عبد الخالق فاروق يكتب: الاقتصاد المصري.. بين القدرات الكامنة والعجز المزمن (1-3)

ذات مصر

غالبا ما تساءل المصريون : هل نحن بلد فقير حقا ؟ 

ولعقود طويلة كان المصريون يواجهون بخطاب سياسي وإعلامي رسمي يكرر دون تردد: 

  • نعم نحن دولة فقيرة .. بل نحن بلد فقير قوى.

وقد أخذت هذه المقولة السامة أشكالا وعبارات وصور متعددة، فتأتى مرة في صيغة "نحن نفتقر إلى الموارد والإمكانيات "، أو في عبارة "نحن بلدا كثيف السكان يتوالدون بكثرة ، فتبتلع ثمار التنمية "، أو أحدثها مقولة " نحن بلد فقير قوى " أو الأكثرها خطورة وسمومة "أحنا مش لاقين نأكل". 

وبقدر ما كانت هذه الكلمات والعبارات تسعى لترسيخ حالة من اليقين المغشوش لدى المصريين بأننا غير قادرون على النمو الذاتي، والتنمية والنهوض، ومن ثم فنحن في حاجة ماسة "للمساعدة " و"العون " و"المنح"، و "القروض " سواء جاءت من الأشقاء الأقربين، أو الأصدقاء البعيدين، بقدر ما كانت ظواهر الثراء والغنى الفاحش ، ومظاهر الإنفاق السفيه من فئات اجتماعية محددة، أو من بعض أجهزة الدولة والمسئولين فيها ، تدفع المصريين دفعا إلى الشك في المقولات السابقة، والتساؤل العميق : 

  • إذا كنا فقراء حقا، وشحيحي الموارد والإمكانيات، فمن أين تأتى كل هذه الثروات، وكل هذا الإنفاق السفيه لدى الوزراء وكبار المسئولين  وبناء القصور والأبراج والمبان الشاهقة ؟

وقد ظل هذا التناقض الصارخ بين مقولات الخطاب الرسمي والحكومي من جهة، وطبيعة المشاهدات والممارسات الفجة والمكشوفة تضرب على الأوتار الحساسة في أعمق أعماق الوعى الباطني لدى القطاع الأوسع من المصريين وقواهم الحية. 

وهنا جوهر الأزمة النفسية والسلوكية التي يحياها المصريون، خاصة قطاعات الشباب والمحرومين منهم من فرص التعلم الجيد والتوظف والتشغيل. 

فما هى أوجه الحقيقة في هذا التناقض القائم منذ أكثر من ستين عاما على الأقل، وخصوصا منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في عام 1974 فصاعدا؟ 

يبدو للمحلل المدقق للوضع الاقتصادي المتأزم فى مصر منذ أكثر من خمسين عاما ، أننا بصدد مجموعة من الحقائق والتناقضات لعل من أبرزها الآتى: 

أولا : أن الاختلالات الهيكلية العميقة في الاقتصاد المصري قد انعكست سلبيا على خلق ظواهر من قبيل تفاقم العجز فى الموازنة العامة للدولة عاما بعد آخر، واتساع الفجوة المستمر فى ميزان المدفوعات المصرى، وخصوصا فى الميزان التجارى ( الصادرات والواردات) ، وهاتين الظاهرتين تعودان لتؤديا إلى تآكل دورى فى الاحتياطى النقدى بالبنك المركزى المصرى من ناحية، وبالتالى التدهور المستمر والمنتظم فى سعر صرف الجنيه المصرى بالنسبة للعملات الأجنبية وخصوصا الدولار الأمريكى من ناحية أخرى. 

 

ثانيا : أن السياسات والإجراءات التي أتبعت على مدى العقود الخمسة الماضية، ابتعدت عن إيجاد حلول لجوهر الخلل فى الهيكل الاقتصادي المصري خاصة في قطاعات الإنتاج السلعي مثل الزراعة والصناعة والكهرباء والطاقة ، وأهتمت أكثر بمعالجة الظواهر والأعراض ، ومن هنا انخفضت قدرتنا على أنتاج غذائنا من 75% فى المتوسط مطلع السبعينيات إلى ما دون ال50% فى المتوسط من معظم مصادرنا الغذائية ، وإن تفاوتت من مصدر إلى أخر ( القمح – الزيوت – اللحوم – الأعلاف .. الخ ) ، فأصبحنا حاليا نستورد 65% تقريبا من غذائنا من الخارج ، وكذلك جرت تحولات عميقة فى قطاع الصناعة ، وأصبحنا حاليا نستورد حوالى 60% من مستلزمات التشغيل الصناعى من الخارج .وهى كلها عوامل أثرت سلبيا على قدرتنا على الأحتفاظ بأاتياطى نقدى مناسب بالبنك المركزي، وكذلك على سعر متوازن لتبادل الجنيه المصرى مع العملات الأجنبية، وبالتالى على معدلات التضخم وارتفاع الأسعار محليا. 

