، وإنما سينتصرون لمن حاولوا أن يجعلوا حياتهم أجمل وأكثر بهجة وإشراقًا، ضد كل من يهوى الظلام ويسعى للإظلام.

قال ستنفجر قنابلهم وتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون في النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غاليًا حين يحتقرهم الجميع ويرفضهم الجميع ويطاردهم الجميع.

وقال سوف تدمر أغلبيتهم الغبية كل هذه الفعال، بل وأكثر من ذلك، سوف ينقسمون على بعضهم ويهاجمون بعضهم البعض، وسوف تستجمع أجهزة الدولة ما بقي لها من شجاعة، وسوف تلملم ما تبقى لها من سلطة وهي بلا حدود.

قال سيمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، سينتحرون بغرور القوة وحمق الصبية وآثام الكبار، وستدور الدائرة عليهم من جديد لأنهم لا يقرؤون التاريخ إلا لكي يكرروا أخطاءه.

قال المفكر ذو البصر النافذ: ستنقلب الأغلبية الصامتة عليهم بأعنف مما يتخيلون، ولن يرحمهم الشعب، وسوف تكون استعادة الدولة لهيبتها استجابة مباشرة لإرادة الشعب.

ودعا الجميع أن يضعوا الإسلام في مكانه الصحيح بعيدًا عن الاختلاف وعن الفرقة وعن الإرهاب وعن الدم وعن المطامع.. وكررها مرتين -"المطامع"-.

ثم خاطب مصر:

يا مصرنا العظيمة لن يرثك السفهاء أبدًا ولن يحكمك الجهلاء أبدًا، فأنت الوجود وأنت الخلود، وأنت البدء وأنت الانتهاء، وأنت العطاء، وأنت الحياة، ولا حياة إلا بك ولا حياة إلا لكِ يا مصر.

من الأكيد أن أصدقاء وزملاء أحمد فرج فودة ومن لا يزال منهم حيًا يُرزق قد عاصر حكم الإخوان والثورة عليهم، ومن الأكيد أنهم سبق وقرأوا كتاب والد زميلهم الذي أهداهم إياه (نكون أو لا نكون) و(النذير) و (قبل السقوط) و (الإرهاب) وغيرهم وطالعوا مقالاته بالصحف والمجلات، وأنهم قد اكتشفوا أنهم خُدعوا وأن الرجل الذي طولبوا بإحراج ابنه في عيد ميلاده نكاية فيه كان سابقًا لعصره ومفكرًا عبقريًا ومخلصًا لمصالح وطنه العليا، وأنه لم يكن ضد الإسلام بل كان يحبه وحريصًا عليه في مواجهة من يشوهونه ويستخدمونه كأداة لتحقيق مصالحهم الضيقة.