المغنيات الشعبيات.. في انتظار بعث جديد

ذات مصر
  عرفت ساحة الغناء الشعبي نجمات كبيرات، حققن شهرة وجماهيرية واسعة، وأصبحن يمثلن علامات رئيسية ومحطات مهمة في مسيرة هذا الغناء. وعرفت أفراح الزفاف و"الحنة" -وأحيانًا الموالد- في أنحاء القطر المصري، بقراه ونجوعه وحواريه أصوات: خضرة محمد خضر، وجمالات شيحة، وفاطمة عيد، وسيدة غريب، وفاطمة سرحان، وبدرية السيد. يحتاج الغناء الشعبي إلى خامة صوتية تعكس روح الحارة والريف، لا يصلح عبدالوهاب ولا عبدالحليم ولا محمد فوزي لهذا اللون، ولا يتماشى معه صوت شادية أو سعاد محمد أو وردة، فكلما زادت رومانسية الصوت ونعومته ابتعد عن الغناء الشعبي، لذا فإن ميدانه ومساحته كانت محجوزة دائمًا لأصوات تعرف كيف تصل إلى "ابن البلد". يكتسب الغناء الشعبي صفته بالتميز عن الغناء التقليدي السائد، الذي فرضته وهندسته النخبة الفنية المصرية، عبر قرن من الزمان ليكون متوافقًا أيضًا مع النخبة الاجتماعية والطبقة الوسطى التي كان عليها قوام المجتمع المصري لعقود خلت. ورجاليًّا، عرف هذا الفن عددًا من الأصوات المهمة، ومطربين صاروا لاحقًا "سوبر استار" جماهيريًّا وتجاريًّا، وفي السجلات الأساسية لهذا اللون من الغناء يذكر التاريخ أسماء: محمد العربي، ومحمد طه، وشفيق جلال، ومحمد رشدي، ومحمد العزبي، وأحمد عدوية، وحسن الأسمر، وعبدالباسط حمودة، وصولًا لأحمد شيبة الذي غنى معه الشعب المصري كله "آه لو لعبت يا زهر". الطبيعة الصوتية المطلوبة لمطرب الغناء الشعبي ضيقت هذا الميدان كثيرًا على الأصوات النسائية، وإذا كان الرجال والنساء يتقاسمون الغناء التقليدي السائد، فليس الشأن كذلك فيما يخص الغناء الشعبي، فمطربوه أضعاف مطرباته، لكن هؤلاء المطربات استطعن أن يتركن بصماتهن المميزة على مسيرة هذا الغناء، بل وأن يخلقن منه قسمًا خاصًّا، أو لونًا نسائيًّا لا يمكن للمطربين الرجال تأديته. للغناء الشعبي لغته الخاصة، المستمدة من العامية المصرية المباشرة، لكن للغناء الشعبي النسائي لغته المميزة أيضًا، ألفاظ وتراكيب توضع خصيصَا لتغنيها امرأة، فالمطرب الشعبي الرجل لن يغني كلمات تقول: م الفجر قمت ع اللبن خضيته.. وجريت لأبوه لاجل الصلاة صحيته.. معجبش أمه قامت مزعقة فيا. ولا كلمات تقول: جاب لي المنديل أبو قوية.. وكواني بناره يا خويا.

زينب المنصورية

بالبحث عن التاريخ المدرك للغناء الشعبي النسائي، الذي حملته لنا حقبة الأسطوانات، لا بد أن يصل المهتم إلى اسم زينب المنصورية، أشهر المطربات الشعبيات في العقود الأولى من القرن العشرين. ولدت بالمنصورة عام 1898، فنسبت إلى مسقط رأسها، وتزوجت من الحاج حسن عبده، أحد أشهر عازفي المزمار البلدي. ولحلاوة صوتها وأدائها طلبتها شركات الأسطوانات، فسجلت بعض طقاطيقها ومواويلها لشركتي بيضافون وبوليفون. ومن المهم أن نذكر أنها شاركت مع فرقتها في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الشهير عام 1932، وهو ما يعني أن النخبة الموسيقية المصرية كانت تراها خير ممثل لهذا اللون. لم تطل الرحلة الفنية لزينب المنصورية، إذ رحلت على الأرجح عام 1934، لكن زمانها عرف مطربات شعبيات مشهورات، أمثال: السيدة السويسية، وفريدة الإسكندرانية، وبهية المحلاوية؛ لكن لم تحز أيٌّ من هؤلاء المطربات المكانة الفنية للمنصورية. [embed]https://www.youtube.com/watch?v=PZbnVTFLmRg[/embed]

زينب المنصورية "وأنا بجني الفل جرح إيدي"

خضرة محمد خضر

تعد خضرة محمد خضر أشهر الفنانات الشعبيات المصريات في القرن العشرين، اكتشفها رائد الفولكلور زكريا الحجاوي، ثم تزوجها، أعجب بصوتها وغنائها، وكتب لها عشرات الأغنيات والمواويل، وأحيا معها اليالي والموالد في مختلف مدن وقرى مصر. شاركت خضرة بالغناء في كثير من الأفلام السينمائية، والمسلسلات الإذاعية، واشتهرت بتقديم القصص الشعبية، مثل: "أيوب وناعسة"، و"أيوب المصري"، كما قدمت مربعات ابن عروس. أما أشهر أغنياتها فكانت "على ورق الفل دلعني" التي صارت مشتركًا عامًّا لكل الفنانات الشعبيات حتى اليوم. لا يُعرف تاريخ ميلاد خضرة على وجه الدقة، والغالب أنها استقبلت الدنيا في ثلاثينيات القرن الماضي. ورحلت خضرة عام 1998، مخلفة تراثًا ضخمًا من مختلف أشكال الغناء الشعبي.