ثالثا : كما ساهمت السياسات العامة التي أتبعتها الحكومات المصرية منذ عام 1974، واستسهال الاقتراض من الجهاز المصرى تارة ( طبع البنكنوت أو ما يسمى التمويل بالعجز ) قبل عام 1985، أو اللجوء إلى الإقتراض من خلال سندات الدين وأذون الخزانة ، وكذلك الإقتراض من الخارج إلى تعميق الأزمة ، فقد زاد الدين المحلى الإجمالى من 300 مليون جنيه فى مطلع السبعينات ، إلى 15.0 مليار جنيه فى أواخر عام 1981 ، وبحلول يناير من عام 2011 كان هذا الدين المحلى قد تجاوز 888 مليار جنيه ، وها هو الأن فى ديسمبر من عام 2022 يقترب من 6.0 تريليون جنيه . أما الدين الخارجى فقد زاد من 35.0 مليار دولار فى مطلع عام 2011 ، إلى ما يقارب 79.0 مليار دولار فى يونيه عام 2017 ، ثم بلغ فى نهاية فبراير عام 2018 إلى 83 مليار دولار ، ثم بلغ فى ديسمبر 2022  أكثر من 163.0 مليار دولار . 

وهكذا تجاوز نسبة الدين العام المصرى حوالى 135% من الناتج المحلى الإجمالي في الربع الأول من عام 2018 ، ولولا السحر الإحصائى statistical magic الذى يمارس من جانب السلطات الرسمية المصرية والأجهزة المتخصصة فى حساب مصفوفة الناتج المحلى الإجمالى لتجاوزت النسبة الحقيقية للدين العام إلى الناتج المحلى الاجمالى 150% . 

رابعا : وقد أدت هذه السياسة الاقتصادية والمالية المصرية طوال العقود الخمسة الماضية ، إلى تفاقم مرض عضال فى صلب الموازنة العامة ، إلا وهو زيادة المخصصات المالية المدرجة فى الموازنة لسداد فوائد هذا الدين ، بحيث زادت من 15% عام 1991/1992 ، إلى أكثر من 40% من إجمالي استخدامات الموازنة العامة للدولة عام 2017/2018 ،  ثم إلى أكثر من 50% عام 2021/2022 ، فأقتطعت بالتالى كميات مالية كان ينبغى أن توجه إلى قطاعات الخدمات الأساسية للشعب المصرى وخصوصا التعليم والصحة والإسكان والبيئة وغيرها . 

 

خامسا : وتوازى مع هذه السياسات المالية والاقتصادية ، تغيرات عميقة فى بنية المجتمع المصري وفئاته ، بحيث تخلقت طبقات، بدا فى كثير من الحالات أن مصالحها تكاد تتناقض مع المصالح الوطنية ، والقدرة على تطوير قطاعات الانتاج والتنمية الداخلية والذاتية ، وبناء اقتصاد وطني قائم على التوازن ، خذ مثلا عدد طبقة المستوردين  والوكلاء التجاريين المسجلين فى السجلات الرسمية المصرية ، فلم يكن عددهم فى عام 1994 يزيد على 40 ألف مستورد ، فإذا بنا بحلول عام 2015 يزيدون على 840 ألف مستورد من جميع الأصناف والأحجام ..!!

وكان معظمهم منفذا وبابا لموجة عاتية من الواردات غير الضرورية وتغذية النزوع الاستهلاكى لدى فئات إجتماعية عديدة ، مما زاد من إتساع الفجوة فى الميزان التجارى المصرى ( الصادرات والواردات ) التى زادت من أقل من 9.0 مليارات دولار فى عام 1991 إلى أن تجاوزت عام 2015 أكثر قليلا من 50.0 مليار دولار ، 

وها هى تقارب عام 2022 حوالى 70.0 مليار دولار .

وقد سهل تحالف رجال المال والأعمال ورجال الحكم والإدارة طوال الثلاثين عاما الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك ومن جاء بعده ، من نشوء قوى احتكارية هائلة داخل بنية الاقتصاد المصري، فتحكمت هذه القوى فى السوق المصرية، وحققت أرباحا هائلة دون سقف أو حدودا، كما ساهمت فى خلق أزمات فى كثير من الحالات ( الخبز – السكر – الدواجن – اللحوم – الأسماك – الحديد – الأسمنت وغيرها) ، بهدف تحريك الأسواق بما يناسب مصالحها ويعظم أرباحها.

سادسا : وقد صاحب كل هذا انتشار جماعات الفساد المقنن والمنظم فى معظم قطاعات المجتمع والدولة المصرية ، بدءا من الدروس الخصوصية في النظام التعليمي، إلى جماعات مصالح فى انهيار المنظومة الصحية المصرية وصناعات الدواء ، إلى تحالف رجال المال والأعمال مع رجال الحكم والإدارة  وكبار الجنرالات فى المؤسستين العسكرية والأمنية ( سوف نعالج هذا الموضوع فى دراسة تفصيلية قادمة )، فانتشرت ظواهر جديدة فى الإدارة الحكومية مثل الصناديق والحسابات الخاصة التي احتوت على عشرات المليارات من الجنيهات سنويا، فى ظاهرة غير مسبوقة فى النظم المالية المتحضرة، فحرمت الخزانة العامة والموازنة العامة من كميات مالية كبيرة ، وضاعت فرص توظيف أكثر كفاءة للموارد والإمكانيات. 

وهكذا ما بين سوء وضعف الكفاءة في إدارة الاقتصاد المصري من ناحية، وسيطرة جماعات المصالح الضارة وجماعات الفساد من ناحية ثانية ، وهيمنة "البورصجية" على عملية رسم وصنع السياسات الاقتصادية من ناحية ثالثة ، ضاعت فرص التنمية الحقيقية وأستبعد خبراء التخطيط والتنمية من المشهد العام ومن دوائر رسم السياسات العامة . 

والآن: إذا كان الأمر كذلك فما هي الفرص المتاحة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني والاستفادة من القدرات والإمكانيات الكامنة فيه؟ 

 

*****************