محمود عبدالحكيم يكتب: قراءة في عملية الشهيد محمد صلاح

ذات مصر

وفقًا للمصادر العبرية وُجد أول قتيلين في حوالي الثامنة صباحاً، نقطة حراسة حدود تعمل من التاسعة ليلاً للتاسعة صباحاً، بعد وقت من عدم استجابتها للمتابعة اللاسلكية. اللافت طول الوقت الذي استغرقه الاشتباك، امتد من الساعات الأولى من صباح السبت إلى الظهر، وطول المسافة بين مكان الاشتباك ومعبر العوجة على الحدود، نحو 50 ك.م، الواقع مكان ارتكاز الجندي المصري قربه وفق ما نُقل من أخبار، منها تصريح المتحدّث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي أنه دخل الأراضي الفلسطينية من "منفذ طوارئ" بالسياج الأمني المراقَب بالاستشعار الإلكتروني، وليس ملحقًا بالمعبر (المشرف محيطه على وسط وجنوب صحراء النقب) على وجه التحديد.

إذا وضعنا متوسط سرعة عنصر مدرّب بدنيًا تحت سن الثلاثين، بثقل معدّات متوسط، بمقدار 4-5 ك.م في الساعة، نرى أن المنفّذ يحتاج إلى 10 أو 8 ساعات للوصول من محيط المعبر إلى المنطقة محلّ الاشتباك، بين جبل عريف شمالًا وجبل ساجي جنوبًا، في منتصف المسافة تقريبًا بين أم الرشراش (إيلات بالعبرية) وساحل المتوسط (1)، ما يجعل التحرّك برمته عرضة للاشتباه والانكشاف في الجانب المصري تحديدًا، الذي غالباً ما سلك المنفّذ طريقه فيه لا في الداخل الفلسطيني. من هنا يبدو أن نقطة خدمته كانت إلى الجنوب من المعبر، وليست في المعبر أو محيطه المباشر، وأقرب كثيرًا إلى منطقة جبال النقب، مع إشرافها المباشر أفقيًا على السياج الأمني، أي خطّ الحدود ذاته. 

الزمان

يصعب أن يكون توقيت تنفيذ أول شقّ من العملية صدفة، أو أن يكون المخطَط العام لخطها الزمني كذلك. أولًا سنضع ما يلي بالاعتبار: توقيت شروق الشمس في المنطقة، من 5:30 إلى 5:40 ص. وما قاله المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي إن الجنديين أبلغا نحو الرابعة والنصف عن تحرّكات ناحية السياج وصوت إطلاق نار، في آخر تواصل قبل توجههما لاستبيان الأمر، وإن الضابط المسئول وجد الجثّتين وسلاحهما بكامل ذخيرته (لم حوالي الثامنة، وقد قُدر وقت مقتلهم بالسادسة أو السابعة. وأخيرًا سنفترض أن تردّد المتابعة اللاسلكية للدورية، طبقًا لحساسية المنطقة ــ وبالتالي مقدار سرعة الاستجابة حال غياب الردّ، كل ساعة على أقل تقدير، بسرعة استجابة عالية. 

نرى أن الشهيد غالباً انطلق قبل الشروق بنحو ساعتين ونصف، في درجة ظلام دامس تكفل عدم انكشافه وسهولة اختراقه لخط الحدود ــ السياج الأمني، وبلَغ نقطة مهاجمة هدفه مع أول ضوء بالمعنى التقني، ما قد يفسر - مع عنصر المباغتة - عدم إطلاق أول قتيلين أي رصاص من أسلحتهما، إذ غالبًا كانا مكشوفَين له في درجة إضاءة كافية سمحت بدقّة وشدّة الاقتراب دون إشعارهما، ثم التنفيذ بسرعة لم تسمح باستخدام أسلحتهما، ما عوّض تقادم بندقيته واستحالة استخدامها للقنص البعيد في مقابل تطوّر سلاح المهاجَمَين. ويشير كلام المتحدث عن اكتشاف الجثتين تفصلهما بضعة أمتار، إن صحّ وإن كانا بالأساس في نقطتيّ ارتكاز متباعدتين (برجين)، إن الواقعة كانت استدراجًا سمح له بفصلهما كل في ناحية، ثم استهدافهما في الخلاء من مسافة متوسطة تكافئ قدرات بندقيته، بسرعة كبيرة. ولا يختلف السيناريو كثيرًا إن كذب ما يتعلّق بموقع ووضع اكتشاف الجثتين (وتوجه الجنديين للاستطلاع)، وأن الهجوم وقع في نقطة حراسة واحدة قرب السياج مثلاً ولم يرد الإسرائيليون إعلان درجة الإخفاق تلك، الفارق الوحيد هنا أسلوب التنفيذ، يصبح اقتحامًا مباغتًا لمكان، وتبقى عوامل مثل الإضاءة الكافية وسرعة إطلاق نار العالية التي لم تسمح بالرد.

