محمد حماد يكتب: الديمقراطية مشروع وطني بامتياز

ذات مصر

أول ما يترسخ لديك حين تمعن النظر في تاريخنا الحديث ظاهرة ارتباط قضيتي الاستقلال والديمقراطية ارتباطًا يكاد يكون عضويًا، لا يكاد تنفك عروته طوال مراحل النضال المصري في اعقاب نشأة الدولة الحديثة في مصر.

كانت ثورة العرابيين هي النموذج الأوضح في التعبير عن هذه الظاهرة، ومثلت ذروة هذا الارتباط، وقد وضعت الأساس للربط بين النضال الوطني من أجل الانعتاق من النفوذ الأجنبي ورفض التدخلات الأجنبية وبين تحويل حكم مصر إلى نظام يسمح بأوسع مشاركة وطنية ويؤدي إلى تقليص دور الحاكم الفرد المنفرد بتقرير أمور البلاد والعباد ويحد من انفراد الحاكم بإقرار قوانينها وسياستها وماليتها والتلاعب بمصائرها بدون حسيب أو رقيب.

حين حاصر الأسطول البريطاني السواحل المصرية، ومع أول طلقة في معركة احتلال مصر، لم تكن التحصينات المصرية على شاطئ الإسكندرية هي الهدف، كان الدستور الأول في مصر هو الهدف الأول، وكانت الحياة النيابية الناشئة هي الهدف الثاني، وكانت مصر الساعية إلى الديمقراطية هي الهدف الشامل، وحين سقطت مصر تحت الاحتلال في 1882 سقطت في الوقت نفسه أول التجارب الدستورية في تاريخها.

**

وجدت كل من إنجلترا وفرنسا في الديون الكبيرة التي تورط فيها الخديوي إسماعيل فرصة ذهبية للتدخل في شئون مصر الداخلية والسيطرة على اقتصادها.

وحينها وجد الخديوي نفسه محاصرًا بالتدخل الإنجليزي الفرنسي المباشر في أخص شئون الحكم، حاصروا قراراته، وطالبوه بألا يفعل شيئًا إلا باطلاعهم ومعرفتهم، وأدرك أن حكمه أصبح صوريًا فلجأ إلى فكرة الاحتماء بالمصريين، وقرر تشكيل مجلس شورى النواب يحتمي به من تسلط الأجانب على القرار المصري، واستمرت المعركة الخفية بينه وبين النفوذ الأجنبي المتزايد في مصر وانتهى الأمر بخلعه من الحكم.

ولكن فكرة مشاركة الشعب في حكم نفسه كانت قد ترسخت، وبدا أن البلاد تخوض محاولتها الأولى والأهم في التحول إلى الديمقراطية، وكانت آخر دورة لمجلس شورى النواب مبشرة بحياة نيابية ناشئة.

**

 وبدا أن مصر في طريقها للحد من سلطة الحكم الفردي المطلق، حيث تجمعت كافة الصلاحيات في يد شخص واحد وبدأت تتطلع إلى نظام فيه مؤسسات أخرى تتقاسم مع الحاكم مسئولياته، فصار لمصر مجلساً للنواب بصلاحيات محدودة يزاحم الخديوي في سلطته ويشاركه في إدارة الدولة المصرية، كما تأسست في مصر نظارة تُشارك الخديوي في تسيير دفة البلاد وتُشرف على إدارة الهيئات والمؤسسات الحكومية وتتمتع بقدر من الاستقلالية عن الخديوي.

وجاء دستور 1882 كتتويج لهذه التحولات الكبرى، وحصلت الأمة على أول عقد اجتماعي وسياسي بين حاكم مصر وبين الشعب، فأسس لنظام برلماني، وحقق توازنًا نسبيًا بين السلطات، وفتح الباب للرقابة الشعبية على عمل الدولة المصرية.

وفي هذه اللحظة رأت الدول الأجنبية أن تقطع على مصر الطريق إلى إنشاء نظام سياسي يمكنها من امتلاك زمام أمرها وأن تستقل بإرادتها بما يسمح للمصرين أن يتصدوا لنفوذ هذه القوى الأوروبية ويهدد مصالحها الاستعمارية في مصر، فبادرت إنجلترا إلى احتلال مصر.

**

كان المأمول أن يتغير التاريخ السياسي إذا قدر للتجربة الديمقراطية الناشئة أن تأخذ فرصتها كاملة في أن تصبح مصر في طليعة الدول التي تقيم نظامًا برلمانيًا دستوريًا، وجاء الاحتلال البريطاني ليقضي على هذا الحلم الوليد.

بادر الاحتلال فورًا إلى إلغاء الدستور، وحل مجلس النواب بأمرٍ عالٍ دفعة واحدة. واستدعى المحتلون اللورد «دوفرين» السفير البريطاني في الآستانة ليباشر في وضع تقرير رسمت بمقتضاه قواعد السيطرة على مصر.

 أبرز هذه القواعد تمثلت في أمرين:

الأول: ألا يكون لمصر في المستقبل جيش كبير، واقترح «دوفرين» بناء قوة صغيرة تكفي لمواجهة ما قد يظهر من «المتعصبين» الذين يندفع الأهالي وراءهم محدثين هياجًا دينيًا.

