عبد الرحمن الداخل.. رفيق النبؤات

ذات مصر

  كان الفتى عبد الرحمن اليتيم، الذي ما لبثت والدته أن فارقته بعد وفاة الوالد، يلهو  وسط أقرانه وأبناء عمومته  بحديقة قصر الرصافة في دمشق، عاصمة الخلافة الأموية، حين ضمه مسلمة بن عبد الملك -الذي اشتهر بالتنجيم- إلى صدره حفاوة، قبل أن يُسِرّ إلى الخليفة هشام بن عبد الملك أنه الصبي الموعود، باعث ملك الأمويين. 

لم تكن هذه النبوءة الأولى التي أفصح عنها الأمير مسلمة إلى أخيه أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، فقد تنبأ زوال ملك الأمويين، بعدما شاهد في طالعه أمراء الأمويين غارقين في بحر من الدم، تهوي عليهم السيوف بلا رحمة. غير أن شابًّا فتيًّا  قُدِّر له أن ينجو، ووثب إلى الضفة الأخرى من النهر ليفر إلى بلاد المغرب، ويعيد المجد المفقود لبني أمية؛ ويؤسس دولة جديدة تستمر لعدة قرون. 

لم تمض سنوات حتى اضطرب ملك بني أمية، فصدقت نبوءة مسلمة بن عبد الملك، وعصفت الثورات بأركان الدولة العتية، فلم يملك الخليفة الأموي مروان الجعدي، على بأسه وقوته، نجاةً بالحكم من ثورة العباسيين التي ظلت لسنوات تضطرم دون أن يرى أحد لمحركها أثرًا، حتى أفاقت على ثورة أبي مسلم الخراساني في خراسان، فأحكم قبضته على حكمها قبل أن يفد إلى الكوفة ليضع أول خلفاء بني العباس، أبا العباس السفاح، على كرسيّ الخلافة. 

لم ينسَ العباسيون ثاراتهم تجاه بني أمية، وقد أطاحوا برؤوس 80 أو أكثر من أمراء الأمويين بعد أن أمّنوهم على أرواحهم، لكن عيون عبد الله بن علي العباسي، الذي أراد الانتقام من بني أمية فنبش قبور خلفائهم وأمرائهم المتوفين ليصلبها، تفقدوا رأس عبد الرحمن بن معاوية، أشجع أمراء بني أمية، فلم يجدوه. 

كان عبد الرحمن موضع عناية الجد هشام بن عبد الملك، الذي بات يطوف به بين شجيرات بساتين قصر الرصافة العظيم في دمشق، ويقربه من بلاط حكمه وديوان سلطانه، ويوصي خواصَّه بالعناية به في مرانه على فنون الحرب والقتال، وهو ما لا يخفى على الأمويين وعلى عبد الله بن علي بن العباس الذي يُجِدّ في طلبه. 

أما عبد الرحمن فكان من الدهاء بحيث لا تنطلي عليه خدع تأمين العباسيين له على حياته، ومن البساطة والدماثة على عكس أكثر أبناء عمومته، بما يسهل عليه مهمة الاختباء بين العامة دون أن يفضحه صلفه أو يكشفه غروره، ولم يكن يهدف إلى أكثر من النجاة بحياته. أما نبوءات المجد والملك العظيم، فتبدو مسألة هزليه وساخرة أمام وقع السيوف المسلطة على رقبته. 

لكن ها هي نبوءة الجد مسلمة بن عبد الملك تتحقق من جديد، عندما يخوض عبد الرحمن نهر الفرات عابرًا نحو الضفة الأخرى فارًّا من مذابح العباسيين، تلك التي كان أخوه الأصغر يحيى آخر ضحاياها بعدما نُحِر أمام ناظريه. 

لم يعد لعبد الرحمن من رفاق في رحلة فراره سوى مولاه بدر، الخبير بطبائع البشر ومفاوز الطريق، وها هما يجوبان صحارى الشام وصولاً إلى مصر، فنزلا في ضيافة عبد الرحمن بن حبيب الفهري، الفارّ من الأندلس، لكنه يحلم بالعودة إليها ليقيم ملك آبائه. وفي ضيافته تتجدد النبوءة، فلقد كان في بلاط الفهري يهودي منجِّم أخبره عن ذلك الأمير الأموي الشاب النحيف ذي الضفيرتين الذي سيعيد ملك بني أمية في الأندلس، فما إن وقعت عليه عيناه حتى عرف أنه صاحب النبوءة، فقرر الفتك به. 

تمثال عبدالرحمن الداخل

لماذا الإصرار على الفتك بالفتى الذي لم ينعم حتى برحابة وخُيلاء الملك، فأضحى طريدًا من قدَرِه مُساقًا إلى قدَرِه وهو لا يملك من الأمر شيئًا؟ لكنه الآن سيستجيب لما يحاصره من خرافات، فإن كان لا بد من فراره، سيجعله باتجاه الغرب علّه يجد النصرة عند أخواله البربر في صحارى المغرب العربي، فهو ليس  يفتقد القدرة على تحمل شظف العيش وخشونة حياة البادية. 