أفاد التوقيت اللاحق الشهيد، أي ضوء الشمس، في اختيار موقع، وتشكيل، النقطة الحصينة البدائية التي أقامها باستخدام التكوينات الصخرية الطبيعية ولأحجار الكبيرة، وفق الرواية الرسمية الإسرائيلية، وفي كشفه، من موقع دفاعي وفي وضح النهار، الدعم الذي أُرسِل وبالتالي استهدافه والاشتباك معه لفترة غير قصيرة، حدّ قتْل عنصر وإصابة آخر قضى لاحقًا، لترتفع الحصيلة إلى 4 قتلى، وهو ما لم يكن ليحدث (بهذا الحجم على الأقل) لو كان الاشتباك ليلًا، حين يقع المنفّذ، وسط الظلام، فريسة تكنولوجيا جيش الاحتلال التي يعلم الجميع تطوّرها. هذا كله يجعل محصلّة الخط الزمني للواقعة استثمارًا لآخر وقت الليل في تنفيذ تحرّك، ولغبش الدقائق الأولى للشروق لتنفيذ استهداف آمن عن بعد أو قرب، ثم الضحى لاتخاذ وضع حصين وإطلاق اشتباك. ويبدو أن استخدام الطائرة المسيّرة المتاحة وقتها لم يفد كثيرًا، كما تشير تلك الخسائر، مع الطبيعة الجبلية الخاصة للمكان وتحديدًا المربّع الأكبر للعملية، منطقة جبال ومرتفعات النقب، إذ رغم مواتاة ظرف الإضاءة والرؤية لعمل المسيّرة يبرز عامل الطبوغرافيا كذلك.

المكان

لا يمكن استقراء تخطيط قائم على معرفة جغرافية دقيقة، من الناحية التنفيذية والتفاصيل الفنية، كما يشير الشقّ الثاني من العملية الذي لم يشهد توغلًا مخططاً، أو استهدافًا لنقطة ثانية بعينها مثلًا. وبمقارنة سريعة بعملية الجندي أيمن حسن، التي قُتل فيها 21 جنديًا إسرائيليًا وشملت استهداف ركبَين عسكريين بتوقيت معلوم ثم تنفيذ انسحاب آمن، نراها قامت على دراسة ومتابعة أكثر دقّة، للإحداثيات والتوقيت، وبالتالي تصوّر أكثر إحكامًا جعل منفّذ عملية بهذا الحجم ينسحب بإصابة طفيفة، في مقابل الجندي محمد صلاح الذي هاجم أقرب نقطة حدودية ولم يضع هدفًا بعدها (ولا حاول العودة إلى مصر)، رغم قرب الموقع نسبيًا من أهداف محتملة كانت مهاجمة أحدهما لتعظّم أثر العملية، استراتيجيًا ومعنويًا على الأقل، قاعدة جبل عريف العسكرية ومخزن رامون للذخيرة والمتفجرات وبلدة مِتسبيه رامون في قلب صحراء النقب الجنوبية.

وفق الإحداثيات السابق ذكرها، يقع مسرح العملية - بشقّيها - في النقب الأوسط، أي منطقة جبال (مرتفعات) النقب التي تضمّ أعلى نقطة فوق سطح البحر في فلسطين المحتلّة، جبل رأس الرمّان (رامون بالعبرية) وارتفاعه 1000 متر. يمثّل الجبل، الذي وقعت العملية إلى جنوبه الغربي، رأسًا بالمعنى الحرفي لوادي (منخفض) الرمّان، وأعلى أجزاء النقب، مرتبطًا بكتلة هضبية جبلية أعلى أقسامها الغربي ــ قرب الحدود الفلسطينية المصرية، وتنتشر الجروف الصخرية على حواف الهضاب والمرتفعات الأصغر وجوانب الأودية، مع غطاء من الأحجار والشظايا الصخرية، وتربة شظايا صخرية وأنقاض صغيرة أسفل الجبال والهضاب. وحواف الوادي، ومنها الجنوبية الغربية التي شهدت العملية، المنتشرة بها ظاهرتا السنام والالتواء الجيولوجيتين وتراكيبهما، ناتج حركات تكتونية شكّلت "طيّة" كبيرة ذات محور شمالي شرقي – جنوبي غربي، محدب أو سنام الرمّان، وتشكّل بنية التوائية ممتدة طولها 70 ك.م تضمّ، رغم ارتفاعها، تضاريس منخفضة في قلب الهضاب بفعل عوامل الكحت والتعرية.

يبدو أن الطبيعة شديدة الوعورة تلك أسهمت في إحكام تحصّن الشهيد، في مواجهة دعم عسكري أُرسل على عجل، ويشير عجز المسيّرة عن تصفيته وحسم الموقف بسرعة إلى استخدامه تجاويف طبيعية في الهضاب أو أعلاها، أو على حواف وفي محيط الجبل، ما منحه أفضلية دفاعية رأينا أثرها في خسائر قوة الدعم التي أُرسلت مصحوبة بمسيّرة لتهاجم فردًا واحدًا بسلاح خفيف.
* المصادر

  1. بي بي سي 3 يونيو 2023
  2. الموسوعة الفلسطينية www.palestinapedia.net – أرشيف الإنترنت