الثاني: عدم الأخذ بالنظام النيابي، مؤكدًا على أنه «ليس هناك من يمكن أن يدعى أن مصر قد وصلت إلى درجة من الوعي والنضج، يمكن معها قيام حكومة ديمقراطية صحيحة». 

وأكد على عدم جدارة المصريين وعدم أهليتهم للديمقراطية، «لأن استبداد الشرق لا يميت الحرية فقط، ولكن الأرض غير قابلة أصلًا لإنباتها، مشيرًا إلى أن المجلس النيابي الذي جرى حله لم يكن يمثل السواد الأعظم من الشعب».!

وبالفعل قام الاحتلال باستصدار أمر من الخديوي توفيق بحل الجيش المصري وتسريح أفراده، وشرعت سلطات الاحتلال في تكوين جيش صغير بقيادة بريطانية خالصة، وأعلنت إنجلترا أنها ستضع لمصر نظامًا ًخاصًا يتمشى مع «عدم أهلية المصريين» للحكم النيابي.

**

حل الجيش وحل البرلمان، في ضربة واحدة كرس الاحتلال وجوده في مصر الذي استمر قرابة السبعين سنة.

منذ تلك اللحظة ارتبطت القضيتان برباط لا ينفك، القضية الوطنية، وقضية الديمقراطية، حتى صارت كل واحدة منهما شرطًا لتحقق الأخرى، وضمانًا لصونها.

منذ البدايات الأولى لاحتلال مصر أدركت الحركة الوطنية المصرية أن الديمقراطية مشروع وطني بامتياز، فربطت بين مقاومة الاحتلال، وبين مقاومة الاستبداد، بيم المطالبة بالجلاء وبين المطالبة بالدستور.

وقد وصل الوعي الوطني بهذا الارتباط إلى ذروته حين خرجت ملايينه في مارس 1919 ثائرة كالبحر الهادر في مواجهة حاسمة مع الاحتلال والاستبداد في واحدة من أكبر وأعظم ثورات الشعب المصري.

استطاع النضال الوطني عبر ما يزيد على أربعين سنة أن يحقق انجازًا كبيرًا على الصعيدين: الاستقلال والديمقراطية، ولكن ظل هذا الإنجاز منقوصًا بحكم التحالف بين القصرين، قصر الدوبارة حيث يقبع المعتمد البريطاني في قلب القاهرة، وقصر عابدن حيث يحتل الاستبداد قمة السلطة في مصر.

**

مع ثورة يوليو تجددت الآمال في إعادة اللحمة بين القضيتين، قضية الاستقلال الوطني، وتوسيع المشاركة الشعبية في صناعة القرار الوطني على أرض مصر، وكان من حسن الطالع أن تضع الثورة القضية الاجتماعية على رأس أولياتها منذ شهورها الأولى.

وربطت ثورة يوليه في نسختها الناصرية بين التحول إلى الاشتراطية والتحول إلى الديمقراطية، ورأت أن هناك اتصالًا عضويًا بين الاشتراكية والديمقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديمقراطية الاقتصاد كما أن الديمقراطية هي اشتراكية السياسة.

ولا ينكر أي منصف ومدقق في تاريخنا المعاصر أن عبد الناصر قاد تجربة ثرية تحقق فيها الكثير من الإنجازات على صعيد استقلال القرار الوطني، والكثير من الاختراقات على صعيد العدالة الاجتماعية.

ولا ينكر إلا مكابر أن مقتل التجربة الناصرية تمثل في سلطويتها، وعبد الناصر نفسه اعترف بأن خطأ التجربة الأبرز هو النظام السياسي الذي أقامته فوق الكثير من الإجراءات الاستثنائية التي نفذت منها القوى المضادة للثورة لتقضي على كل أثرٍ من إنجازاتها.

**

بعد سقوط لتجربة الناصرية شهدنا نسخًا من جمهوريات يوليو ترفع شعارات الديمقراطية ولكنها مارست أبشع أنواع الديكتاتورية، ديكتاتورية الديمقراطية ذات الأنياب والمخالب، ديمقراطية دراكولا في ثياب مزركشة.

ابتعث الأمل في عودة مصر إلى المسار الوطني المتكامل حين تفجرت ثورة يناير 2011، وكان أجمل ما فيها هذا الوعي الرفيع الذي ربط بين الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ثم جاءت تطورات الأحداث ومجريات الحوادث لتعيد الربط بين المشروع الوطني ثلاثي الأبعاد: استقلال القرار الوطني، وقضية الديمقراطية، وإقامة العدالة الاجتماعية.

ثبت باليقين أمام كل المصريين أن الديكتاتورية تخصم من وطنية أي نظام سياسي، والظلم الاجتماعي يقارب جريمة خيانة الغالبية العظمى من المواطنين، وتبعية القرار الوطني للقوى الخارجية هدم للاستقلال الوطني.

التجربة أثبتت ـ أيضًا ـ أن النظام الوطني هو الذي يتبنى بالضرورة مشروعًا يجمع بين الاستقلال الوطني والديمقراطية الحقيقية، والعدالة الاجتماعية، بغياب أحدها يفقد أي نظام جزءًا من وطنيته، فلا استقلال وطني في ظل الاستبداد، ولا ديمقراطية بدون عدالة اجتماعية، كلها فروع لشجرة واحدة أساسها وجذرها قائم على نظام وطني لا يفرق بينها جميعًا.