"أنا شرقاوية يا ولا"

تعتبر جمالات شيحة، عميدة للغناء الشعبي المصري، فهي صاحبة أطول رحلة غنائية بين مطربات هذا اللون، إذ امتد عطاؤها في هذا الميدان لنحو 6 عقود. ولدت عام 1933 بمحافظة الشرقية، وافتخرت بذلك في أغنية مطلعها: أنا شرقاوية يا ولا. وكالشأن في قصة خضرة محمد خضر، كان زكريا الحجاوي باب ظهور شيحة وشهرتها، إذ طلب منها الانتقال إلى القاهرة، فاستجابت، وسكنت منطقة إمبابة الشعبية، وظلت بها حتى رحيلها في مايو 2018. كانت شيحة مستودعًا ضخمًا للموال البلدي، والقصص الشعبي، عرفتها الموالد في أنحاء مصر، وعرفتها أيضًا مسارح أوروبا وآسيا سفيرة لهذا اللون المهم من الغناء المصري. [embed]https://www.youtube.com/watch?v=GaqHYLNH0-E[/embed]

جمالات شيحة في وصلة غناء ومواويل

في أواخر التسعينيات بدأت مرحلة جديدة في حياة جمالات شيحة الفنية، إذ التقت مع الموسيقار فتحي سلامة، مؤسس فرقة "شرقيات"، وقدمت شيحة مع سلامة عشرات الأعمال، وأحيت عشرات الحفلات داخل مصر وخارجها، وكان أشهر الأعمال التي قدمها لها سلامة أغنية "رسيني" التي تعبر عن مشاعر أم فقدت ابنها، وهو ما توافق مع حالة شيحة، التي فقدت ابنها بعد أن مات غرقًا في ترعة التوفيقية. كانت تؤدي الأغنية بتأثر شديد، وتبكي مع كلماتها: يا ساقية عذاب، فين اللي راح، فين اللي غاب، قوليلي راحوا فين، واشكي الفراق لمين، وأروح لمين، إيه اللي باقي من بعد اللي راح، غير الجراح، أنده عليك يا حبيبي، ولا أنت داري بي في بعدك.

فاطمة عيد وإرهاصات التحول

مع دخول عقد الثمانينيات، سطع في سماء الغناء الشعبي اسم الفنانة فاطمة عيد، لم يكن جمهورها من المهتمين بهذا اللون فقط، بل صارت ظاهرة، وعاملًا مشتركًا في أفراح الشعب المصري من الإسكندرية إلى أسوان، سواء بنفسها أو بتسجيلاتها، وساهم التليفزيون في انتشارها غير المسبوق. مثّلت فاطمة عيد مرحلة وسطى، فرغم محصولها الكبير من التراث والفولكلور الشعبي، إلا أنها اهتمت بتقديم أعمال جديدة، بكلمات تُكتب وتلحن لها خصيصًا، وبدا أن ما تقدمه يختلف بقدر ما عما عرفه الجمهور من خضرة وجمالات، وبدأ التغيير يطال الشكل والهيئة. لم تتمسك فاطمة عيد دائمًا بالجلباب البلدي، ولا منديل الرأس "المدندش"، لكنها بقيت في الإطار العام للأغنية الشعبية. [embed]https://www.youtube.com/watch?v=opglDAMreeI[/embed]

فاطمة عيد "هنعلق البنور"

تزوجت فاطمة عيد من الممثل ورجل الشرطة اللواء شفيق الشايب، الذي أسهم بقدر كبير في كتابة أغنيات جديدة لزوجته. وبعد أن توقفت فاطمة عن تقديم أعمال جديدة لمدة 10 سنوات، عادت مرة أخرى عام 2015 بألبوم جديد من 10 أغنيات كلها من تأليف زوجها. الحداثة النسبية التي ظهرت بها فاطمة عيد، كانت تمهيدًا لتحولات كبيرة ستطرأ على طبيعة وشكل الأغنية الشعبية. ظهرت المطربة شفيقة، تقدم لونًا مختلفًا في كلماته وألحانه، ارتدت ملابس حديثة، لكن حتى شفيقة، كانت تمهيدًا ومرحلة وسطى بين فاطمة عيد، ومآلات هذا الفن. [embed]https://www.youtube.com/watch?v=FvWIgI_LO1o[/embed]

شفيقة "جاي بيشكي"

مشهد مغاير

مع ثورة الاتصال، وهجمة الحداثة التي لا ترحم، ومع رحيل جمالات شيحة، واعتزال فاطمة عيد، وتواري فاطمة سرحان، بدا مشهد الغناء الشعبي النسائي مختلفًا، وَهَتْ الصلة بالفولكلور والتراث، واختلفت الآلات المصاحبة، وتغير تمامًا زي المطربة، لم يعد الجلباب البلدي رمزًا وعنوانًا للمطربات الشعبيات الجدد (بوسي، وأمينة، وهدى). انقطع حبل التراث الممتد، صار الموروث هامشيًّا، والأعمال الجديدة هي الأصل، انتهت ليالي الموالد، وملاحم أيوب وناعسة، ومواويل الحكمة الشعبية، قطعت الكليبات المصورة سلسلة الرواة ذات الإسناد العالي، وتراجع "صحيح" الغناء الشعبي النسائي، وانزوى بعيدًا، في انتظار بعث جديد. [embed]https://www.youtube.com/watch?v=pUMs02yTb34[/embed]

أمينة تغني "عاش يا وحش"