وهل يملك من يفر بحياته خيار الرفاهية؟ لكنه سيجد عند هؤلاء الأمان الذي افتقده في كنف الأمويين. سيجده عند أخواله. وفي كنف أمه "راح"، تلك التي فارقته منذ وفاة والدته، ليَبقى في حمايتهم ومنَعَةٍ منهم لبعض الوقت. 

ثم يجده عند "ونسوس" البطل المغوار زعيم قبيلة (مغيلة) التي احتمى بخيامها لأشهر عدة، و"تكفات" زوجته  البربرية العفوية التي لا تخلو من ملاحة وفتنة وبهاء، وقد انجذبت بكل جوارحها ناحية الأمير الفارّ، متمنية لو تهنأ بوُدّه للحظات مسروقة من الزمن الطريد، مفدية حياته بروحها التي ستنسحب منها برحيله على أية حال. 

إنها هي التي خبأته بين أضلعها في هندامها الفضفاض، حين أوشك جنود الفهري أن يفتكوا به. لكنها سيدة متزوجة ببطل مغوار يقيم في كنفه وتحت حمايته. وهل يكون جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

عبدالرحمن الداخل - صورة تعبيرية

 أما آن للبال أن يصفو، وللنفس أن تهدأ؟ لكنه الفرار قد كتب عليه لا يملك لتغييره من سبيل. ليسكن هذه المرة إلى تلك البلدة الجميلة وارفة الظل، عبقة الأنسام كحديقة جده في قصر الرصافة، تلك التي يتناهى إلى مسامعه أنباء ما يجرى بين أمرائها، عربها وبربرها، من فتن وصراعات (الأندلس). 

فهل تهدأ بقدومه وتصفو بوفوده؟ وما الذي ينتظره هناك؟ أهو الموت المحقق الجاد في مطاردته في المشرق الإسلامي، أم الملك المنبعث من بين الركام والآجام؟ ليس للأمير أن يختبر هذا بنفسه، وإنما يصر مولاه بدر على أن يسبقه فيستطلع الرؤى ويمهد الطريق، ثم يعود مستبشرًا بما عقد من اتفاقات وحصّل من عهود، ليصحب رفيقه عبد الرحمن الذي سيُعرف بـ"الداخل" إلى بلاد الأندلس. 

عند هذا الحد لم يكن للشاب الذي أجهده الخوف والمطاردة إلا أن يصدق النبوءة التي رافقته وأوغلت عليه الصدور، وأن يسعى لتحقيقها. 

وما هي إلا سنوات قضاها عبد الرحمن ورفيقه بدر في الحروب والقتال وإخماد الفتن والثورات، حتى دانت له بلاد الأندلس، وأقام مُلكًا مترامي الأطراف مد به في عمر الدولة الأموية لقرون أخرى، وقد أرسل في طلب ما بقي من إخوته وأبناء عمومته، فأفسح لهم، وأقطعهم الإمارات، وأعاضهم عن الملك الزائل. 

الأندلس قديمًا - صورة تعبيرية

 كان عبد الرحمن الذي وصل إلى الأندلس طريدًا شريدًا أكثرَ مَن يقدّر الوفاء والإخلاص، ويمقت الخيانة والغدر. وإن اضطر في بداية أمره إلى ممارستهما حتى ينجح في توحيد تلك الأخلاط المتباينة من البشر وأن يقيم دولته، فقد ظلّا غريبين عن طبائعه يبغض من يأتيهما أشد البغض، ويعاقب من يستحلهما أشد العقوبة،حتى ارتسمت له في مخيلة التاريخ صورة السفاح غليظ القلب، وهو الضحية رغم بطشه. 

فعلى الرغم من جمعه شتات أهله، وتولية أبناء عمومته العمارة، فقد ظلوا على مدار سنوات يقيمون الدسائس ويفجرون المؤمرات، فلم يجد بدًّا من أن يقتل ابن أخيه (المغيرة بن الوليد بن معاوية)، وابن عمه (عبد السلام اليزيدي)، (وعبد الله ابن أخيه إبان)، لكن أكثر ما آلم عبد الرحمن هو ما نما إليه من نقمة رفيق رحلة الفرار والخوف مولاه (بدر) الذي أكرمه "الداخل" بالإمارة والأموال الطائلة، فلم يزل يندب حظه ناقمًا على عبد الرحمن الداخل حتى انفجرت غضبة الخليفة فجرده من كل شيء، وإن لم يسلبه حياته. 

لم يجد عبد الرحمن في الملك راحته بعد 33 سنة قضاها في توحيد دولته وإقامة خلافته، فعاش حزينًا مهمومًا أمْيَل إلى الوحدة، لم يُسَرِّ عنه ما قضاه من أوقات في بناء معجزاته المعمارية كقصر الرصافة، ومسجد قرطبة الكبيرن، ولا شاعريته التي أطلقها في الكثير من أبيات الشعر،  ولم يطل به العمر حتى  يشفي غليله بما رجاه من انتقام إزاء العباسيين، فمضى تَحضُرُه مرارة النهايات كما البدايات.